في حاضرنا صراعات النفوذ وعبر مختلف العصور سنة كونية لا مفر منها يختلط فيها الانتصار والهزيمة والكيّس من يوائم بينهما إن خرج من هزيمة انتصر في أخرى لأن ذلك منتهى الغاية في تحقيق الهدف وليس الاعتقاد والعمل للمشي على مسار واحد إما هزيمة أو انتصار.

(1)

رؤية انجلترا وهي تتراجع تكتيكياً عن الحضن الشمولي للاتحاد الأوربي غاية لهدف رغم كل ما نراه من صدمة مزيفة لبعض الانجليز في خروجهم من الاتحاد الأوربي، من قرأ تاريخيا عن العربة والحصانين الذين يجرانها كُل حصان في اتجاه معاكس لن تمر عليه أسباب خروجها لأنه من الواضح والجلي أن هدفهم يعطي دلالة على استيقاظ داخلي من أجل العودة لحضارة سابقة مستقلة بذاتها تخدم مصالحها العليا، هي فعلاً سياسية انجليزية قديمة توهمك بأنهم على خلاف داخلي في سياساتهم وأنك أمام فرصة ذهبية للعب على حبل تناقضاتهم ولمن لم يقرأ فالعربة تمثل السياسة البريطانية دولياً وحصانيها الحكومة الأم في انجلترا والحكومة الهندية البريطانية في الهند إبان استعمارها من بريطانيا العظمى قديماً.. تاه العرب بينهما كما غيرهم من المسلمين فضنوا أنهما على طرفي نقيض وهم أساساً ليس كذلك لأنه بنظرهم وتخطيطهم الحصانين مجرد تكتيكات غايتهم منها الهدف في النهاية وفعلاً تمزق العالم الاسلامي فبعد أن كان على الأقل في "ظل" الحكم العثماني في حينها ممزق لأقاليم كبيرة أمسى كل إقليم ممزق لدول ولدنا وعشنا وما زلنا في كنفه.

الحرب العالمية الأولى مربط الفرس في ما نراه اليوم من متغيرات وتحولات تتسارع وتيرتها يوماً بعد يوم ليس في وطننا العربي والإسلامي وحسب بل على الصعيد الدولي بأكمله لهذا حسم الانجليز أمرهم بالانحناء للعاصفة مؤقتاً، يرتبون ويخططون كما غيرهم لأن القادم يحمل في طياته سُنن كونية تُعيد نفسها ليس شرطاً على نفس الشكل ولكن الأهم هو المضمون.

انجلترا ككيان  لها إرث حضاري عميق و واسع سواء اتفقنا معها أم لم نتفق في سياستها قديماً وحديثاً بلغ تأثيره مشارق الأرض ومغاربه.

(2)

تركيا بلد السلاطين العثمانيين قديما الدولة الفتية حديثاً تختلف قليلاً عن انجلترا من ناحية غيابها فترة عن المشهد الدولي كتأثير على إثر انقلاب قادتها العلمانيين الأوائل على كُل ماله صلة بالإرث الاسلامي والعربي في عملية تغيير مؤلمة عاشها الأتراك من أجل النهوض من جديد وهو ما لم يحدث لأن الخطأ الذي ارتكبه القادة الأوائل أنهم حاولوا الانعتاق عن إرث حضاري وتاريخي يمتد لأكثر من ستمائة عام في سبيل الحداثة حتى أتى رجل نظيف اليد اسمه أردو غان من قلب ارشيف عاصمة السلاطين العثمانيين اسلا مبول "اسطنبول" فأخذ بيد بلده وهو يوائم بين الحداثة والإرث الحضاري التاريخي وهذا مُشاهد و واقع لم يُخفه الرجل ولم يجد غضاضة في بعثه للداخل والخارج على سبيل المثال إبان استقباله في وقت سابق للرئيس الفلسطيني حيث أعد له مراسم ذات صبغة عثمانية بامتياز وهل يُلام الرجل في غاية هدفها إعادة إرث حضاري تاريخي؟

من العدل والانصاف القول أن له الحق كما لغيره من أي أُمة أو قومية للتخطيط ومحاولة إعادة مجد تليد، الكُل متساوون في البحث عن أفضل السُبل لتحقيق أحلامهم.

