لست هنا – في هذه السلسلة : سلسلة الحركة الدينية المنكوسة – بصدد تقييم الشخصيات الدينية والمراجع الفقهية والقادة الحركية والاحزاب والمنظمات والمؤتمرات الاسلامية او مناقشة الاحداث والوقائع الدينية والارهاصات والمخاضات المذهبية ؛ وانما يقتصر دوري على نقل ما يدور حول هذه الاحداث والوقائع وبيان ملابساتها واسبابها ودوافعها ونتائجها واثار تداعياتها , و الشخصيات والاشكاليات التي ترافقها وقراراتها وتصرفاتها وخطواتها ومخططاتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الامة العراقية ولاسيما الاغلبية العراقية , وعلاقاتها بالعالم العربي والاسلامي والعالمي وما ينعكس منها على الواقع العراقي والشيعي والسني بل ومطلق حركات ومذاهب الاديان المنتشرة في العراق ؛ متناولا تلك القضايا المعقدة والشائكة على بساط البحث بالوصف والتحليل .
قد ضاق بالأمر ذرعا الشاه محمد رضا ؛ اذ لم يستطع احتمال تحركات ونشاطات السيد الخميني الدينية والسياسية والشعبية ؛ مما دفع الشاه محمد رضا وبمشورة بعض رجال الدين المؤمنين بحكم الشاه – اذ يعتبره البعض وقتذاك : ملك الشيعة - , لنفي السيد الخميني الى تركيا وتعرض فيها للعديد من الضغوط والمضايقات بسبب الوضع السياسي القائم آنذاك .
كان اول محلٍ لإقامة السيد الخميني في تركيا هو فندق ( بولوار بالاس) في أنقرة (الغرفة رقم 514 من الطابق الرابع) , ولأجل اخفاء محل اقامة السيد الخميني ، تمّ في اليوم التالي نقله الى شارع اتاتورك , ثم نقل الى مدينة ( بورسا ) الواقعة على بعد 46 كم غرب أنقرة في تشرين الثاني عام 1964م لأجل عزله وقطع أيّ نوع من الارتباط معه .
وفي تلك المدّة سُلب السيد الخميني امكانية إيّ تحرك سياسي ووضع تحت مراقبة مباشرة ومشددة من قبل رجال امن ايرانيين تم ارسالهم لهذا الغرض بالتعاون والتنسيق مع قوات الأمن التركية .
دامت إقامة السيد الخميني في تركيا احد عشر شهراً، قام نظام الشاه خلالها ـ بسرعة منقطة النظير ـ بتصفية بقايا المقاومة في ايران، وبادر في غياب السيد الخميني الى تنفيذ الاصلاحات التي رغبت أميركا في تنفيذها .
اضطر النظام الايراني ـ واستجابة لبعض الضغوط التي مارستها الجماهير وبعض رجال الدين ـ الى السماح بسفر بعض الممثلين عن الجماهير والعلماء للاطمئنان على صحة السيد الخميني وسلامته.
وخلال مدة إقامته في تركيا اشار السيد الخميني ومن خلال الرسائل التي بعث بها الى اقاربه ومؤيديه وعلماء الحوزة ، اشار ـ تلميحاً وعن طريق الرمز والدعاء ـ الى ثباته على مواقفه الجهادية، كما طلب ارسال بعض كتب الادعية والكتب الفقهية اليه.
كانت فترة الاقامة الاجبارية في تركيا فرصة ثمينة للسيد الخميني اغتنمها في تدوين كتابه او رسالته العملية الفقهية : (تحرير الوسيلة). وهو الكتاب الحاوي لفتاوى السيد الخميني الفقهية، ذكر فيها ـ ولأول مرة ـ مسائل تتعلق بأحكام الجهاد والدفاع والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والمسائل الفقهية الهامة الاخرى، والامور التي كانت حتى ذلك الوقت منسيةً لا يتطرق لذكرها احد ؛ وهذه الرسالة عبارة عن حاشية ( تعليقات ) للسيد الخميني على كتاب وسيلة - ( او وسيلة الخلاص ) - النجاة للسيد أبي الحسن الاصفهاني ...؛ وقد أثار الكتاب بعض الجدل لدى نقاد السيد الخميني بسبب بعض المسائل الفقهية والتي وردت فيه حول جواز الممارسات الجنسية مع القصر، بما في ذلك الأطفال الصغار، والتي اشتهرت : بـ"زواج المتعة بالرضيعة" او جواز تفخيذ الرضيعة ؛ وما اظنها للسيد الخميني بل لعلها من فتاوى الرسالة الاصلية – الوسيلة – للمرجع الديني السيد ابي الحسن الاصفهاني ؛ ولعل السيد الخميني ابقى الفتوى على حالها ولم يجتهد فيها وذلك لقلة المصادر او تغافل عنها او فاتته سهوا , ولأنه اقر بوجود كتابين فقهين معه فقط في منفاه ؛ ولأنها – فتوى جواز تفخيذ الرضيعة – تخالف ذوقه العام ومتبنياته العقلانية والعرفانية والاخلاقية .
