قال   إميل سيوران   : (( قبل أن تولد الفيزياء والبسيكولوجيا بكثير, كان الألم يفتت المادة وكان الحزن يفتت الروح )) 

لعل هذه الحقيقة المؤلمة قد اشار اليها كتاب القران  في سورة البلد :  ((لقد خلقنا الانسان في كبد )) وهذا لا يعني انني غير معني بأوجاع والام المخلوقات الاخرى بقدر ما يهمني بهذا المقال تسليط الأضواء  على الام بني البشر البدنية والتي قد ترتبط بالحالة النفسية ؛ فقد وجد الانسان ومنذ القدم وهو يكابد اوجاع وامراض واحزان ومصاعب والام  هذه الحياة . 

الكل تألم في فترة ما , والجميع يكتب عن الالم البدني والوجع الجسماني ؛ ولكن الالم الحقيقي لا يحكى والوجع الرهيب لا يوصف , ولعل اصدق تعبير عن الالم والوجع : الصراخ والبكاء والانين والتأوه والاغماء الى حد الموت احيانا ؛ والمقصود بالألم هنا مطلق الالم البدني والوجع الجسماني سواء أكان تعذيبا رهيبا , او اجراء عميلة جراحية قاسية ومن دون تخدير , او العمل الشاق والسخرة الى حد الانهاك , او عقوبة الاشخاص بعقوبات لا تسطيع اجسامهم تحملها , او بسبب الجوع والعطش والسهر ... الخ .

وعلى الاعم الاغلب الالم  والوجع البدني – بواسطة التعذيب الحكومي او الارهابي -  لا يصيب الا اصحاب المبادئ السامية والقلوب الطيبة والشخصيات الوطنية , ولعل تاريخ العراق السياسي المعاصر من عام 1920والى 2003 بل حتى بعد هذا التاريخ  ؛ من اكبر الشواهد على ذلك , وهنالك الاف القصص والاحداث بل الملايين التي تثبت ذلك . 

اما الالم والوجع الناشئ عن الامراض والعاهات والعمليات الجراحية ... الخ ,والمنتشرة في العراق منذ عام 1920 والى هذه اللحظة ؛ فكان ولا يزال بسبب تردي الاوضاع الصحية ونقصان الخدمات الطبية وقلة الكفاءات العلمية ؛ وكالعادة نهرب من محاولة  ايجاد حلول واقعية وعلمية لهذه الالام والاوجاع الانسانية تساهم في تقليل هذا الالم او ذاك الوجع او تخفف من اثارهما وانعكاساتهما على حياة المواطن ؛ ونطلق شعارات ومقولات في قمة السذاجة من قبيل : (( ال ما يتمرض مو من امة محمد )) و (( وهذا قضاء وقدر )) و (( شيء مكتوب وقسمة ونصيب )) ومن هل الترهات و ( الخرط ) الذي يبرر استمرارية الواقع الصحي الفاسد  والمتهالك .

 وبما ان بعض الالام الجسمانية  باطنية والاوجاع البدنية داخلية لا يراها الاخرون وبالتالي لا يشعرون بك ؛ لذلك ورد في الامثال الشعبية العراقية : ((  للي ايده بالماي مو مثل اللي ايده بالنار )) و ((الصواب اللي بغيرك شدخ )) ... ؛ وصدق الشاعر  عندما قال : 

لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبُهُ … لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ

فالألم الذي تعيشه لا يشعر به احد سواك , والجرح يؤلم صاحبه وليس المستمع المعافى ؛ نعم النفس البشرية مجبولة على البوح بالآلام والتحدث عن الاوجاع امام الاصدقاء والاحباب ؛ وكما قال الشاعر بشار بن برد : 

وَلا بُدَّ مِن شَكوى إِلى ذي مُروءَةٍ ....... يُواسيكَ أَو يُسليكَ أَو يَتَوَجَّعُ .

واحيانا في رحاب المعبود او عن طريق الكتابة او الغناء ... الخ ؛ ويبقى التنظير شيء والواقع شيء اخر مختلف تماما الا ان لكل شخص منا منهج في الحياة وطريقة للتعامل مع الاوجاع البدنية والالام الجسمانية ؛  فالحياة ليست إلا قصة مؤلمة.

وحتى هذا الحل الساذج الذي يجسده المثل الشعبي : ((اذا ضاق خلقك تذكر ايام عرسك )) لا يعتبر حلا للألم والوجع  البدني ؛ بل على العكس : أشد الأحزان هو أن تذكر أيام السرور والهناء عندما تكون في أشد حالات التعاسة والشقاء ؛ بالإضافة الى ان الفرق بين الالم الاني المقيم والذكرى الماضية والتي طوتها الايام ولم يبق منها الا ومضات خيال كالفرق بين الثرى والثريا . 

والمشكلة ان الالام الجسمانية والاوجاع البدنية تفنى بفناء مدتها المقررة او بانتهاء حياة اصحابها الا انها تستحدث بصور اخرى مغايرة في حياة الانسان المبتلى بمثيلاتها او في حياة اشخاص اخرين وهكذا تستمر دوامة الالم البشري والوجع الانساني . 

فلابد لنا من دفع ضريبة الحياة وفاتورة الوجود : من دموعنا  ودمائنا و آلامنا واوجاعنا وحسراتنا وآهاتنا وصراخنا وعويلنا ...  ؛ فالحياة لا ترحم احدا .

نعم للحياة الام  كثيرة واوجاع كبيرة ، وللأقدار سطوة مريرة ولتقلبات الدهر طعنات خطيرة ، وتبقى المسافة بين الفرح والحزن قصيرة، مهما خدعنا بريق الفرح، فإن الأسى ظلمة آتية لا محالة ؛ ولعل الآية القرآنية : (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ)) تشير الى ورود جحيم  الدنيا واوجاعها  والاصطلاء بنارها المؤلمة ؛ وليس المقصود منها  دخول الكل الى نار الجحيم ؛ فلقد تلقينا ما يكفي من العذاب في هذه الدنيا .

ولا يذهب بالك بعيدا وتحسبني من الذين يؤمنون بالتشاؤمية والسوداوية والسلبية ؛ بقدر ما ابين لك الحقيقة الواقعية لهذه الحياة ؛ وصدق حكيم العراق الامام علي  عندما قال : ((اني ذقت الطيبات كلها فلم اجد اطيب من العافية ... )) ؛ لذلك فسر بعض الفلاسفة السعادة بانها انعدام الالم ؛ لان السعادة تعني اللذة – وفق راي ارسطو - , أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بها -أي اللذة- واللذة بدورها يتم تفسيرها باعتبارها غيابا واعيا للألم والإزعاج ... .