• مدخل

نحن لسنا في عالمٍ متخيل، ولسنا ملائكة، يعترينا ما يعترينا من قلق وحزن وفرح ضحك وبكاء، فقد ولقاء.. يحكمنا دين وخلق؛ تحكمنا الظروف، تحركنا العواطف، نحن مجموعة من التناقضات، هذا هو الواقع الذي يجب أن نتعايش معه.. مختلفون في أشكالنا وهيئاتنا، مختلفون في لغتنا وألواننا، في الملبس والمأكل، مختلفون في أفكارنا. فالتفاوت موجود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الاختلافات في كل شيء، من أكبر الأشياء في هذا الكون الذي نعيش فيه إلى أصغر ذرةٍ فيه، بين الكواكب والمجرات، بين السماء والأرض، بين الهواء والماء، بين الشعوب والأمم، بل حتى في أصغر الدوائر؛ كالعائلة، فتجد أن الأب يجد بين أبناءه الذين جاءوا من صلبه؛ تباينًا في القدرة والكفاءة والطباع. ما بالك بألوف مألفه من البشر!


كتاب آلان دو بوتون؛ قلق السعي إلى المكانة.. سنبدأ الكتاب بثلاثة أسئلة؛ ستكون مدخلاً لهذا الكتاب.. وهي:

▪︎ مالمقصود بالمكانة؟ هي مكانة المرء في المجتمع الذي يعيش فيه.

▪︎ ماهي مزايا المكانة؟ تضمن لصاحبها الجاه والراحة والاهتمام والإطراء.. 

▪︎ ماهي مسببات هذا القلق المحموم؟ هو نحن؛ بنو الإنسان! لأننا جعلنا صورتنا الذاتية تعتمد بشكل كبير على ما يراه الآخرون فينا. جعلنا أنفسنا تحت رحمة هذه المكانة التي نشغلها؛ بحكم طبيعتنا البشرية التي تؤثر وتتأثر أصبحت "نظرة الآخرين" هي الميزان والرقيب؛ لكل أفعالنا وسكناتنا. 

▪︎ حصر الكاتب عِلل هذا السعي إلى المكانة في خمسة أشياء، وعرفها تعريفًا مسهبًا، لكنني سأحاول أن أُجمل في استبيان كل سبب من هذه الأسباب..  وهي:(افتقاد الحب، الغطرسة، التطلع، الكفاءة، الاعتماد).. وذكر مقابلها خمسة أشياء، يعتقد أنها علاج لهذا القلق؟ وهي:(الفلسفة، الفن، السياسة، الدين، البوهيمية)

 


- أسباب وعلل السعي إلى المكانة؟
• افتقاد الحب:
يقول الكاتب أن ما نحوزه من مال وشهرة ونفوذ، هو مرتبط بمقدار الحب الذي نتطلع إليه. الحب هو وقود الحياة. هناك أنواع من البشر مختلفون في التكوين والقدرة، وهذا الاختلاف استودعه الله في تكوينهم، منه ما يخلق بالفطرة، ومنه ما يكتسب من الحياة والبيئة المحيطة. فعلى مستوى العائلة الصغير، تجد أن الأب يميل لأحد أبناءه دون الآخرين؛ لطبيعةٍ بشرية فطريةٍ لا يدرك كنهها؛ فتجد هذا الأبن دون اخوته؛ هو الأقرب إلى قلبه.. فيخلق هذا التباين بين الأبناء في المعاملة من قبل الأب؛ قلقًا روحيًّا للبقية بسبب فقدانهم لهذا الحب والاهتمام. فأول أسباب هذا القلق التي ذكرها المؤلف.. هو (افتقاد الحب). لأننا كبشر نؤثر ونتأثر ونعتمد بشكل كبير على ما يراه الآخرين فينا!
• الغطرسة:
الغطرسة أو التكبر.. الذي يمارسه أصحاب الطبقات أو المناصب العليا على البسطاء.. كيف ذلك؟ بالمثال يتضح المقال: لنفترض أن هناك دكتور متكبر يعامل الناس بفوقية، وشخص آخر كريم نبيل لكنه لا يملك منصب. اجتمعا في وليمةٍ عند أحد الأشخاص.. السؤال: هل سيحظى هاذان الشخصان على قدرٍ متساوي من عبارات الثناء والحفاوة والتكريم؟

