(3)

ايران "فارس" قديما لها قيمة حضارية تاريخية لا يمكن تجاهلها أو نفيها مهما كانت المبررات التي من الممكن أن تُقال كرد على سوء ما تقوم به في محيطها قديماً وحديثاً فهذا شيء وذاك شيء يجب علينا الفصل بينهما حتى نكون على دراية وبينة ببواطن ما يقابلنا ويجابهنا.

حضارة امتد عصرها قرابة الألف عام وإن غابت ألف وأربعمائة عام فهي جديرة بأن يؤخذ الحذر مما يأتي منها وهذا ما حدث في نهاية المائة عام الأولى لها عبر التأثير المباشر في المساعدة على تأسيس الخلافة العباسية  ومن ينسى أبو مسلم الخراساني وهو صاحب المنصب العسكري الرفيع في تلك الفترة وآراءه المتعصبة لكل ما له صِلة بإرث الفرس.

توالت تأثيرات الفرس على المسلمين عبر فترات تاريخية من أهمها جماعة الحشاشين التي أدمت الأمة الإسلامية بأفعالها الشنيعة قرابة الـ 200 عام حتى انتهت لكن بقي لها شراذم في سورية الحبيبة متمثلة بالنصيرية وإن حاولت تزييف الحقائق بعكس ذلك.

ومن تأثيراتهم قيام الدولة الصفوية حتى انتهى الحال بولاية الفقيه التي أتت بالعجائب وما هي إلا جذور لما سبق، ستظل إيران كما كانت مصدراً لإثارة القلاقل في أمة الإسلام لكن لن يكون لها عودة لسابق عهدها الذي يحاول قادتها بشتى الطرق والسُبل لتحقيقه مصداقاً لحديث نبينا الكريم.

أجدى سياسة للتعامل مع هذه الحضارة التاريخية اليقظة دائماً وأبداً وكما يُقال نقطة على آخر السطر.

(4)

السعودية الوريث الأكبر للجزيرة العربية التي كانت مهد البشرية و الممر الرئيس للهجرات البشرية وأحياناً كانت مموّل بشري للهجرات عبر مختلف العصور خاصة للأرض العربية التي نعلمها اليوم، أين تقع من معادلة الإرث الحضاري التاريخي ؟

قبل الخوض في هذا علينا العودة لجزئية من الجزء الأول عند الحديث عن تركيا.. "نحن هنا نتحدث عن إرث حقيقي له تاريخ طويل وحافل من الممارسة والمعايشة والمعرفة الواسعة".

حتى نستوعب الحضارة العثمانية وما كانت عليه فقد كانت حضارة عظيمة عند قيامها تكاد تكون الحضارة الوحيدة التي امتلكت قدرات فائقة القوة من شتى أصناف العلوم والمعارف والقدرات المالية والعسكرية اعتمدت في ذلك على شقين..

الشق الثاني بدأ بعد توسعها خارج حدود ما يُعرف حاليا بتركيا "الأناضول" ورثت تقريبا كل التركة من الإرث العربي والإسلامي للخلافتين الإسلاميتين الأموية والعباسية وما كان من دول قامت بين الفترتين واثنائها فكان لهذا دفعة كبيرة في تقدمها وتثبيت أركانها في تلك الفترة مما أطال في أمد بقائها قرابة الـ 400 عام هي عمر حكمها في العالم العربي خلاف الجزء الشرقي من أوروبا "لنتأمل ما كان من أمريكا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فقد ورثت من العلوم وأسرارها من النازية والعقول البشرية ما جعلها تخرج من قمقمها داخليا لتحكم العالم حتى حاضرنا مع ما تكوّن لديها داخلياً قبل ذلك, تلك كهذه.. لنتعلم".

الشق الأول لتكوّن هذا الإرث الحضاري التاريخي وهذا من الأهمية بمكان أن نعض عليه بالنواجذ "احفظوها"، ما يُعرف بالقومية التركية التي تمتد من الأناضول غرباً مروراً بأواسط آسيا حتى تركستان الشرقية الداخلة حالياً في حكم الصين، هذا الامتداد البشري يرتكز على موروث غني تاريخاً وثقافة وفِكراً لم يلفظه العثمانيين مع قيام دولتهم بل بالعكس من ذلك حافظوا عليه ونموه فكان له أثر لأن يحكموا قبضتهم في الأناضول والتأثير على امتدادهم البشري الطبيعي في أواسط آسيا وشرقها قرابة الـ 200 عام وبعد ذلك انطلقوا كما أسلفنا 400 عام أخرى خارجها في عملية موائمة لا تعصباً لقومية الترك حتى أتى البلاء عليهم من أنفسهم قبل غيرهم من قادتهم الأوائل مع نهاية الخلافة العثمانية وحدث ما حدث بعدها.

السبب الجوهري لسرد إرث العثمانيين وأخص هنا الشق الأول منه في الجزء المخصص للسعودية عملية ربط يُراد منها الاستفادة من درس عملي في أهمية العودة لإرث سحيق انقطع عنا واقعيا فبتنا لا نعلم عنه إلا ما يُذكر نادراً في المصادر التاريخية.

