بعد فشل محاولة الانقلاب في تركيا وثبوت ضلوع "فتح الله غولن" وراءها، طلب الرئيس التركي "رجب طيب أوردوغان"، من واشنطن تسليمه المتهم، للحفاظ على العلاقة بين البلدين، بالرغم من أنه ليست هناك معلومة واضحة تؤكد وقوف "بلاد العم سام" وراء المحاولة، لكن بعض المحللين والمراقبين ذهبوا لذلك باعتماد تصريحات أثناء وبعد الحادثة، فإذا كان ذلك صحيحا هل يمكن لمن دبر الانقلاب أن يسلم من نفذه ؟ وفي حال لم تسلمه، ماذا عسا تركيا أن تفعل ؟ وهل يعقل أن تتغاضى تركيا عن هذا ؟ وما مدا تأثير هذا على العلاقة بين البلدين ؟
أدت القوة التكنلوجية والعسكرية للولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى التحديات المشتركة بينها وبين تركيا إلى نشوء تحالف بين البلدين منذ انضمام الأتراك إلى "حلف شمال الأطلسي" سنة 1952، ورغم هذا فقد شهد التقارب بينهما بعض الأزمات الدبلوماسية، لكن لم تؤثر على طبيعة العلاقات الإستراتيجية بين البلدين.
في سنة 2002 وصل حزب العدالة والتنمية للحكم، وكانت هذه نقطة تحول نوعية في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، حيث بدأت تتعامل تركيا وفق مصالحها الخاصة، ومنذ تلك السنة إلى الآن، برزت عدة نقط خلافية، لكن تقاطع المصالح ساهم في تجاوزها دون أن تحدث أي تأثير، إلا أن ما حدث "ليلة الجمعة 15 يوليوز"، يستحيل ألا يؤثر، إلا إذا كانت الحكومة تغلب مصالحها الخاصة على مصالح أمن تركيا القومي.
يمكن للخلافات المتعلق بالقضايا الإقليمية أو الدولية ألا تؤثر على العلاقات التركية الأمريكية، لكن لا يمكن لخلاف على قضية تتعلق بالأمن القومي لتركيا مثل "محاولة انقلاب على الديمقراطية" أن تبقي العلاقات على حالها، وواشنطن تعلم هذا جيدا، وقد ظهر ذلك عبر "دعمها للمؤسسات المنتخبة" حسب تصريح للرئيس الأمريكي، لكن عدم تسليم المتورط الأول في المحاولة قد يعد نقطة قطع العلاقات بين البلدين، باعتباره دفاعا عن "إرهابي" كما سماه "أوردوغان"، وقد صرح وزيرالخارجية التركي "مولود تشاووش أوغلو" بذلك حيث قال أن "علاقة أنقرة بواشنطن ستتأثر في حال عدم تسليمها غولن".
تركيا قدمت الأدلة اللازمة لواشنطن بحيث لا يمكنها التبرير بعدها، لكن بمقدورها التعامل مع هذا بدأ بتأخير القضية ما أمكن، خصوصا وأن أمريكا مقبلة على الانتخابات الرئاسية، ولحساسية هذا الأمر، فلربما لن يتمكن رئيس سيغادر البيت الأبيض بعد أشهر من الإقدام عليه، وسيبقى على حاله إلى ما بعد نوفمبر على أقل تقدير. بل ذهب بعض المحامون بعيدا بقولهم أن أي عملية تسليم قد تستغرق سنوات.
تركيا عضو مهم في "مكافة الإرهاب"، ولها مكانة هامة كذلك في حلف "النيتو"، كما أنها تحتل "موقعا إستراتيجيا" يقع بين قارتين؛ أسيا وأوروبا، إضافة إلى قربها من القارة الإفريقية، وتحكمها في ممرات بحرية مثل "البوسفور" و"الدردنيل" وهي معبر لخطوط النفط والغاز القادمة من أسيا، والمتجهة نحو أوروبا وأمريكا، كل هذا لا يصب في صالح قطع العلاقات التركية الأمريكية، باعتبار أن مصالح هذه الأخيرة تلتقي مع أنقرة، لذلك فهي حليف إستراتيجي لا بديل عنه، ولا يمكن أن تنهي قضية "تسليم غولن" هذه العلاقات.
من جهة أخرى فبإمكان واشنطن أن ترفع الحرج عن نفسها، وذلك بترك غولن يخرج من ولاياتها، وهذا وارد جدا، بل هو أبرز الاحتمالات، فهذا سيجعلها تتخلص من هذا العبء، كما أنها ستحافظ على علاقتها بتركيا، وستقول أن المعني بالأمر قد هرب من البلاد، متجها إلى وجهة غير معروفة، وربما ستعلن وجهته.
ستكشف لنا الأيام القادمة ما سيحدث، وكيف سيتم حل هذا المشكل، فربما تستجيب واشنطن لأنقرة وتسلمها "غولن" كما فعلت الإمارات أمس حين سلمت جنرالين للأتراك، وقد يطول الأمر إلى غاية دخول شخص آخر للبيت الأبيض، وقد يجد هذا الشخص حليفا آخر في المنطقة ويرفض طلب تركيا، أو ستخرج الولايات المتحدة الأمريكية بأقل الأضرار وتدعه يخرج منها.