  • كلا؛ مستحيل! بل سيأخذ هذا الدكتور حظه من الاجلال والتبجيل، وسيفسح له مكان في صدر المجلس؛ حتى ولو كان دكتور مسالك بولية أجلكم الله! فأصبحت قيمة الانسان باللقب الذي يحمله لا بقيمته الحقيقية كإنسان، لذلك وبسبب هذا الفعل المجتمعي البغيض في خلق هذا التفاوت في التفضيل والمقارنة بين الناس، تنشأ الطبقية والفوقية، فيجد القلق مرتعًا خصبًا في قلوب أولئك البسطاء! فمجرد مجالسة هؤلاء المتكبرين سيشعر هذا النبيل بضآلة ذاته الداخلية. لأنه لم يحصل على علامات معترف بها اجتماعيًّا لخصاله النبيلة، وسيشعر بأن وجوده بلا قيمة في حضرة هؤلاء المتكبرين.. يتساءل ثاكري: «كيف لنا أن نتخلّص من الغطرسة والنفاق الاجتماعي، طالما هذا اللغو والهراء معروضَين أمام عينيك؟ ألا سُحقًا للصُحف، فهي قاطرة الغطرسة وناشرة النفاق!».


• التطلع:
المقارنة أو التباين أو التحاسد، سمها ما شئت ما بين أصحاب المهنة الواحدة أو العمل الواحد، أو الطبقة الواحدة، تُسهم إسهامًا كبيرًا في خلق هذا القلق، طبعًا هذا التطلع أو المقارنة لا تظهر إلا بين الفئات المتشابهة والمتباينة في معيشتها؛ فليس من المعقول أن يحسد صاحب محل خضار الملياردير إيلون ماسك على ثروته! ولكنه قد يحسد من يشبهونه كالبقال أو الخباز في الشارع المقابل والذي يبيع أكثر منه. وعلى هذا فقس.. أما أولئك الأشخاص البعيدين جدًا عن طبقتنا؛ الغارقون في النعم الباذخة يخرجون تمامًا من دائرة انشغالنا.. فيقول المؤلف: إننا نحسد فقط أولئك الذين نشعر بأننا أشباهٌ لهم.. قد نتسامح مع كل نجاحٍ يحققه الآخرون إلّا نجاحات أندادنا فهي لا تُطاق.
• الكفاءة:
معيار الكفاءة؛ أي الكفاءة الاجتماعية. ما بين الأغنياء والفقراء وأيهما يُسهم في بناء المجتمع؟

قام طبيبٌ من لندن اسمه برنارد ماندفيل بنشر كُتيب اقتصادي، بعنوان حكاية النحل، والذي بدّل نهائيًا طريقة النظر إلى الأثرياء والفقراء. افترضَ ماندفيل ساخرًا؛ أن الأغنياء في حقيقة الأمر هُم مَن يقدّمون المساهمة الأكبر للمجتمع، وذلك لأن نفقاتهم توفّر عملًا لكل شخص أدنى منهم، وبالتالي يساعدون الأضعف على الاستمرار في الحياة. فلولا الأغنياء لسُجّي الفقراء سريعًا في قبورهم..! [طبعًا هذه نكته سوداء من المؤلف]!

