كنا صغارا، نحمل طموحات نبيلة لخدمة الوطن والمواطن، وحماية أمنه واستقراره، حينها بدا لنا أن أفضل وسيلة لذلك، هي أن نصبح من رجال "الشرطة" حين نكبر، لقد كانت صورتهم في مخيلتنا مؤخوذة من "الرسوم المتحركة" و"الأفلام"، شاهدنا على شاشة التليفاز أنهم الملاذ الأول للمظلومين، حيث يوفرون لهم الحماية والأمان.
مرت السنوات، وبدأت نظرتنا لهم تتغير شيئا فشيئا، بعد أن رأيناهم يظلمون الفقراء والمساكين، ويميلون لذوي المال والجاه، هنا سقط الحلم البريء، ودب الخوف إلى القلوب الصغيرة، فصار رجال الشرطة كالبعبع في أعيننا، ترتعد الفرائس لسماع أسمائهم.
أتذكر بأن ابن "الشرطي" الذي يدرس معنا يحظى بمكانة خاصة، ليس حبا فيه، ولكن خوفا من أبيه، وخوفا من أن يلحقنا الظلم الذي لحق البعض ممن أبصرت أعيننا، هكذا بدأت تتغير الصورة تدريجيا، ومع توسع دائرة المعارف، صرنا نعي بعض الذي يحدث حولنا، لرسم الصورة الحقيقية للواقع.
مصطلح "الأمن" يحمل من المعاني والدلالات الكثير؛ الاطمئنان، والأمان، والاستقرار وغير ذلك، لكن رجاله لا يحملون من هذه الكلمات سوى نقائضها.
المواطن المغربي يدرك جيدا عما أتحدث، فقد عاش بعض الذي أدندن به، يمكنني الجزم بأن كل مواطن يحمل في مخيلته قصة عن مفوضية الشرطة، حين ذهب إليها للحصول على البطاقة الوطنية أو أي شهادة أخرى، لابد أنه يتذكر بأن أحد رجال "الأمن" قد صرخ في وجهه أو تماطل في خدمته، أو لم يعره أي اهتمام، وربما شاهد شخصا يلقى من المعاملة ما يحزن القلب ويبكي العين.
حين تسأل أي مواطن مغربي عن سبب تجوال "سيارة الشرطة" في المدينة، فلا تنتظر أن يقول لك إنهم يتفقدون الأوضاع لحمايتنا، أو أنهم يسهرون على راحتنا، بل سيقول ودون تردد، هم يبحثون عن "مخالفة"، يسجلونها، أو يغضون الطرف عنها ببضع دراهم، حتى الشرطة الطرقية، وأثناء مراقبتهم للسرعة، منهم من يتخفى كي لا يراه السائق، فينقض عليه فجأة، تماما كما يتربص المفترس بالفريسة.
فضائح رجال الشرطة المغربية لا تخفى على أحد، ومنها ما هو موثق بأشرطة فيديو، وهي تملأ "اليوتوب"، كما أن الجرائد الورقية والإليكترونية تعج بأخبارهم، وقبل هذا وذاك، فهي كما سبق لي أن ذكرت تملأ الواقع اليومي.
بعد كل هذا، وحين صار إسم "الأمن"، شعار يتغنى به فقط، من الطبيعي أن تنتشر الجرائم في المدن المغربية، فلا عجب في أن يتجول من يعرفون "بالمشرملين" بالسيوف في واضحة النهار، ويزداد عدد ضحاياهم. رغم المطالب الشعبية بتوفيرالأمن، والتي تجسدت بالأخص في حملة "زيرو كريساج" فلحد الساعة لم نر أي تدخل جاد ومسؤول لإيقاف هذه المهزلة.
لطالما خرج علينا رجال الحموشي بأخبار "تفكيك الخلايا الإرهابية"، من الجيد حماية البلاد من أي محاولات كهذه، لكن ألا يبعث هذا الشك في النفوس، كيف لمن يفكك الخليا الإرهابية في لحظات، أن يعجز عن كشف مسرب امتحانات الباكالورية في سنوات، وكيف لا يستطيع حماية المواطن من الجرائم اليومية، هذا دون ذكر كبار اللصوص، من "خدام الدولة" وغيرهم.
مما يحيلنا على الدور الحقيقي لرجال "الأمن"، هو تلك "التعليمات الفوقية" التي تأمر بتهديد وضرب، أواعتقال مواطنين ممن احتجوا مطالبين بحق من حقوقهم المسلوبة، من هنا يمكننا الوصول إلى خلاصة ما كتبت، وهي أن هذا الجهاز، أداة مسخرة لتوفير الأمن "للدولة" ولخدامها، أما حماية الوطن والمواطن، فهي مهمة ثانوية يلتفت لها أحيانا، ويغض الطرف عنها أحيانا أخرى، والأمر نفسه ينطبق على باقي الدول "العربية".