الجزيرة العربية قبل الإسلام لم تكن مجرد جاهلية فقيرة تتناحر قبائلها فيما بينها من أجل مورد ماء أو قطيع من الأغنام والإبل وتتسابق على أصنام تعبدها تلك فترة كانت حاضرة لكنها فترة من فترات تاريخية في جزيرة العرب كان للعرب فيها حضارات غنية تجارةً ومالاً وبناءً ومعرفة، من أمثلة ذلك الحضارة الثمودية التي كان مركزها الحِجر "مدائن صالح وهو ما نشاهد بعضه قائماً حتى الآن.

الثموديين إرث حضاري تاريخي عربي كما غيرهم من أمم سبقتهم وأتت بعدهم نحتاج ونحن ننشد في رؤية 2030 أن نزيل عن جميعهم الغائب منهم لدينا لنقول لأنفسنا وللعالم انظروا ماذا كُنا وقطعاً ما كان بعد ظهور الإسلام هو أعظم وأكرم لكن نحن نحتاج لأن نوصل سلسلة من عدة حلقات مفقودة في تاريخ الجزيرة العربية "لا تنسوا السبب الجوهري فهنا الهدف منه".

الجزيرة العربية على وجه الخصوص من العالم العربي ظلت عصوراً ماضية منطقة شبه منعزلة عن العالم حتى بعد ظهور الإسلام لأن الحضارة الإسلامية انتقلت سريعاً من حاضرتها للشام والعراق مما كان لهذا أثراً رئيسياً في أن تعود لانعزالها إلا ما كان من أسباب لها روابط دينية في حاضرتي مكة والمدينة وهنا لنا أن نسأل أنفسنا كيف لو بقيت الجزيرة العربية عاصمة الخلافتين الإسلاميتين العربيتين، هل كُنا سنجهل تاريخ العرب فيها والحضارتين التي كانتا تملكان من العلوم والعقول البشرية والقدرات المالية لأن تزيح الرمال عن إرث عربي سابق؟

لم تكن هناك حضارة قامت إلا وكان لها من العلوم ما يدعم قوتها، هذا ما نراه في كُل ما تم كشفه في حضارات الأمم السابقة خارج الجزيرة العربية لذلك هل من المعقول أن تكون أياً من الحضارات التي قامت في الجزيرة العربية خارج هذا النطاق؟.. رفقاً بنا يا عقولنا.

لو كان لنا من العزم فقط لأن نزيح هذا المجهول فلن يمشي أحدنا في وادياً أو سهلاً أو يصعد جبلاً إلا وعلم أنه يعيش بين جنبات إرث تاريخي غني ينافس إرث العالم إن لم يكن له قصب السبق في بعض جوانبه.

التاريخ ليس فقط أطلالاً تحتاج منا ترميمها وزيارتها أو أحداث كانت فنقوم بتوثيقها على الورق حتى تروى لا أكثر، التاريخ يحوي علوماً وأسراراً بها من القوة ما تجعلك لا تثبت على قدميك بل لأن تمضي وأنت صلب متسلحاً بكل ما تحتاج إليه لبناء الغد.

لنفتش عن قوة أجدادنا فهي خير معين لنا وكما قال الإمام الشافعي يوماً: ما حك جلدك مثل ظفرك.

لنعلم أن العالم اليوم لا يعتمد فقط على آخر ما توصلت إليه العلوم الحديثة ولكنه أيضاً ما زال يفتش عن العلوم القديمة وأسرارها وما ذاك إلا لأن بعض العلوم قديماً وصلت لمستويات عليا لم يصل العلم الحديث لأن حتى يفكر في منافستها.

صاحب العقل المتعقل الذي يفكر عميقاً دون أن تأخذه العاطفة لا بد له من التساؤل..

الموطن الأول للإنسان هل يُمكن له أن يخرج من معادلة كُل الحضارات الغنية "علماً" التي قامت في العالم القديم؟

ألا يكفينا أن نرى هذا التنوع الثري ثقافةً وفكراً وعادات وتقاليد في السعودية ونحن الشعب المنعزل بشريحته الأكبر عن العالم حتى الـ 100 عام الأخيرة لنتساءل!

لا يُمكن لهذا الانعزال الطويل أن يجعلك صاحب موروث بهذا التنوع الثري ، نحن كسعوديين نحتاج لأن نوجد الحلقات المفقودة في تاريخنا وموروثنا قبل ظهور الإسلام وما بعد ظهوره.

السعودية تملك إرثاً حضارياً لا زال مدفوناً ليس من الصعب كشفه مع ما تملكه من قدرات مالية وبشرية وهل هناك أفضل من الفترة الحالية مع رؤية 2030.

تاريخنا لم يُصنع في العالم الخارجي لذلك حاضرنا ومستقبلنا نحن الأولى بأن نبنيه عبر اكتشاف تاريخ كان أجدادنا هم صانعيه.


ختاماً نحن لسنا مجرد خيمة ومورد ماء وشاه وبعير ونقش فقير على الحجر قديماً وبئر نفط حديثاً وكذلك نحن لسنا كما نشاهد في المتاحف البدائية المتناثرة في ربوع بلادنا مجرد بندقية قديمة أو مذياع مصنوع خارج بلدنا كما أننا لسنا مجرد قربة ماء أو قِدراً وصحناً أو رحى من الحجر أو صحيفة طبعت إبان الثورة العربية.

رسالة:

أُسند حاضرك بماضيك لتمسك بمفاتيح صناعة المستقبل لا البحث فقط عن مقومات البقاء فيه.

#عارف_الحيسوني


عندما يستيقظ الإرث الحضاري التاريخي.. الجزء الأول

https://oktob.io/posts/4794