في المجتمعات الغربية كانت الامتيازات والتسهيلات والمناصب تمنح وتوزع حسب السلالة والعرق والثروة، لم يكن للكفاءة معيار في سِلم هؤلاء اللصوص، فموضع الشخص على السلّم الاجتماعي ليس انعكاسًا لخصاله. فربّ امرئٍ يتحلّى بالذكاء والطيبة وسعة الحيلة والسرعة والإبداع نجده كنّاسًا للشارع، ورُبّ آخر مُنحَطّ وضعيف الشخصية وفاسد وأحمق تجده حاكمًا لدولة. ففي هذه المجتمعات الغربية، كانت المواقع تُوزّع على مدى قرون وفقًا لخط النسب والصلات العائلية وليس وفقًا للموهبة والكفاءة، وهي سُنّةٌ نجمَت عنها أجيالٌ من ملوكٍ غير قادرين على الحكم، ولوردات عاجزين عن إدارة ممتلكاتهم، وقادة لا يفهمون تعقيدات المعركة، ومزارعين أذكى من سادتهم ووصيفات مُطّلعات أكثر من سيداتهنّ! فليس بالضرورة أن يصبح ابن الوز عوام كما يقول المثل.. فلو كانت الأشياء تورث، لنجح كثير من الأدباء والعلماء في توريث ما اكتسبوه من معارف وعلوم لأبناءهم وذويهم؛ ولكنها أشياء تُكتسب بالكفاءة الحقيقية لا بالمال ولا بالنسب ولا بالوراثة!
• الاعتماد:
يقصد به المؤلف أن تعتمد على أشياء قد تكون متغيرة، وتخضع لظروف خارجه عن ارادتك. قد تكون سببًا من أسباب القلق.. وقد ذكرها المؤلف وهي: خمسة عوامل قد تكسبك الاحترام والمكانة. وقد تكون بنفس الوقت مقلقله؛ لا يمكن الإطمئنان عليها، والركون لها، في بلوغ المكانة المنشودة أو الاحتفاظ بها داخل تراتبية المناصب.

وهي:

الاعتماد على الموهبة المتقلبة
الاعتماد على الحظ
الاعتماد على صاحب العَمل
الاعتماد على ربحية صاحب العمل
الاعتماد على الاقتصاد العالمي


كل مبرر من هذه المبررات هو سيف ذو حدين، فلا يمكن أن نعلق على هذه المبررات آمالنا وطموحاتنا؛ لأنها متقلبة مقلقه تحكمها ظروف..!




حسنًا،،

سيسأل سائل ويقول عرفنا أسباب القلق لهذا السعي المحموم للمكانة. فما هي الحلول؟ الحلول هي في أربعة أشياء، وهي:


الفلسفة، الفن، السياسة، الدين، البوهيمية



[الحلّ بالفلسفة]
إن ما يجعلني ميسور الحال ليس موضعي في المجتمع، بل إنها أحكامي وآرائي، وتلك يمكنني أن أحملها معي أينما ذهبت... وهي وحدها ملكي وليس بوسع أحد انتزاعها مني - [إبكتيتوس].


فالكاتب يقول: بأن العلاج بالفلسفة، هو أن تتحرر من مخاوف المكانة، ولا تنزعج من التبعات النفسية أو المادية لشغلك مكانة متواضعة في المجتمع، لكي تحتفظ بالهدوء لمواجهة الإساءة والاستنكار والعِوز. كما فعل الكثير من الفلاسفة فعندما رأى سقراط كومة من الذهب والجواهر محمولة في موكبٍ عبرَ شوارع أثينا، صاح قائلًا: «انظر ما أكثر ما وُضعَ هناك من أشياء لا أريدها».وعندما تلقّى إساءة في السوق، سأله أحد العابرين : «ألا يزعجك أن يطلقوا عليك الألقاب المُهينة؟ ». فأجاب : «ولمَ؟ أتظن أن عليَّ أن أنقمَ على حمارٍ إذا رفسني؟».

