علاء هلال 

سافرت برفقة عائلتي من مدينتنا "قلقيلية"  ( المدينة الفلسطينية القريبة من ساحل " البحر الابيض المتوسط "، المحجوبة عنه بسبب الحصار الاسرائيلي ) ، سافرنا الى " كفر زيباد " القريبة ،  و منها الى " كفر عبوش  "  للتهنئة بخطبة ابن عمي  ،  و مررنا أثناء سفرنا على أماكن لنا فيها ذكريات ، و لها في قلوبنا مكانة ، و نزلنا في " ديوان " كفر عبوش ( و الديوان مكان يجتمع فيه الناس أثناء المناسبات الاجتماعية ) و هناك أحكم الماضي قبضته علي ؛ فمبنى الديوان له تاريخ ، و للماضي و للتاريخ و الآثار تأثير كبير على نفسي ، و قد قيض الله لي شابا ذكيا يفيض حيوية و نشاطا - حفظه الله و رعاه- فأطلعني عل بعض آثار البلد ، فتأثرت بما رأيت و سمعت ، فكانت هذه الخاطرة . 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخيرا وجـَـدَتـه ، لا لم تنسى مكانه  لكن السنين غيرت معالم المكان ،  نظـَـرَت اليه بلهفة و حنين و حنان ، و شيء من الحزن ، و قالت بأسى : (الله يرحمهم ) ؛ تدعوا للذين كانوا سكانه ؛ تدعو لأبيها الذي هاجر الى الاردن و مات في الغربة ؛ لأمها التي أخذت تلملم أغراضها في نهاية عمرها استعدادا للعودة الى بلدها ، الى بيتها ، لكنها لم تعد اليهما أبدا  .

( " محمود " نفـسـو يرجع و يسكن هين) ؛ أضافت  " أمي " و هي تتحدث عن خالي ، عن أصغر أخوتها ، "محمود " الذي أصبحت غربته غربتين حين ترك الاردن صغيرا و سافر إلى أميركا ، فابتعد عن الوطن و عن الأهل ، و رغم سنوات الغربة الطويلة لا تزال تفاصيل الماضي بأشخاصه و أشيائه محفورة في ذاكرته ، يتحدث عنهم و عنها و كأنه غادر بالأمس القريب ، حتى أن رسالته للدكتوراة حللت خطاب أحد القنوات الفضائية المشهورة ، و وزنته بميزان من ذهب ؛ ميزان الموقف من قضايانا الوطنية و القومية ، و أهم هذه القضايا هي قضية فلسطين .

لقد عـَـمـّـرَ جدي هذا البيت قبل كارثة الخامس من حزيران بأعوام قليلة ، و لم يسكنه أبدا ، كان يأتيه زائرا وحسب فقد كان يعمل في الخارج ، بعد الكارثة كانت زيارته الأخيرة ، جاء وقتها و اصطحب عائلته و لملم أغراضه و رحل ...

قلت : ( في زيتونه قديمه ضخمه لعبنا تحتها كثير  و احنا صغار  ) ، 

(لسه موجوده هيهه ) ؛ قالت أمي ، و هي تشير اليها .

تركنا البيت و مضينا ، خرجنا من (كـُـفـُـر زيباد) متجهين الى (كـُـفر عبوش) المجاورة .

( درست فترة في كـُـفر عبوش،  كنا نروح و نرجع مشي ) قالت أمي ، و   بحثـنـا جميعا عن مدرستها فلم نجدها .

تابعنا المسير على طريق معبدة و لكنها ضيقة ، صعدنا و نزلنا ، انعطفنا مرارا حتى وصلنا الى (الديوان) ، نـزّلـت (النسوان) في بيت قريب منه ثم عدت اليه ، باركت للأهل ثم تأملت البناء القديم ، حاولت قراءة التاريخ المحفور فوق باب الديوان المرتفع (الف و متين  ، لأ ،الف وثلاثميه و.. كذا ) لم استطع التأكد .

و بينما انا كذلك ، أنهى شاب صغير ، و ذكي ، محاولاتي بلطف ، و دعاني الى زيارة ما اعتبره – و هو على حق - أكثر أهمية و جمالا ، سار ، و سرنا ورائه ، في زقاق ضيق مبلط ، و على جانبيه رأينا أبنية قديمة قد تهدمت جزئيا . توقف و فتح - بحماسة -  بابا خشبيا عتيقا .