وفي الخامس من تشرين الاول عام 1965 م، تم نقل السيد الخميني بمعيّة نجله السيد مصطفى الخميني من تركيا الى منفاه الجديد في العراق .
ولا يسعنا في هذه العجالة التعرض الى علل واسباب تغيير منفى السيد الخميني ؛ ولكن نشير باقتضاب الى امرين فقط ؛ الاول : انها تمثلت في الضغوط التي مارسها المتدينون والحوزات العلمية داخل البلاد ، والمساعي والتظاهرات التي قام بها المسلمون خارج البلاد من اجل اطلاق سراح السيد الخميني ،و كذلك حرص النظام الايراني والشاه علي اظهار الاوضاع بالمظهر العادي والتدليل علي قدرة وثبات نظامه للحصول علي مزيد من الدعم الأميركي ؛ اضافة الي المشاكل الامنية المتفاقمة في تركيا وتزايد الضغوط الداخلية من قبل الاسلاميين على الحكومة التركية ؛ والامر الثاني – ولعله الاهم - :
علم الشاه بحقيقة حكام العراق المجرمين الطائفيين والمنكوسين القوميين والبعثيين ومن وراءهم قطاعات وتجمعات الفئة الهجينة الذين يهدفون الى الغاء المظاهر الدينية والمراسم الحسينية وتغييب الروح الشيعية العراقية الاصيلة من حياة المجتمع العراقي , وكذا هو يعلم بسطوتهم الاجرامية على المجتمع العراقي وقبضتهم الحديدية المدعومة دوليا وعربيا لإبعاد رجال الدين الشيعة عن اي دور في الحياة العامة ... وقد اتفقت الحكومة الايرانية مع الحكومة العراقية بشان ابقاء السيد الخميني في العراق فاشترطت الاخيرة بان لا تتدخل ايران بإقامته في العراق ولا بمصيره وان لا تسمي مدة بقائه بالنفي ؛ اما الحكومة الايرانية فقد طالبت بعدم اجراء أي مقابلة معه وان لا ينشر الخبر في الصحافة والاعلام .(1)
واستمر نفي السيد الخميني ثلاث عشر عاماً كان طوال هذه الفترة حذرا يقظا كيسا , ولم يكن بعيدًا عن أعين جهاز ( السافاك ) فقد كانت ترسل التقارير الى الحكومة الايرانية , وكذلك رجال امن السلطات الطائفية الهجينة في العراق ؛ ناهيك عن سيطرة التيارات والمدارس الدينية الجامدة والصامتة والتقليدية والانهزامية والتبريرية على الوضع العام الا ما شذ وندر , فالوضع العام والجارف والمسيطر على مقاليد الامور كان يدعو للدرس والخيرة وقبض الخمس والنذور والتفرغ للشؤون الدينية الضيقة والافتاء في الامور الفردية والشخصية فحسب , اما المظالم التي تتعرض لها الامة العراقية بل وشيعة العالم , والانتكاسات التي مرت بمسيرة الشيعة العراقيين في هذا البلد المنهوب من قبل الاقلية الهجينة الباغية فهذا شأن لا يعنيهم البتة ؛ اذ للبيت رب يحميه !!
بل ان البعض منهم لعبوا دورا هاما – في السر - في دعم مشاريع السلطات الهجينة المتعاقبة المشبوهة والمنكوسة ؛ فتحولوا الى اداة بيد الحاكم الطائفي الهجين , اذ كرسوا سيطرة الحكومات الهجينة الحاقدة بفضل تعاونهم او سكوتهم او عدم مبالاتهم بشؤون الاغلبية العراقية وانصرافهم للدراسات الدينية النظرية والطوباوية وشؤونهم الخاصة ومصالحهم المادية والمعنوية .