القادة الأتراك اليوم لهم أثر ملموس في الداخل التركي قبل خارجه هم يبنون وما زالوا والحقائق على أرض الواقع تقول بأنهم قطعوا شوطاً كبيراً من النجاح بلغ من أثره طوفان عربي وإسلامي مُعجب بما يفعلون و وصل الأمر لأن تتواجد شريحة لا بأس بها من العرب والمسلمين تدافع عنهم دفاعاً شرساً دون تجييش مباشر من أولئك القادة.

السر يكمن في التأثير بأنه صناعة ناعمة لا تحتاج لقوة عسكرية حتى تجتاح محيطها الخارجي، هنا نتوقف لنتعمق في كيفية التأثير الذي أحدثه الأتراك؟

التأثير كصناعة له عدة طُرق ومن أهم طُرقه في حالة تركيا اليوم ما دُمنا نتحدث عنها العودة لإرث حضاري وتاريخي ضخم دون مبالغة فيه من أسباب النجاح ما يفوق حالة انجلترا قديماً.

لا يتفاجأ أحدنا إن استمر أردو غان وفريقه من بعده على نفس الوتيرة لعقد أو عقدين في رؤية العثمانية القديمة تعود من جديد بصبغة حديثة.

عندما نعود للحرب العالمية الأولى قراءة وبحثاً معمقاً نجد أن 130عام تقريبا في تاريخ الأمم ليست بالبعيدة حتى يغيب عن ذهنية من عاشها فيما بعد من أجيالها وإن مورست عمليات تغييب مقصودة أو غير مقصودة للانعتاق منها.

كم من أمة وقومية على مدار التاريخ انهارت حد ذوبان هويتها وانقراضها ثم عادت قوية كما كانت، المصادر التاريخية تتحدث عن أمم غابت 400 عام ثم بين ليلةٍ وضحاها عادت حتى كتب الله لها النهاية المؤبدة لذلك لا يُستبعد أن تعود أي أمة من الأمم لسابق عهدها ضعوا هذا نُصب أعينكم.

الغاية من تخصيص الحديث عن انجلترا وتركيا لأنهما أقرب الأمم التي كانت لهما قبضة في الماضي القريب على العالم وكان لتأثيرهما أكثر من غيرهما كفرنسا وإسبانيا قديماً وإن تداخلت فرنسا في محيطنا الاسلامي لكن ليس بقوة انجلترا.

هل يغيب عن طرحنا أمريكا كقوة حالياً؟ بالطبع لا يغيب لكن أمريكا كإرث حضاري وتاريخي لا زالت تبني هويتها حتى وإن كان مستمراً حكمها منذ قرابة الـ 300 عام.


نحن هنا نتحدث عن إرث حقيقي له تاريخ طويل وحافل من الممارسة والمعايشة والمعرفة الواسعة** الذي لا زال له آثار لم تضمحل في أذهانهم ونفسياتهم كذلك امتلاكهم ارشيفين ضخمين من كافة أصناف العلوم والأنظمة والسياسات التي جعلتهم فيما سبق يصلون لما وصلوا إليه.

أيننا كعرب من هذا، ألسنا نملك إرث حضاري وتاريخي مثلهم؟

على الأقل أتساءل عن بلدي السعودية الوريث الأكبر للجزيرة العربية، سأدع الحديث للجزء الثاني ولا أنسى الفرس سيكون لهم نصيب بإذن الله.

اضاءة: ما نعيشه حالياً مجرد إفرازات ومضاعفات لنتائج الحرب العالمية الأولى.

وختاماً أقول لمن لديه الرغبة في الاستفادة .."الأخطاء تصحح نفسها وأن بعد حين".


** سيكون لها تفصيل في الجزء الثاني

#عارف_الحيسوني