في مقال سابق بعنوان "بلايين الخلايا العصبية هي المسؤولة عن ذكاؤنا " المنشور في مجلة الميدل ايست 2010م, تحدثت عن أهمية التنشئة الأسرية السليمة في تطوير قدرات الذكاء لدى الأطفال، وقد وضحنا بشكل مختصر كيف تترابط ملايين الخلايا العصبية في الدماغ مع كل موقف يتعرض له الطفل في مراحل نموه المبكر.
ويقول جون حينما تعطي طفلك (2-6 سنوات) مكعبات ألعاب ثم تطلب منه تركيبها، سيقوم طفلك بتركيبها وبينما هو منهمك في ذلك النشاط الذهني فإن خلايا دماغه العصبية تبدأ في الترابط والبناء مع كل حركة أو مهارة تركيب وما يصاحبها من تفكير، وهكذا كلما تعرض الطفل إلى مواقف تتطلب مهارات خاصة أو حتى عادية فإن خلايا دماغه تبني ذاتها وتترابط بناء على تلك المهارات والتجارب.
إذن كلما تعرض الطفل لمواقف تحفز على الذكاء أو تتطلب مهارات تفكير عالية كالانخراط في اللعب واللهو في فناء المنزل أو من خلال التدرب على الرسم، فإن العشرات من خلايا دماغه العصبية تبنى وتترابط بموجب تلك المهارات لتشكل نماذج تعمم مستقبلا على معظم المواقف التي تواجهه، وهذا ينطبق على المواقف والمهارات التي لا تحفز على الذكاء.
في هذا المقال سنتحدث عن أهمية البيئة أو المحيط الأسري في تزويد الطفل بالتجارب والأنشطة المختلفة التي ستساهم في نمو بنيته الدماغية بشكل ايجابي وكذلك سنوضح كيف أن حرمانه من ممارسة الأنشطة المختلفة كالموسيقى مثلا، سيؤدي إلى ضمور أو موت بعض خلايا الدماغ العصبية الخاصة بالموسيقى ما يعني فقدانه نهائيا الاستمتاع بصوت ونغمات الموسيقى، وهذا ينطبق على الكثير من النشاطات والممارسات اليومية التي عندما يحرم من ممارستها فان دماغه لن يعمل بكامل طاقته ما يعني تدني مستوى كفاءته العقلية ما تجعل الحياة أمامه والى الأبد أكثر تحديا وصعوبة.
ويعتقد شنج يوكس (1985) انه في أحيان كثيرة يؤثر موت الخلية فقط في بعض الخلايا العصبية، ويشير إلى أن موت هذه الخلايا لوحظت أول مرة في أدمغة الأطفال بعد ملاحظتها في الثديات المختلفة، والحقيقة أن العلماء يؤكدون أن من بين أسباب موت الخلايا العصبية هو ما يفسر بظاهرة الانتخاب الطبيعي، هذه الآلية تعمل وفق ما هو مسموح به ومشاهد في البيئة، أي أن العضو الذي يؤدي وظيفته بشكل سليم يبقى وينمو للأفضل بينما العضو الذي لم يعد صالحا يتلاشى أو يضمر ويختفي.
وقد أكد هذه الميكانيكية الملاحظة العلمية التي قام بها الفائزان بجائزة نوبل ديفيد هوبل و تورستن ويزل في عام 1981 والتي تعد اختراقا عظيما، والملاحظة تتمحور في كيفية عمل الخلايا العصبية وما هي الآلية التي تمكن تلك الخلايا من الترابط أو الانتحار. وكانا قد قاما بتجربتهما المثيرة على قطة ولدت حديثا، حيث أغلقا احد عينيها لمدة أسبوع فقط، وقد اكتشفا بعد فترة أن منعها من الإبصار قد تسبب في تغيير ترابط الخلايا العصبية للطبقة 4 من لحاء مؤخرة الرأس ما أدى إلى أن قلة ترابط المحور العصبي الناقل للإشارات العصبية من العين المغلقة، بينما ارتفع معدل الترابط في الخلايا العصبية الدماغية الناقلة أو المخصصة للعين المفتحة. وقد أدى ذلك إلى أن العين المغلقة فقدت الإبصار ولم يستطيعا إعادة البصر لتلك العين نهائيا رغم المحاولات الجراحية و الطبية.
هذه التجربة تؤكد أن الفترة بعد الرضاعة مهمة في تشغيل الخلايا العصبية الخاصة بالبصر وفي ترابطها والأهم في منح الدماغ الفرصة للإطلاع على العديد من الخيارات الموجودة في البيئة كي يتعامل معها الدماغ بشكل وافي.
والحقيقة أن هناك مقالة للباحث مارك وورد نشرت في مجلة ميلوا كي سنتي نال في ابريل، 8، بعنوان "مسائل علمية"1997حيث أشار إلى بحث فرانسيس روس تشر وزملائه مقتبسا عنه "أن الأطفال الذين لم تعمل أدمغتهم وفق هذا الترابط في حياتهم المبكرة نتيجة عدم خوضهم لتجارب عملية أو لان البيئة التي نشأوا فيها لم تمكنهم من خوض تجارب متعددة ومتباينة حول مختلف الأنشطة البشرية ما جعل خلايا أدمغتهم العصبية تتحجم وفق آلية معينة أو محددة بالتجارب التي مروا بها".
