قبل ليلتين كنت في حفلة عيد ميلاد لأحد أصدقائي الأمريكيين، وقد دعى صديقي عدة من أصدقائه من مختلف الجنسيات ليشاركوا المناسبة وكانت الغالبية من آسيا الوسطى (الهند وبنغلادش وباكستان). قابلت معظمهم لأول مرة، وكانت كل أسئلتهم الموجهة لي لا تكاد تتجاوز
- لماذا لا تقود المرأة السعودية السيارة ؟
- هل عقوبة الرجم عقوبة قانونية في السعودية ؟
ولا أعتقد أن المرء بحاجة لذكاء خارق حتى يكمل القائمة، خصوصاً للذين لديهم اطلاع على الإعلام الغربي. فلماذا لا يعرف الإنسان العادي في الغرب عن السعودية سوى القليل من الأشياء ويأتي على رأسها أن المرأة لا تقود السيارة ؟ هل هي معلومة مهمة لهذا الحد؟ إن كان السبب هو الحرص على حقوق النساء -كما أجبتهم- فلماذا لا يسألون مثلا عن مسألة اشتراط الولي للمرأة أو عمل المرأة أو ما إلى ذلك من قضايا اعتبرها أكثر أهمية من الجلوس خلف مقود السيارة.
تساءلت قبل زمن طويل، خصوصاً بعد قدومي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأشهر قليلة، كيف تكونت الصورة النمطية عن السعوديين لدى الأمريكان ولم؟ فمن خلال تفاعلي مع الناس استطعت تسجيل بعض الملاحظات على الانطباعات أو الصور النمطية التي يكونها الأمريكيون عنا. هناك أولاً إجحاف كبير حين أعمم وأقول أن الشعب الأمريكي يحب، والشعب الأمريكي يعتقد. فالشعب الأمريكي متنوع للغاية إلى درجة تفوق تنوع الشعب السعودي في نظري. الأمر الآخر الذي أود الإشارة إليه هو أن الصورة النمطية السلبية عن السعودية ليست محصورة بالأمريكيين بل تكاد تكون عاملاً مشتركاً في سائر العالم الغربي، بما فيهم الأقليات الإسلامية خصوصاً في الأجيال الشابة. وفي هذا المقال سأحاول شرح السبب.
السبب من وجهة نظري يكمن في النموذج الربحي الذي تقوم عليه المؤسسات الإعلامية.
النموذج الربحي للمؤسسات الإعلامية من قنوات ومواقع -وهي لا تعد ولا تحصى- يتمحور حول عامل واحد: زيادة عدد المشاهدات. حينما تزيد عدد المشاهدات فهذا يعني انتشاراً أكبر وبالتالي إما دعم مؤسسي مستمر أو ضغطات أكثر على الإعلانات بما يدر الربح من جديد. فالسؤال المحوري الآن هو: ماهو المحتوى الذي يزيد من عداد المشاهدات ؟ محتوى المتعة والترفيه. الطريقة التي ينظرون بها لأخبار السعودية سواء الفتاوى الغريبة أو تطورات قيادة المرأة للسيارة أو ماشابه لا تندرج تحت صنف الأخبار الميثولوجية أو الأخبار النسائية، بل تحت محتوى الترفيه والتسالي (مع استثناء المحتوى السياسي بالطبع). وهذا الصنف من المحتوى هو الوحيد ربما الذي يحظى بميزة الانتشار الفيروسي في الشبكات الاجتماعية. وبهذا -كمؤسسة إعلامية- تبدو اللعبة واضحة: ابحث عن الأخبار الغريبة في بلد يعرفه الكثير من الأمريكيين وضعها في العنوان الرئيسي، لتضمن مشاهدات عالية ومشاركة واسعة لرابط الخبر. هذه هي الأخبار التي يقرؤها الفرد العادي حين يتصفح خطه الزمني في تويتر أو الفيسبوك، فلا تكاد تلوم أحدهم حين يملك هذه الصور النمطية الدونية عن الشعب السعودي.
ولكن هناك خطر أكبر بكثير وسيكون له نتائج سيئة طويلة المدى. الأول متعلق بأن أخبار السعودية -بما فيها الأخبار السياسية- التي تحظى بالانتشار لا تكاد تأتي إلا في سياق سلبي. وهذا يعزز من الانحياز نحو السلبية فيما يعرف بعلم النفس بـ Negativity Bias. فمن المعروف في علوم الأعصاب أن الدماغ يتفاعل بشكل أكبر مع المؤثرات السلبية التي يتلقاها. أحد الاستنتاجات العلمية في أبحاث الزواج والعلاقات تشير إلى النسبة السحرية في العلاقات هي ٥:١.. بمعنى أنك بحاجة إلى ٥ مواقف إيجابية حتى تمحو أثر موقف سلبي واحد في علاقتك مع حبيبتك. وترجمة هذين الاستنتاجين في سياق حديثي -مع كثير من التجاوز- هو أن تلقي الأخبار السلبية يترك أثراً أكبر في الدماغ (والذاكرة) من الأخبار الايجابية، وأننا بحاجة إلى ٥ أخبار إيجابية عن السعودية حتى نمحو أثر خبر سلبي واحد! أما الأمر الآخر فهو أننا كبشر لدينا قدرة طبيعية على التقاط الأنماط -التي تتراكم لاحقاً لتكوّن الصور النمطية.- فحينما ترى كمية من الأخبار تتحدث عن رجل دين يزعم كذا وكذا وفيما بعد تأتي كمية أخرى من العناوين التي تتحدث عن علاقة داعش بالفكر الوهابي ومرة ثالثة عن منظمة حقوقية تطالب بالسماح بقيادة المرأة للسيارة، لا ترى كل هذه الأخبار بمعزل. بل عقولنا تحاول دائماً إيجاد نمط مشترك يجمع بين كل هذه المدخلات ليسهل تصنيفها والتعامل مع المعلومات الجديدة مستقبلا. وهكذا أصبحت لدينا خلطة مميزة من الصفات والتي بفضل تراكمها وتعزيزها عبر وسائل الإعلام تصبح كالفلتر التلقائي في عقل المتلقي الأمريكي.
المقلق في كل هذا هو أن دحض هذه المعلومات الخاطئة أو الصور المغلوطة أكثر صعوبة. في الحقيقة أن الدحض المباشر المدعوم بالأدلة والبراهين والأمثلة نتائجه محدودة للغاية. وهذا الأمر ليس بالغريب على علماء النفس الذين يتحدثون عن Believe Perseverance bias أو تأثير بقاء التصديق. فتأثير المعلومة الأولى بخصوص أي موضوع سيظل قوياً ومسيطراً على المعلومات اللاحقة حتى لو لم يكن لها أي أساس من الصحة.
في الختام أحب أن أشير إلى أن أثر هذه الصور النمطية في التعامل اليومي يكاد ينعدم من حياة السعودي اليومية وذلك لأن الغالبية الساحقة من السعوديين هنا يدرسون أو يعملون في مؤسسات أكاديمية وجامعية وفيها منسوبين يملكون بالمتوسط قدر أعلى من الاطلاع والتفهم لكل الثقافات -وليس لسواد أعين السعوديين فقط-. لكن علينا أن ندرك كيف يرانا الآخرون خارج أسوار الجامعات، ولماذا يروننا بهذه الطريقة. ولعل هذا كله يسلط الضوء عن رؤيتنا نحن للأمريكيين ولغيرهم من سكان البسيطة والذين لا نكاد نعرف عنهم سوى من عناوين الأخبار.