قال حكيم العراق الامام علي بن أبي طالب : ((فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ )) .

من أشق الحالات التي تمر على الإنسان  - ولاسيما العطوف  الوفي صاحب القلب الطيب الحنون  -  : هي عندما يفارق من أحبهم وعشقهم  وتعلق بهم  وقضى وطرا من حياته معهم وشعر بجانبهم بالسعادة  والفرح والامن والطمأنينة ؛  فيسكنه الألم والحزن الكبير على فراقهم  , ويشعر بالوحشة والغربة بعد رحيلهم ،  وتصبح سلوته الوحيدة بعدهم زيارة قبورهم  وغسلها بدموع عينيه ,  او النظر في صورهم والتمعن في ملامح وجوه  اخفاها التراب والى الابد , او استذكار مواقفهم وكلماتهم التي قد تصدح في اذنه كالوحي , او رؤيتهم في الاحلام  اذ يأتون كضيف خفيف الظل سرعان ما يرحل ويترك  في قلب الحبيب حسرة  ... وطالما عاش البعض منا على أمل ان يجتمع بأحبابه مرة اخرى وفي عالم اخر ... ؛ هل تعرفون معنى الغربة الحقيقية ؟ هي فقدان الاحبة ؛ هي ان لا تجد بقربك شخص تخبره بأفراحك واحزانك وتستشيره بأمور حياتك  . 

 فالحياة لا تكتمل إلا بوجود أحبتنا  بقربنا  فهم أنس نفوسنا  وسعادتها ,  وفقدانهم شيء صعب ولا يمكن تخيله ، فعندما تعتاد على شخص كان لك كل الحياة – كالأب او الزوج او الاخ او  المعيل  او الصديق ... الخ -  فإنك ستنصدم عند فقدانه بل تضطرب ولا تعرف ما العمل , واين المخرج في ظروف حياة قاسية ومعقدة  كأنها غابة مليئة بالوحوش والضباع والذئاب والعقارب والادغال والحفر والمطبات ؛  فهو أمر صعب ومؤلم  ويحتاج الإنسان لوقت حتى يستطيع تقبله والتكيف مع الواقع الجديد والخالي من الاحباب , نعم  مع الأيام ستعتاد على فراقه ولكن لن تمحوه الذاكرة ولا يمكن نسيانه بل سيبقى موته غصة في القلب لا تنسى   . 

يذهبون  ويخلفون  غصة في قلوبنا ، ونبقى  وحيدين في هذه الحياة  برفقة افكارنا وذكرياتنا المشتركة فحسب ؛ يرحلون عن هذه الدنيا وتعتصر قلوبنا شوقاً وألماً على فقدانهم، هؤلاء هم الأحبة الذين رافقونا في حياتنا وكنا سعداء معهم ... ؛  ولكن الموت وفراق الأحبة سنة الحياة وقضاء الله وقدره ويجب علينا تقبل سنن الكون وقوانين الطبيعة  .

وليس كل من رحل ومات طواه الزمن ولفه النسيان ؛ فهم احياء في قلوبنا يقطنون ,  وان طال غيابهم ذكراهم تأبى الرحيل , وطيفهم لا يفارق عيوننا وخيالنا ؛ ونبقى نذرف الدموع ويعتصرنا  الالم كلما مر ذكرهم  ؛ اريج عطرهم  يملئ اماكن واوقات  لقائنا الخوالي , فكل زاوية في البيت والمقهى والمعمل والمكتب  والمسجد والحديقة العامة والشارع ... الخ تذكرنا بتفاصيلهم الجميلة ولمساتهم الحانية ودفء قلوبهم ... ؛ فلا تعجب عندما ترى في المقابر اشخاص يصرخون ويتألمون وينادون الموتى علهم يسمعونهم ويرودن عليهم لانهم يشعرون بحرارة وقرب ارواحهم على الرغم من البعد السرمدي والغياب الابدي  ؛ فعقلك من المستحيل أن ينسى شخصاً كنت تحبه وتعتبره سبباً لسعادتك في الحياة يوماً ما... . 

فطالما تعاهد بنو ادم   ألا يفرقهم  شيء، ولكن القدر كان أقوى منهم  وفرق قلوب  متحابة ؛ فالموت هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يفرق بين الأحبة  , رحم الله أروحاً تشبه أرواحنا  اضحت تحت الثراء  ؛ و حاولنا دائماً أن نبقى معاً لآخر العمر، لكن لم يخطر ببالنا أنّ اللقاء لا يدوم، وأنّ القضاء والقدر هو سيد الموقف، وأنّه ليس بيدنا حيلة أمام تصاريف القدر وتقلباته.