وينسب إلى الباحث القول "انه بعد عدة سنوات ستتوقف خلايا أدمغتهم عن إنتاج الكثير من الخلايا العصبية التي كانت أو وجدت لكي تجعل الدماغ أكثر ذكاء وتكيفا مع املاءات البيئة. فحينما تم تحييد ترابط هذه الخلايا فقد لوحظ أنها بدأت في تقليم الخلايا العصبية التي لم تعد تستخدم"، وهذه الآلية الدماغية حسب الباحثين تتبع نظرية الانتخاب الطبيعي، أي أن بعض خلايا الدماغ تضمر وتتلاشى نتيجة عدم الاستخدام.
وفي جانب متصل اكتشف فيكتور هامبرجر أن بعض مناطق الوتر للحبل ألشوكي لجنين الفرخة تحتوي على أكثر من 20،000 خلية عصبية بينما تصبح 12،000 فقط لدى الفرخة في متوسط عمرها. أي ان 40% من هذه الخلايا تموت في الأيام أو الأشهر الأولى من الولادة، وتستمر في التلاشي أو الموت بعد ذلك بسرعة بطيئة.
وكما اشرنا الى ملاحظة ديفيد هوبل و تورستن ويزل في عام 1981 المتعلقة بفقدان القطة التي اغلقت احد عيناها بعد ولادتها والتي فقدت قدرتها على الرؤية الى الابد وذلك نتيجة عدم منح الدماغ او تحديدا الخلايا العصبية الخاصة بالابصار الفرصة في تكوين او تطوير بنائها الترابطي ما جعل هذه الخلايا العصبية تموت وتختفي.
وكما هو في نظرية فرانسيس روس تشر وزملائه التي اشرنا لها انفا، وكذلك اكتشاف فيكتور هامبرجر الذي وجد ان 40% من خلايا الحبل الشوكي تموت اذا لم تجد العوامل البيئية المحغزة لعملها وتفعيلها. كل هذه مؤشرات على ان دماغ الطفل ينمو بشكل متكامل كلما كانت البيئة غنية بمختلف الانشطة والمهارات المتعلقة بالذكاء او الابصار او الغناء والرسم الخ، بينما افتقارها لبعض هذه الانشطة يعني رسالة واضحة لخلايا الدماغ التي لم تفعل بان عليها ان تنتحر وتتلاشى.
ولتوضيح هذه الالية نقول ان الطفل الذي يحرم مثلا من الاستماع الى الموسيقى الهادئة والهادفة في السنوات المبكرة من حياته (1 الى 3 اعوام) فان دماغه وبموجب آلية عمل ترابط الخلايا العصبية الخاصة بالموسيقى لن يكون باستطاعته الاستمتاع بنغمات الموسيقى، نظرا لأن روابط الخلايا العصبية الخاصة بالموسيقى قد تم حذفها من تكوينه الدماغي أو ربما تحييد عددها بشكل كبير بحيث أصبحت هذه الخلايا العصبية لا تعمل بشكل صحيح.
والحقيقة أن الموسيقى تمنح الإنسان الهدوء النفسي وتخلق في وجدانه المشاعر الرقيقة المحفزة على الحب والعطاء والإحساس بمشاعر وآلام الآخرين، وفي المجال التعليمي وجد أن الموسيقى تحفز على التعلم. تشير دراسة روشر وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا في ايرفين - مركز علم الأعصاب في التعلم والذاكرة في التقرير الذي نشر في دورية نيتشر العلمية البريطانية على ما يسمونه "تأثير موزارت" حيث وجد أن الموسيقى تحفز على التعلم.
ولتحديد ما إذا كان سماع الموسيقى يؤدي إلى تحسين التعلم المكاني لدى الأطفال من سن الثالثة، فقد قام باحثون من جامعة كاليفورنيا بدراسة مجموعة من الأطفال أعمارهم 3 سنوات تم التحاقهم ببرنامج في مدرسة تمهيدية بلوس أنجلوس. ووجد انه من بين ال 33 طفل، 22 تم تدريبهم على موسيقى خاصة وممارسة الغناء الجماعي، و عند اختبار هؤلاء الأطفال على المهام التي تحتاج إلى مهارات التفكير المنطقي المكاني وكذلك تجميع صور مبعثرة ومحيرة، حقق الأطفال الذين اخضعوا للدراسة نتائج مبهرة، بينما الأطفال الذين لم يدربوا على الموسيقى لم تكن نتائجهم مرضية، الجدير بالذكر أن الدراسة امتدت إلى ثمانية اشهر.
ونستطيع أن نستنتج من الدراسات والأبحاث الخاصة بتطور دماغ الطفل في المراحل العمرية المبكرة أهمية أن نهيئ لأطفالنا بيئة مثالية تلبي كل متطلبات نمو أدمغتهم بشكل مرضي، وان نتيقن أن حرمانهم من ممارسة نشاطا معينا سيكون كفيلا بحرمانهم من الاستمتاع به والى الأبد، ذلك أن نمو أدمغتهم بشكل مرضي يتوقف على وفرة ترابط خلايا أدمغتهم العصبية التي بدورها تعمل وفق الخبرات أو الممارسات اليومية في عمرهم المبكر، فكلما تنوعت الأنشطة اليومية كلما تضاعفت لديهم ترابط هذه الخلايا والعكس يعني انتحار أو موت الخلايا العصبية التي لم تفعل عبر التجارب أو الممارسات اليومية ولو لفترة معينة، وأود أن أشير هنا إلى أهمية أن نحيطهم بالحب والرعاية اللصيقة خاصة في السنوات الثلاث - الخمس الأولى.
نشر أولا في مجلة ميدل ايست اونلاين 2010
د. سالم موسى القحطاني