(محاولة للفهم والشرح!!)
**********************************
قال أحد الحكماء: ((
الحكم علي الشيء فرع عن تصوره))، لهذا وعلى أساس هذه ((الحكمة)) أو هذه ((القاعدة الذهبية)) من قواعد التفكير السليم والحكيم، فلا يصح أن تحكم على فكر أو مذهب أو شخص إلا بعد معرفته بشكل كافٍ وتكوين تصور ذهني صحيح عنه، فالعلم، أي جمع المعلومات الصحيحة، ثم الفهم الصحيح لأي موضوع - منطقيًا - أن يحدثا أولًا وقبل تكوين الحكم النهائي عن الموضوع، وقبل اتخاذ موقف شخصي بالقبول
أو الرفض وليس العكس!! ... لهذا لكي نحكم على (الليبرالية؟) - لها أو عليها - وقبل أن نتخذ منها موقفًا بالسلب أو الإيجاب يجب أولًا معرفة (ما هي الليبرالية؟) على حقيقتها كما هي في النظرية وكما هي في واقع الممارسة، وهنا - في هذه المقالة - سأختصر لك مفاهيم الليبرالية الثلاث الأساسية، في هذه الأسطر المعدودة التي تختزل لك عدة كتب اطلعت عليها عبر سنوات عن هذا الموضوع الشائك - إذا كنت مهتمًا بالمعرفة - وهي خلاصة اطلاعي وبحثي في مفهوم وموضوع الليبرالية.
الليبرالية، لغويا ً، كما في لغة الغربيين، تعني تارة (الحرية) وتارة تعني (التحررية) وأما، اصطلاحًا، فهي تتمثل في ثلاثة مفاهيم رئيسية وهي كما يلي:
(1) المفهوم الأول لليبرالية أو (التحررية)
-----------------------------------------
كمنهج للتفكير العقلاني التجديدي والمستنير والمنفتح الرافض للتسليم بقداسة الموروث وما هو سائد!
-----------------------------------------
يتعلق هذا المفهوم بنمط وطريقة التفكير والفهم العقلاني المتحرر من سلطة التقليد ومما هو سائد من أفكار وقوالب ومحفوظات جاهزة وموروثة!، فهي سلوك عقلي وعملي (تحرري) يتناقض مع السلوك العقلي الإجتراري التقليدي ويتناقض مع منهج تعطيل العقل لصالح النقل ومع منهج التسليم بعصمة وعبادة السلف وتقديس الموروث السائد سواء الموروث الديني أو السياسي أو الثقافي أو التاريخي بل وحتى الموروث (العلمي) المتعلق بالقوالب والمفاهيم والنظريات العلمية والأكاديمية السائدة والموروثة عن العلماء والمخترعين السابقين، فآينشتاين مثلًا، بابتكاره نظرية النسبية الخاصة والعامة، خرج عن نمط التفكير العلمي الموروث السائد من عهد نظرية نيوتن وغيرها من النظريات العلمية في الحقل الأكاديمي والعلمي المتعلقة بالعلاقة بين الزمن والكتلة والسرعة!!).... فالليبرالية هنا هي ((سلوك عقلي وعملي تحرري مستنير يرفض التقليد والاجترار والاتباع الأعمى للموروث ولما هو سائد))، فالليبرالي - بهذا المفهوم - هو كل من يحاول التفكير والإبداع والتجديد خارج صندوق الموروث والعادات والتقاليد، فهذا مفهوم أساسي من مفاهيم الليبرالية كمنهج للتفكير العقلاني التجديدي والمستنير والمنفتح، وبهذا يكون ((الانسان الليبرالي التحرري والمجدد المستنير)) هنا هو عكس ((الانسان السلفي النقلي الأثري المحافظ والمقلد المذهبي)) الذي يجتر – بدون وعي وعقل ودون مراجعة – لما هو منقول وموروث سواء ما هو منقول وموروث في علوم الدين أو ما هو منقول وموروث في علوم الدنيا أو حتى في ما هو منقول وموروث في مدارس الفن ومدارس التربية والتعليم....إلخ..... فكل من يقوم بمراجعة محفوظات ومُسَلَّمات الموروث والسائد بعقل واعٍ محاولًا التأكد من صحتها ووجهاتها أو لتجديد أصول فكرة موروثة أو مذهب ديني أو سياسي سائد، متحررًا في تفكيره من التقليد الآلي الأعمى والاجترار الأصم لما هو سائد وموروث في عصره أو في الحقل الذي يعمل فيه فهو - بهذا المعنى - ((ليبرالي متحرر مجدد منفتح))، والذي هو، كما أسلفنا، بخلاف الشخص ((المحافظ المقلد المُنغلق الذي حبس عقله في الصندوق وظل يجتر ما هو موروث وما هو سائد بدافع تقديس السلف))، وعبارة (السلف) هنا عامة، فلكل أمة سلفها، ولكل علماء ومخترعين وساسة سلفهم في مجال تخصصهم، ولكل فن وعلم سلف سابقون هم من رسم طريق هذا العلم وهذا الفن فورثه عنه خلفهم!.