بعد الفراق يصبح كل شيء بطيئاً، تصبح  الدقائق والساعات حارقة، ونكتوي بثوانيها ونتعذب كلما مرت الايام وابتعدت اطيافهم ودرست قبورهم  ؛ لذلك قال العراقيون الجنوبيون الاصلاء : (( شلون العزيز يفارقونه  ؟! ))  فالفراق موت صغير  او جزء من الموت ؛ فما قيمة ولذة الحياة  بعد فراق الاحبة ؛ وصدقت العراقية  الجنوبية  الاصيلة عندما نعىت حبيبها : (( ناديت وصحت يا هواي بالله عليك تانيني متحضرة واريد وياك جا عدمنه مخليني ... )) فافتقاد الحبيب احيانا يجعل العالم يبدو خاليا والمكان فارغا  ؛ وان القلوب بعد الفراق تشيخ وتصبح مليئة بالتجاعيد والندبات  ؛ ففراق الأحبة  و ان كان في ظاهره دموع وأحزان  الا ان حقيقته  تتمثل في باطنك اذ تشعر  كأن شيء من روحك  قد أقتلع  وجزء من عمرك سرق  وشيء من ذاكرتك تم محوه .

ولعل أسوأ ما يحدث ألا نعرف قيمة من نحب إلا بعد الفراق - ( مقولة : جاين أوستن)- ؛ فالمحبة لا تعرف عُمقها إلا ساعة الفراق , اذ نشتاق لأيام  عشناها معهم كنا نظنها الأسوأ ثم بكينا عليها بعد ( ان سرى الجناز بهم )  .

 يقتلني الشوق والحنين ، ويمزّقني البعد والفراق ، وأحنّ إلى الأمس  القريب البعيد ، أحن إلى ماض لا يمض والى ايام لن تعود ، أشتاق لكلمة منه لنظرة أو ابتسامة او حتى مشاجرة ، ولكن الزمن يحرمني حلاوة اللقيا ونداوة رؤياه ؛ رُبّما عجزت روحي أن تلقاك، وعجزت عيني أن تراك، ولكن لم  ولن يعجز قلبي عن الاحتفاظ بحبك ومودتك  ؛ وحتى لو أخذتك الأيام بعيداً وطواك الثرى عميقا ، وكان ما بيني وبينك فراق بحجم مجرة درب التبانة ، ستبقى حاضراً في قلبي وذاكرتي ؛ وطالما المني هجري لك وصدودك الاخير عني لسبب تافه لا يرقى لعمق محبتنا وصداقتنا واخوتنا ؛ ولو كان بالإمكان لاسترجعت  جميل أيامي  معك ، ولسرقت من العمر لحظة واحدة اعتذر فيها لك عن خطأك وانا الممنون واقبل جبينك واضمك الى قلبي قبل صدري واغض الطرف عن كل مثالبك واسبح بحمد مناقبك على قلتها  , و رغم الفراق الطويل، ما زلت أستيقظ وأنا ألهج  باسمك، و ما زلت أنادي عليك كلما قصدت  دارك وديارك .

أعلم بأنّك لن تكلمني أبدا، أعلم أنّك لن تأتيني، لكني أتمنى من كل قلبي أن تعود اللحظات ولو لساعات فقط، او لدقائق، او لثوانٍ قليلة جداً، لكي أقول لك أن تنتبِه لطريقك وتعتني بصحتك ، ولأقول لك أن تسامحني وان تزورني في الرؤيا وان كانت  رؤية  الاحباب والأصدقاء الغائبين فِي الأحلام أشدُ أنوَاع اللّقاءِ وجعَاً ؛ و لترى يا حبيبي  بعينك ان موضع الفراق في قلبي اضحى  أسود ا ، متفحما ، كأن حريقًا هائلًا قد شب فيه ؛ فقد  ترك موتك  في قلبي جرحاً كبيراً، ظننت أنه مع مرور الأيام سيصبح صغيرا، لكن لم أدر أنه يوماً بعد يوم يصبح أكبر.

مهما حاولنا النسيان فإن فراق الأحباب موجع ومؤلم، نشتمه مع رائحة القهوة، ونسمعه في  زقزقة العصافير ، ويباغتنا في كل زقاق وشارع وحديقة وبناية ومقهى ... فيبعث ذكرى مررنا بها ذات يوم ، ويحيي نيران مشاعر عشناها كانت خامدة تحت رماد النسيان المؤقت  .

ويبقى الموت مفرق الاحباب والاصدقاء ؛ فلابد من الفراق لأسباب خارجة عن ارادتنا، فمسالة الموت حتمية  , ومن الطبيعي  أن تفارقنا روح نحبها وعزيزة علينا ولا تعود لنا  أبداً ؛ و ليس أمامنا سوى الصبر الجميل، حتى ينطوي دهر الفراق ويتصل حبل اللقاء.

يا غائباً في الثرى تبلى محاسنه .......  الله يوليك غفرانا وإحسانا

إن كنت جرعت كأس الموت واحدةً ......فكل يوم أذوق الموت ألوانا