فالحل هو في تحكيم العقل. قد يؤرِقنا طموحٌ لا صلة له باحتياجاتنا الحقيقية. إذا تركنا عواطفنا على هواها بلا زمامٍ أو رقابة، فإنها تميل للاندفاع نحو الانغماس والإفراط والغضب المنفلت، والتدمير الذاتي.. لذلك ينصح الفلاسفة باستغلال ملكاتنا العقلية لتوجيه سهام العواطف نحو الأهداف المناسبة، سائلين أنفسنا هل ما نرغبُ فيه هو نفسه ما نحتاج حقًا إليه؟ وهل ما نخشاه هو ما يدعو للخوف حقًا؟ فإذا تقبّلنا النقد الوَجيه لسلوكنا، وأولينا اهتمامًا للقلق الهادف البنّاء بشأن طموحاتنا، وتحمّلنا المسؤولية اللائقة عن إخفاقاتنا، عندئذ سنجد السلوى؛ حتى لو ظلّ المجتمع لا يمنحنا إلَّا مكانة دُنيا.. قد نتّبع طريقة سار عليها بعض أعظم الفلاسفة في التراث الغربي: إذا فهمنا نظام القيم المحيط بنا، بانحرافاته وتشوّهاته، فهمًا محايدًا ومعافى من جنون العَظَمة والارتياب. فالحل في نظر الفيلسوف هو: أن نمتحن مدى إنصاف سلوك الآخرين نحونا. فلا ينبغي أن نسمح لأي إدانةٍ خارجية أن تحطّم احترامنا لأنفسنا إلّا إذا كانت صحيحة. لا تعذب نفسك لكي تنال استحسان الآخرين، عليك أن تسأل نفسك؛ حتّى لو كانت آراء أولئك الاشخاص تستحق الإنصات إليها، فلا نسعى لمحبة هؤلاء الأشخاصٍ ولا نكن لهم احترامًا كبيرًا إلا بعد أن نستكشف ما تحويه عقولهم!

إليك هذا التساءل الذي يستحق النظر؛ والذي افترضه شوبنهاور ويقول فيه: أيتوجَّب علينا حقًا أن نأخذ آراء مثل أولئك الأشخاص بجديةٍ شديدة؟ أعلينا أن نستمر في السَماح لأحكامهم بأن تملى علينا؟ أمن العقل أن نُسلمَ تقديرنا الذاتي لجماعةٍ من لاعبي الوَرق؟ وإذا نجحنا بطريقةٍ أو بأخرى في الفوز باحترامهم، فأي قيمةٍ ستكون لهذا الاحترام؟ أو كما صاغ شوبنهاور هذا السؤال : «أيمكن لعازف الموسيقى أن يشعر بالإطراء أمام تصفيق جمهوره واستحسانه إذا ما كان يعلم تمام العلم أن كل جمهوره، باستثناء واحدٍ أو اثنين، من الطُرْش؟ ».

فإذا أردنا استخلاص نصيحة من دراسات الفلاسفة، كلٍ على حدة، فهي وصيتهم لنا بأن نتبع العلامات الداخلية لوعينا وضمائرنا، وليس الإشارات الخارجية للاستحسان أو الاستهجان. ليس المهم هو ما نبدو عليه في أعين جماعة عشوائية من الناس، بل ما نعرف نحن أننا عليه في داخلنا.. وحسب كلمات شوبنهاور: سوف يكون كل توبيخٍ وانتقاد مؤلمًا فقط بقدر ما يضرب على أوتارنا الحرجة. أمّا الشخص الواثق من أنه لا يستحق هذا التوبيخ فهو قادر إذا شاءَ أن يزدريه مُطمئنًا وواثقًا من نفسه».