وفي النجف الاشرف اسماء كبيرة ايضا يعرفها القاصي والداني من شيعة ايران والعراق والعالم ,فأراد الشاه ان يضيع السيد الخميني الثائر - صاحب المشروع السياسي - وسط زحمة هذه الاسماء الكبيرة والالقاب الدينية العظيمة ؛ وان كان البعض اسمه أكبر من فعله وقد ذكر السيد محمد حسين فضل الله في احدى المرات : (( ان البعض منهم كان لا يستطيع ادارة شؤون بيته فضلا عن ادارة الامة ومتابعة قضايا الشيعة ..!!)) .
وقد أوعز الشاه الى عملائه او انصاره ومحبيه في الحوزة العلمية لمحاربة السيد الخميني والتصدي لأفكاره السياسية والدينية بل وتفنيد أراءاه السياسية والعلمية والتضييق عليه وعلى اتباعه ومريديه والمتأثرين بنهجه وافكاره , والتأثير على البسطاء والسذج من الناس بغية تشويه سمعة السيد الخميني وابعاد الجماهير المستضعفة عنه ؛ والشيء بالشيء يذكر ؛اذ ذكر الكاتب حسن العلوي في احد لقاءاته – بإحدى الفضائيات – ان صدام قال له - وبالحرف الواحد- بعد انتصار ثورة السيد الخميني في ايران : (( ربعك غشوني... )) ؛ وهذا يكشف لنا دناءة وخسة بعض العملاء من رجال الدين الذين كتبوا تقارير كلها افتراءات واكاذيب تحاول وصف السيد الخميني بأسوأ الاوصاف كعادتهم المعروفة في تسفيه الامور وتسطيح المشاريع السياسية والدينية وتحجيم الشخصيات وتسقيط القامات الفكرية والاستهزاء بالناس ( العوام كما يعبرون عنهم ..!!) ... .
فضلا عن المتطوعين لله وبصورة مجانية من ابناء الحوزة النجفية الذين لا هم لهم سوى اجهاض الحركات الجديدة وذات الجنبة السياسية والاشكال على الافكار والرؤى التنويرية او المغايرة ومواجهة المشاريع الاصلاحية ومحاربة كل ما هو جديد – ولهذا اطلق عليهم ساسة وحكام العراق مصطلح : ( الرجعية ) - , هؤلاء ايضا صاروا اعوانا للشاه من حيث لا يشعرون ضد السيد الخميني .
بالإضافة الى وجود شرائح اجتماعية واسعة من اهالي النجف الاشرف تضمر العداء للفقهاء و رجال الدين و طلبة العلوم الدينية وتنظر اليهم بعين الشنآن والبغض والعدوان وتسيء بهم الظنون ولنا على ذلك شواهد تاريخية عديدة منها : هجرة السيد الشيرازي من النجف الاشرف الى سامراء بسبب مضايقات النجفيين ... , و انطلقت تظاهرة جماهيرية كبيرة في النجف الاشرف في عقد السبعينيات من القرن المنصرم يقودها النجفيون البعثية وعملاء السلطة الهجينة وهم يهزجون الاهازيج ويرددون الشعارات التي تمجد بالبعث وتذم الحوزة ومنها : (( النجف قلعة للبعث موتوا يا رجعية )) وكانوا يقصدون بذلك رجال الدين والحوزة العلمية في النجف الاشرف .
فخطط الشاه وفقا للحقائق السابقة تفضي الى نتيجة مفادها : ان هذه الحواجز الكبيرة سوف تحدُّ من فعاليات السيد الخميني ؛ وسيبقى السيد الخميني الثائر السياسي وحيدا فريدا وصوتا نشازا في هذه الاوساط السلبية و المدعومة من قبل قوى الاستكبار والاستعمار بطريقة مباشرة وغير مباشرة , مما قد يضطر السيد الخميني الى السكوت وترك التحرك السياسي والعمل الثوري ومجاراة تيار الاموات والمتخاذلين والمنكوسين والقاعدين والمنتفعين ... ؛ فقد تصور الشاه حتمية غرق السيد الخميني في مستنقع الوحل العراقي ويصبح مصداقا جليا لعبارة : ذهب مع الريح ...
.........................................................................................
- - بحث الامام الخميني اطلالة على سيرته الذاتية / اعداد : المدرس الدكتور سلام خسرو جوامير / الجامعة المستنصرية /كلية التربية /قسم التاريخ -