من افضل ما قيل عن الشيب والتقدم بالسن ؛ شعر المنصور بن أبي عامر :
“يا ليت شعري ألا من منجي من الهرم ....... أم هل على العيش بعد الشيب من ندم”
يظهر شيب الشعر عند الرجل عند الوصول إلى سن معين ، حيث يختلف كل انسان عن الاخر ، ولكن من المؤكد أن الشعر الابيض سيظهر لا محالة ، والشيب يعني التقدم بالعمر والكبر والهرم , لذلك قالوا : الشيب عنوان الكبر بل حذر البعض منه قائلا : انه نذير المنية ورسول الموت , ومما قاله الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي بهذا الصدد : (( رأيت الشعراء البيضاء في مفرقي فارتعت لمرآها، كأنما خيل إلى أنها سيف جرده القضاء على رأسي ، أو علم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل )) …؛ وقد يعني الهم والحزن والقهر؛ فالشخص مرهف الحس يتأثر بالأحداث والمواقف كثيرا مما يسبب له ظهور الشيب ؛ لذلك جاء في المثل الالماني : ((رأس المجنون لا يعتريه الشيب )) ... .
الانسان عبارة عن اجزاء بين الحين والاخر يموت جزء منه ؛ فمرة بويصلات الشعر السوداء , ومرة توقف البنكرياس عن العمل والاصابة بمرض السكر , واخرى بتعطل احدى الكليتين ... وهكذا ؛ الى ان يبقى اخر جزء مهم فيه الا وهو القلب فعند توقفه تنتهي فصول المسرحية المأساوية , بالإضافة الى الاجزاء الحيوية الاخرى غير الملموسة والتي اشار اليها حكيم العراق الامام علي بقوله : (( إن عمرك عدد أنفاسك ؛ فالعمر أنفاس معددة )) وكلما ذهب نفس منك – بالشهيق والزفير - نقص من عمرك بمقداره , فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك ... .
وهذه التغييرات البيولوجية والتحولات الجسمانية تتبعها اخرى عقلية ونفسية وروحية ؛ فكلما تقدمنا في العمر ضعف البصر وازدادت البصيرة ... ؛ فما كنت تراه من الاوليات يصبح الان من الهوامش , وما كان يعنيك تعرض عنه وتهجره هجرا جميلا ... ؛ ونصبح مصداقا لقول نيكولاس سباركس : (( كُلما نفهم أنفُسنا أكثر ، مع تقدُمنا في العُمر ، سنُدرك و نُلاحظ أن كثير من الأشخاص الذين نعرفهم منذ زمن ، أصبحوا لا يرون الامور كما نراها نحن ، وأصبح ما يجمعنا سوياً أقل . ولذلك في مرحلة ما يجب عليك أن تحتفظ بذكرياتك الرائعة معهُم ، ولكن عليك المُضي قدماً في حياتك بدونهم )) .
و عندما يسير قطار العمر بك سريعا تزدحم الاوليات وتتداخل المسؤوليات وتختلط الامور وتتساقط الاوراق والملفات ؛ وتعيش احيانا حالات متناقضة فمرة تريد اهمال كل شيء والتفرغ لترميم ما بقى من ذاتك التي ادماها الدهر وخربها الزمن والاستعداد للانطلاق بالروح نحو الملأ الاعلى والهجرة نحو العالم الاخر ؛ كالمحكوم بالإعدام و هو في قاعة الاعدامات لا يعير اهتمامه لاي شيء سوى الخوف من المجهول وان أجراس الموت تنتظره خلف ابواب غرفة المقصلة , او الاستعجال بإنهاء عذاب الوجود وتيه الحياة ... ؛ واخرى مغايرة لما مر انفا ؛ اذ نقدر الوقت ونحسب لليوم بل للساعة الف حساب ويزداد تعلقنا بالحياة وبمن حولنا ونفرح بالأشياء التي كنا نسأم منها , ونهجم على متع الحياة هجوم الفاتح المنتصر , ونتأمل جمال الكون والطبيعة والاشياء ونتفحص دقائق الامور ؛ لان الروح تبقى ( خضرة ) كما يقول المثل الشعبي العراقي .... .
كان البعض يعتقد ان الشخصية تظل مستقرة نسبيا طيلة العمر، وهو الاعتقاد الذي تشير الدراسات العلمية إلى عكسه حاليا ؛ فخصالنا تتبدل طوال الوقت، وبحلول السبعينيات والثمانينيات – او حتى قبلها احيانا - من العمر، نكون قد مررنا بتحولات لا يُستهان بها على صعيد طبيعة الشخصية .
فكلما تقدمَ بنا العمر أدركنا بأن لا شيء يعدل راحة البال والعافية ؛ فلا جاهٍ ولا منصبٍ ولا لقبٍ تعوضها ... وتزداد رغبتنا في التحرر من اغلال المجتمع وقيود البيئة ... ؛ التحرر من كل ما يؤذينا على الاطلاق ... , وتقوى ارادتنا على نبذ المشاعر السلبية : من أشياء لا حاجة لنا بها بعد الان , من اشخاص سلبيين يستهلكوننا بطريقة مقززة , من افكار طوباوية وسوداوية , ومن تقاليد بالية وعادات خاطئة وموروثات هلامية مهلهلة ... ؛ باختصار التحرر والانعتاق من كل شيء سيء وسلبي على الاطلاق .
ربما تأتي هذه الرغبة العارمة في التحرر والانعتاق ؛ لان الحياة لم يعد فيها متسعا لمزيدا من القيود والاصر والقيود والتفاهات والقشريات والسطحيات والمسؤوليات ... ؛ ربما نضجنا بما يكفي وادركنا بأنه لا شيء مهما علا يستحق ان يقيدنا ولا حتى مشاعرنا ... ؛ ولعل هذه الخطوات الكبيرة والتحولات الكبرى تعد تمهيدا لتحرر الروح من الجسد لتخرج منه كما دخلته اول مرة , وتعود الى خالقها او بارئها او الى طبيعتها التي جاءت منها ما شئت فعبر ؛ المهم انها تستعد لموعد الاقلاع نحو الملأ الاعلى او الهبوط والاندكاك في طبقات الارض ... .
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ ... وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــع
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ ... وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا ... كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ ...أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
وَأَظُنُّهَا نَسِيَتْ عُهُودًا بِالحِمَى ... وَمَنَازِلاً بِفِرَاقِهَا لَمْ تَقْنـــَعِ