[الحلّ بالفن]
رأى أرنولد أن الفن ترياق فعال لأعمق المخاوف والمصاعب التي يجابهها الإنسان في هذه الدنيا. فهو قادر على أن يقدّم لجمهوره - في أهون تقدير - تفسيرًا لنقائص الوجود وحلولًا لها. فالفن صيحةَ احتجاجٍ على الأوضاع القائمة، وحافز على تقويم بصيرة الناظر أو تعليمه كيف يدرك الجمال، ومعاونته على فهم الألم أو إنعاش حساسيته ووجدانه، وتغذية قدرته على التعاطف أو إعادة التوازن لرؤيته الأخلاقية عبرَ الحزن أو الضحك.. ويختتم أرنولد فرضيته مستخلصًا الفكرة التي يقوم عليها هذا الفصل : وهي أن الفن، كما أكّد، هو «نَقدُ الحياة».

وإذا التفتنا نحو تناولنا لمسألة المكانة وطرق توزيعها، فلن نجد شيئًا أحوج منها إلى النقد (أو إلى التبصّر والتحليل)، هناك الكثير من الأعمال الفنية أبدعها فنانون كثيرون عبرَ العصور كانت تنتقد السُبل المتبعة في تحديد منازل الناس ودرجاتهم في المجتمع. فتاريخ الفن حافلٌ بتحديات نظام المكانة، بالسخرية والطرفة، والغضب والحزن.. وقد ذكر المؤلف عدة روايات قامت بمعالجة هذه الانفعلات.. فالفن من خلال آدواته الناعمة قادر على نقد أتفه الأشياء وأكثرها حساسية.

وقد ذكرت جين أوستن وصفًا متواضعًا وشهيرًا لفنّها إذا قالت:
«كأنها قطعة صغيرة من العاج (لا يزيد عرضها على بوصتين ) أعمل عليها بفرشاةٍ رفيعة للغاية، من أجل تحقيق تأثيرٍ طفيف بعد كل ذلك الجهد ».

فرواياتها كما يقول المؤلف: مُترَعة بطموحاتٍ أعظم وأكبر. فمن خلال النظرة المدقّقة نحو ما أطلقت عليه: «ثلاث أو أربع عائلات في إحدى قرى الريف»، تسعى كل رواية لها لنقد حياتنا ومن ثم تغييرها. طبعًا؛ لم تكن مثل تلك الطموحات قاصرة على أدب أوستن، فكل الروايات العظيمة تقريبًا، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، قد شنّت هجومًا على التراتبية الاجتماعية المقبولة والسائدة، أو على أقل تقدير نظرت إليها بعين الشك، وقدّمت نوعًا من إعادة ترتيب لدرجات سلّم الأفضلية، وفقًا للاعتبار الأخلاقي لا وفقاً للأموال والممتلكات أو خَط السلالة!

كذلك في رواية جُود المغمور لتوماس هاردي (1895)، ليس الطلّاب المختالون في جامعة أكسفورد هم مَن ينالون الاحترام، إنما عامل البناء سيئ التعليم وشديد الفقر الذي يُصلح تماثيل مخلوقات الجرجول الأسطورية في مبنى الجامعة. فالروايات والقصص توسّع حدود تعاطفنا الإنساني وتبسطه في كل الاتجاهات. وهو القوة الناعمة في تغيير سلوك المجتمعات.

في عام 1738 رسم جان باتسيت شاردان لوحته وجبة لمريضٍ يتعافى، مصوّرًا فيها امرأة ذات ثيابٍ بسيطة تقف في غرفة قليلة الأثاث، وهي تقشّر بيضة لشخصٍ مريض لا يمكننا أن نراه. إنها لحظةٌ عادية في حياة إنسانٍ عادي. ما سبب رسمه لمثل ذلك المشهد؟ ظلَّ هذا السؤال يُطرح بإلحاح خلال مسيرة شاردان الفنية؟