( كـيف بدنا نشوف ؛ الـضو خفيف ) تساءلت في نفسي ، جاوزنا حجرا دائريا ضخما كان يستخدم في طحن الحبوب ، قال أنهم و جدوه مدفونا تحت الأرض ، و اضطروا الى استخدام (جرافة) لانتشاله و نصبه في هذه الساحة الصغيرة المقابلة للبناء الأساسي ، أضاء مرشدنا المبنى ، و اضاء معه الساحة ، فرأيت ترميما متقنا لكامل المكان ، و لفتت انتباهي أحجارا تحمل نقوشا مختلفة ثــُـبـّـتـت على جدار بجانب باب البناء ، أحسست انها ليست في مكانها ( هذي الحجار القيناها مدفونه ، و مـَـعـِـرْفـوش مكانها فثبتوها ع الحيط ) قال صاحبنا منهيا حيرتي و تأملي .ِ

أبديت اعجابي بهذا العمل المهم مما شجع صاحبنا على القول مفتخرا - و حق له أن يفتخر - أن أحدا من خارج البلد لم يعمل في تنفيذ الترميمات (اهل البلد عملوا كل اشي ) . أبديت تقديري لهم ، و تذكرت الحفريات المتواصلة  التي يقوم بها  الاحتلال في " القدس " ليثبت أن له تاريخا في هذه الأرض يبرر به احتلالها ، و تذكرت أثارنا التي نهملها (   في بلدي سمعت عن آثار تم دفنها بالإسمنت ، بكل برود و قسوة ، ثم تم البناء فوقها ) .

(اللي ملوش تاريخ بيعـملو تاريخ ) قلت لصاحبنا منهيا حديثي عنا و عنهم ؛ عن الفلسطينيين العرب أصحاب الأرض الذين يشيدون البيوت الفارهة الحديثة فوق آثار بلادهم ، و عنهم ؛ الصهاينة المحتلين الذين ينقبون في الارض بالطول و العرض و العمق ، و باستمرار و دون كلل ، ليثبتوا حقهم التاريخي المزعوم . قال لي – و قد وصلنا الى الديوان حيث بدأت رحلتنا - (شايف هذا الدرج حاولوا يهدموا حتى يوسعوا الشارع ، أهل البلد كلهم رفضوا ، و حاولوا يبنوا مضافة فوق بنايات قديمة ، بدهم يـرقـّـونا – اضاف ساخرا -  بس رفضنا ) .

عدت الى البيت متعبا و لكني لم أنم مباشرة ؛ استرجعت ما رأيته و سمعته في تلك الليلة ، أحسست بأن فيه ما يستحق التدوين لكن النوم سرق الفكرة فورا .

                                                                                       ***

 أما الآن - و قد دونت ما حدث – فقد تأملت في هذه (الرحلة الى الماضي) و أدركت أن الحفاظ على تاريخنا و ارثنا  الشخصي و العائلي ، جزء مهم من عملية الحفاظ على تاريخنا و ارثنا الفلسطيني و العربي ، ان هذا و ذاك فعل ثبات و مقاومة واحد .

علينا أن نروي لأبنائنا " قصتنا العائلية " تماما كما نروي لهم " قصة وطننا " ، و علينا أن نعلمهم الحفاظ على " موروثاتنا العائلية "  تماما كما نعلمهم الحفاظ على " آثار بلدنا " ؛ علينا ان نحافظ على " عروبة " اسماء اولادنا و شوارعنا و محلاتنا ، و على طريقة كلامنا و صنع طعامنا ، و على طراز لباسنا ، تماما كما نحافظ على عروبة قرانا و مدننا .

انني اعتقد جازما أن حفاظنا على تميزنا ، و على " ذاكرتنا العائلية الوطنية العروبية " أهم من كل اشكال النضال الأخرى ؛ علينا ان نبقي الماضي حاضرا ؛ ان حكايات الوطن ، الممزوجة بحكاياتنا الخاصة ، تعزز انتمائنا الواسع الرحب للوطن بدلا من الانتماءات الضيقة لهذه الجهة او تلك ، و هذا واجب الوقت على ما اعتقد ! .