(2) وأما المفهوم الثاني لليبرالية أو (التحررية):
----------------------------------------------
كمذهب اجتماعي واقتصادي وسياسي يقوم على احترام الحرية الشخصية للأفراد - كآدميين وكمواطنين - واحترام ملكياتهم الخاصة وخصوصياتهم الفردية والعائلية!.
----------------------------------------------
فالليبرالية هنا تتمثل في ((المذهب الفردي)) أو ((المذهب الانساني الفرداني)) وهو مذهب نقيض ((المذاهب الجماعية والشمولية)) التي لا قيمة عندها للإنسان الفرد، فهو مجرد بيدق على رقعة شطرنج أو جندي في معسكر لمحاربة أعداء الدولة والسلطة!، أو مجرد أداة لخدمة (الجماعة/القبيلة/المجتمع/الأمة/الدولة)، أو مجرد (ترس) يعمل في آلة الدولة، فالجماعة هنا أو الدولة أو الأمة أو العرق أو الطائفة أو القبيلة هي الأساس والهدف، وأما الافراد فهم مجرد (أدوات) و(بيادق) لخدمة القبيلة أو الأمة أو الدولة أو الكنيسة!...إلخ .. بينما الليبرالية كفلسفة اجتماعية تقوم على فكرة معاكسة لهذا التوجه الجماعي والشمولي، وهي فكرة مفادها أن ((الأفراد هم الأساس وأن الدولة والمجتمع والجماعة والقوم والأمة والقبيلة والمدينة والأسرة انما قامت جميعها في الأصل كأدوات لخدمة الانسان الفرد وحماية حقوقه الفردية وقيمته الانسانية ومساعدته في الرقي الحضاري والتفوق الفردي النفسي والفكري والأخلاقي ليكون إنسانا ًبكل معنى الكلمة))!، فعكس الليبرالية هنا هي (الجماعية الشمولية) سواء كانت هذه الجماعية ذات طابع عرقي إثني أو ديني أو وطني أو قومي أو حزبي أو طائفي أو إيديولوجي اشتراكي وشيوعي...إلخ.... وترتب عن هذا المذهب الليبرالي (الانساني الفردي) الذي يُعظّم من شأن الفرد/الانسان تعظيم (حرمة حياته وماله وعرضه وحريته الشخصية وخصوصياته ومنزله وملكيته الخاصة)... ولا شك أن ((الرأسمالية)) كنظرية اقتصادية هي نتاج هذا المذهب الليبرالي الفردي مع أن الرأسمالية في أصولها الأساسية والجوهرية ((كواقع فعلي وكنظام اقتصادي يقوم على احترام الملكية الخاصة وحرية السوق والإجارة والتجارة بغرض تعظيم ثروة الفرد وبالتالي ثروة المجتمع)) هي نظام اجتماعي طبيعي بدائي قديم كان موجودًا على أرض الواقع حتى قبل ظهور الفلسفة والنظرية الفردية بل وقبل الثورة الصناعية بقرون مديدة وإنما جاءت الليبرالية في القرن السابع عشر في انجلترا على يد (جون لوك) أولًا كدعوة للتسامح الديني مع الافراد ومع الأقليات الدينية كسلاح في مواجهة تعصب الكنيسة وتغول السلطة على حقوق الافراد، وثانيًا كفلسفة ونظرية فكرية للدفاع عن حقوق الافراد وحرياتهم الشخصية وملكياتهم الخاصة في مواجهة تغوَل سلطة الدولة وسلطة الكنيسة وسلطة المجتمع على هذه الحريات والحقوق الفردية، ثم بلغ الدفاع عن ((الليبرالية)) - كنظرية وكفلسفة اجتماعية واقتصادية وسياسية - أوجه وقمته مع ظهور التوجهات الجماعية الشمولية في القرن العشرين، أي مع ظهور الشيوعية والنازية والفاشية والاشتراكيات القومية كأيديولوجيات سياسية ذات طابع جماعي سلطوي تؤسس لأنظمة شمولية كلية أحادية (توليتارية)، فدافع الليبراليون وأنصار المذهب الانساني الفرداني عن فردانية الانسان وعن الحريات الفردية من جهة ومن جهة عن النظام الرأسمالي وحرية السوق في مواجهة تلك الأفكار والمذاهب والايديولوجيات والأنظمة السياسية الراديكالية الشمولية (المتطرفة) و (الهدامة) خصوصًا ذات الطابع الايديولوجي السلطوي التي تصوّر الرأسمالية كما لو أنها (شرٌ مطلق) أو كنظام (غير طبيعي) و(غير عادل) من حيث المبدأ ومن حيث الأساس (!!؟؟) .. تلك المذاهب والانظمة الشمولية التي تعتبر أن الاعتراف ب((الملكية الخاصة لوسائل الانتاج)) - في حد ذاته - أو اعترافها ب((نظام الإجارة والتجارة والربح)) هو - في حد ذاته - اعتراف بالاستغلال وهو بالتالي أساس الشر كله!، فقام المفكرون الليبراليون بدحض هذه المزاعم والحجج والتُّهم التي وجهها المفكرون الشموليون والشيوعيون وأنصار النظم الجماعية لينتهي الأمر بتداعي وفساد وسقوط المعسكر الشيوعي ونماذج الاشتراكيات القومية المتأثرة بالفكر الماركسي التي تهاوت بسبب اصطدامها بصخرة الطبيعة الانسانية والفردانية للبشر!.