لقد ضايقهم أن يوجّه ذلك الفنان الموهوب كل اهتمامه نحو أرغفة الخبز والأطباق المكسورة والسكاكين والشوكات وثمار التفاح والكمثرى وشخصيات من الطبقة العاملة - أو الطبقة المتوسطة الدُنيا.. لقد كسر شاردان تابوهات الاكاديمية الفرنسية، وقفز على التدرج الفني وكسر التراتيب التي جاء بها لويس الرابع عشر 1684، والذي جعل الترتيب أولاً لتصوير نبلاء الأغريق والرومان وفي المرتبة الثانية الملوك والملكات والمرتبة الثالثة لتصوير الطبيعة وأخيرًا ببونٍ شاسع عن هذه التراتيب جعلها في تصوير الحياة اليومية؟ لكن شاردان بدلاً من أن يصور برسوماته ملك يعتلي صهوة جواده، ويتفقد ضياعه وأملاكه، قام بتصوير امرأة بسيطة الثياب تقشّر بيضة.

ففحوى أي عملٍ كما يقول المؤلف: قد يتجاوز بدرجةٍ مَهيبة حدودَ المعنى القاصر الذي نسرعُ عمومًا بإضفائه على قطعةٍ ملوّنة من قماش أو ورق. فعلى غرار جين أوستن وجورج إليوت، يمكن للرسّامين الكبار أن يساعدونا على تصحيح كثيرٍ من مفاهمينا المسبقة الملوّثة بالنفاق الاجتماعي.


[الحلّ بالسياسة]

وفقًا لماركس، فإن الطبقات الحاكمة للمجتمع هي التي تضع على عاتقها إلى حدٍ كبير مسؤولية نشر وترويج مُعتقداتها الأيديولوجية. لهذا السبب ففي مجتمعاتٍ تسيطرُ فيها طبقة مُلّاك الأراضي على توازن القوى تُسلّم الغالبية العُظمى من السكّان بفكرة النبالة الطبيعية لأصحاب الأرض الأثرياء (بمَن فيهم المحرومون من مزايا هذا النظام ). وفي المجتمعات التجارية فإن إنجازات أصحاب المشاريع والمضاربين هي ما يهيمن على مفاهيم المواطنين حول النجاح . وكما افترض ماركس : «الأفكار المهيمنة في كل عصر هي دومًا أفكار الطبقة الحاكمة».

فالإيديولوجيا تسري في المجتمع مثل الغاز عديم اللون والرائحة، تتسرب منتشرة في الصحف والإعلانات التجارية وبرامج التليفزيون وكتب المناهج الدراسية، ودائمًا تضع تحت الضوء رؤيتها الخاصة عن العالم، تلك الرؤية الجزئية وربما أيضًا غير المنطقية أو الجائرة، مفترضةً ببراءة أنها فقط تقدّم الحقائق الأزلية التي لا يُنكرها إلّا مغفل أو معتوه. يقول برنارد شو: "خلال بضعة أجيالٍ تحدث تغيرات ما كان لأحدًا يتخيل أنها من الممكنات". فتحرير العبيد، وحقوق المرأة، وتلّقي معاش للمسنين والأرامل، وحق الانتخاب للنساء، والكثير الكثير من التغييرات التي نشاهدها اليوم جاءت معظمها بتغيير سياسي؛ نحن نستشعر هذا التغيير ونحس به، لكن لو أخبرت الأجيال القادمة بهذه الأمور وكيف جاءت؛ لظن أن محدثه مجنونًا فهي أمور في نظره طبيعية.. فالسياسة قادرة على هزّ بعض المفاهيم المترسخة في نفوسنا وأذهاننا عبر الزمن والتي كنا نظن أنها لن تتغير؛ فتغيرت. كان روسو يؤكّد كثيرًا على مقدار صعوبة أن يحسم البشر قرارهم بأنفسهم بشأن ما هو مهم، وكيف أنهم مهيَّأون بشدة للاستماع إلى اقتراحات الآخرين حول الوِجهة التي ينبغي أن تتخذها أفكارهم.

[الحلّ بالدين]

الزهد بالحياة كما فعل تولستوي مع بطله في روايته؛ موت إيفان إيليتش. ففكرة الموت قادرة على أن تعيد ترتيب أولوياتنا بالابتعاد عن العالم الدنيوي والاقتراب من البُعد الروحي.. أبعد عن لعب الورق وحفلات العَشاء وأقرب إلى الحقيقة كما فعل إيفان إيليتش في آخر حياته. وكما فعل تولستوي كذلك في آخر حياته عندما ترك أمواله وممتلكاته، وأصبح متنسكًا زاهدًا لا يملك إلا أسماله المهترئه وشعره الأكث الأشعث وعصاه التي يتوكأ عليها، حتى مات وحيدًا في محطة قطار! فالموت كما يقول المؤلف: يكشف لنا مقدار هشاشة الاهتمام الذي نحصل عليه بفضل المكانة، وربما أيضًا انعدام قيمته. فعندما نكون في صحتنا ومكانتنا، ونحظى بالمجاملات التي لا نعلم أهي من عاطفةٍ حقيقية أم هي لغرض دنيويٍ سريع الزوال، هل هذا التبجيل والاحترام لشخصنا أم للمكانة التي نمتلكها؟ هذه الأشياء لا تظهر حقيقتها إلا عند زوال نعمة أو مرض أو موت؟ فكل هذه العبارات الرنانة والابتسامات الصفراء المصطنعة، كانت مشروطة بدوام الثروة والمكانة! فقد يمنحنا تأمّل الموت الراحة من هذا القلق المحموم!
يقول توماس جراي، في قصيدته «مرثية مكتوبة في مقابر كنيسة ريفية »


[الفخر بشعارات النَبَالة، وأُبّهة السُلطة،
وكل ذلك الحُسْن، كل تلك الثروة،
تنتظرُ، على السواء، ساعةً لا مناص منها.
طريق المجد لا يؤدي إلى شيء سوى القبر].

[الحلّ بالبوهيمية]

ماهي البوهيمية أو من هم البوهيميين؟ يقول المؤلف: هي كلمة استُخدمتْ في الأصل للإشارة إلى الغَجَر، ولكن بعد نجاح رواية هِنري مورجير [مشاهد مِن الحياة البوهيمية (1815)]، وهي وثيقة عَن الحياة في باريس بين المقاهي وغُرف السَطح الفقيرة، فقد تطوّرت الكلمة وصارت تضم طائفةً أوسع من الأشخاص غير الجديرين بالاحترام، لسببٍ أو لآخر، من وجهة نظر المجتمع البرجوازي. فالبرجوازيون يمنحون المكانة بناءً على النجاح التجاري والسُمعة العامة. أما البوهيميين فقبل كل شيء آخر، وبالتأكيد قبل القدرة على توفير منزلٍ فخم أو شراء ثيابٍ أنيقة، هو الانفتاح وتكريس المرء حياته للفن. فالفن عندهم هو المستودَع الأصلي للشُعور، سواءٌ كان هذا التكريس بهدف الإبداع أم لمجرد التقدير والاحتفاء.

ووفقًا لنظام القِيَم البوهيمي، كما يقول المؤلف: أن الشُهداء الأبرار هُم أولئك الذين ضحّوا بأمان الوظيفة الثابتة وبتقدير المجتمع لهم، لكي يجدوا الفُرصة لممارسة الكتابة أو الفن، أو السفر أو أن يقضوا وقتهم مع أصدقائهم وأُسرهم. ونظرًا لالتزاماتهم هذه، فهم يرون أنهم لا يزالون خليقين بأعلى منازل الشرف والتقدير لإحساسهم الأخلاقي العالي وقدرتهم على تلقّي العالَم والتعبير عنه. فالمكانة في اعتبارهم يُمكن اكتسابها من خلال أسلوبٍ مُلهِم في الحديث أو القدرة على نَظم ديوان شِعر يتسم بالذكاء وصدق العاطفة.