(3) وأما المفهوم الثالث لليبرالية أو (التحررية):
-------------------------------------------------
كسلوك ومنهج للدولة في التعامل مع الافراد والأقليات؟
-------------------------------------------------
فهذا المفهوم يتعلق بوصف طبيعة الدولة وسلوكها السياسي والقانوني حيال الأفراد والمجتمع الأهلي والمدني والاقتصاد والسوق، فــ((الدولة الليبرالية)) تقوم على عدم التدخل في حريات الأفراد الشخصية ومؤسسات المجتمع الأهلي والمدني والسوق والاقتصاد ولا تمس بحقوق الافراد وحرياتهم الأساسية (الانسانية والمدنية) إلا في أضيق الحدود أو عند الضرورات القصوى مثل حدوث الجوائح والحروب والكوارث!..... أما ((الدولة الشمولية)) كالدولة الشيوعية والدول الاشتراكية القومية (النازية) و(الفاشية) والدولة الدينية (الداعشية) وما شابه...إلخ... فهي تتوسع كثيرا ً في السيطرة العامة والتامة والتدخل الحكومي والأمني والتغلغل في كل شيء في المجتمع ودس أنفها وعيونها على كل نشاط لتحويل الافراد والمجتمع الطبيعي والاقتصاد بل والفكر والفن والدين والتعليم والأدب والاعلام إلى مجرد ((أدوات)) تخدم عقيدتها السياسية الجماعية الشمولية (الإيديولوجية) وسلطتها الحاكمة ذات القبضة الحديدية والتي غالبا ً ما يتم اختزالها في الحزب ثم ينتهي الأمر باختزالها في شخصية (الزعيم القائد الأوحد الأبدي والملهم) الذي يصبح بمثابة (الأب الروحي المعصوم والمرهوب غير القابل للنقد) أو (المعبود السياسي المقدس) للدولة والمجتمع!!.
فهذه هي ((المفاهيم الرئيسية والأساسية الثلاث لليبرالية))، اختزلتها لك هنا في هذه السطور وبناء على هذا الفهم الموضوعي يمكنك أن تفكر وتقرر ((هل الليبرالية - بهذه المفاهيم الأساسية- تتعارض وتتناقض مع الاسلام كعقيدة وشريعة ومنهج حياة وفلسفة اجتماعية؟؟)) أم ((أنها تلتقي معه إلى حد كبير في كون أن الإنسان الفرد ورفعته وكرامته وسعادته هو الأساس وهو المستهدف بكل التشريعات والتنظيمات والسياسات، وما المجتمعات والدول والأوطان بل والأديان إلا لخدمة وترقية الانسان، أخلاقيًا وعقليًا وروحيًا، وحفظ حقوقه الأساسية وكرامته الآدمية))!؟؟... فكّر فيها واعد التفكير كرتين كي تتضح لك المسألة!... وعندما نقول لك (فكّر فيها) إنما نعني أن تفكر فيها بعقلك الواعي، عقلك أنت، لا أن تجتر ما تم تحفيظه لك وتلقينه إياك من قبل السلطة الدينية أو السلطة السياسية السائدة.
**********
سليم نصر الرقعي
(*) ملاحظة مهمة:
هناك فروق زمنية ومكانية وجوهرية بين (الليبرالية) و(العلمانية) و(الديموقراطية) ، وبالتالي التعامل معهم كما لو أنهم شيء واحد هو مزلق فكري وخلط للحابل بالنابل!... فقد وجدت خلطًا كبيرًا، واسع النطاق، بين هذه المفاهيم الثلاثة في أذهان العرب العلمانيين والاسلاميين على السواء، وهو ما ترتب عنه - بالتالي - خلط في الفهم وبالتالي غلط في الحكم على كل مفهوم على حدة!!.. وسأعيد شرح الفروق مرة أخرى في مقالات قادمة إن شاء الله!