يقرُّ أغلبُ البوهيميين أن سلامهم العقلي قد يتحطّم بمجرد تبادل الحديث بضع دقائق مع معارف ممن يعتبرون المال وصورة المرء بين الناس هما ما يستحق كل تقدير، حتّى إن لم يقولوها صراحةً.. لذلك يولي البوهيميون عنايةً خاصة لاختيار رفاقهم. ويحاولُ البعض منهم، أن يهرب من التأثير المفسِد للمجتمع برمته. وآخرون يجتهدون لخلق مجتمعاتٍ صغيرة من أرواحٍ متآلفة مُنسجمة، ليضمنون أن صِلاتهم اليومية ستكون مع أصدقاءٍ حقيقيين وليستْ مع معارف مهووسين بالمكانة الاجتماعية. وأكثر معتنقين البوهيمية هم من الشعراء. فالشعراء كما يقول بودلير: إنهم تعساء الحظ مرموقون، وُلدوا لكي يحملوا عبء التمرّس القاسي للعَبقرية وسط حشدٍ من مُتوسطي القدرات ». طبعًا يقصد بمتوسطي القدرات هم أولئك البرجوازيين المعارضين لهذا التمذهب البوهيمي، الذين يحسبون أن المكانة تكتسب بالتجارة والثروة لا بالشعر والأدب.

فالبوهيمية كما يقول المؤلف: أنها ببساطة أضفت شرعية على نُشدان طريقةٍ بديلة للحياة. لقد دعمت وصقلت ثقافةً فرعية يُمكن فيها لتلك القيم التي طالما تغاضى عنها التيار السائد للبرجوازية وقلّل من شأنها، أن تنال أخيرًا ما تستحقه من صلاحيةٍ وحظوة. إنّها طريقةٌ للحياة ربما تبدو بين الأيدي غير الصحيحة وكأنها عِصيان صبياني وعَبثي، لكنها بفضل بعض البوهيميين الموهوبين قد تبدو جادةً وجديرة بالثناء. إلى جانب النماذج التي يُقتدى بها من المحامين وروّاد المشاريع التجارية والعلماء أضافت البوهيمية نماذج الشعراء والرحّالة وكتّاب المقال . افترضتْ أن هؤلاء أيضًا، وبصرف النظر عن وجوه الغرابة الشخصية فيهم ونواقصهم من الناحية المادية، قد يكونون جديرين بتبوّأ مكانة سامية.




في النهاية...
يختتم المؤلف كتابه، بقوله: لا الفلسفة ولا الفن أو السياسة أو الدين أو البوهيمية، قد سعى أيٌ منها للتخلّص التام من التراتب الهرمي للمكانة؛ وبدلًا من ذلك فقد حاولتْ جميعها أن تؤسس أنواعًا جديدة من التراتبية تعتمد على مجموعات قيم لا تعترف الأغلبية بها وتنتقدها. وبينما احتفظت تلك الكيانات الخمسة بقبضةٍ مُحكمة على الاختلافات بين النجاح والفشل، بين الجيد والسيئ، بين المخزي والمشرّف، فقد اجتهدت لتعيد صياغة وعينا بما يمكننا أن ننسبه إلى تلك الثنائيات الجليلة، أسهمت في إضفاء شرعية على أولئك الموجودين في كل جيل، من غير القادرين أو غير المستعدين لتقديم فروض الولاء والطاعة للأفكار السائدة عن المكانة العالية، ولكنهم رغم ذلك قد يستحقون أن يصنّفوا تحت فئةٍ أخرى غير الوصف القاسي بكلمات مثل «فاشل » أو «نكرة ». لقد زوّدتنا تلك الكيانات الخمسة بوسائل مُقنعة ومُعزّية لتذكّرنا بأنّ هناك أكثر من طريقة واحدة للنجاح في الحياة، طرق أخرى غير طريقة القضاة والصيادلة.
.


انتهى..