الحرب اليابانية الروسية.. أول نصر آسيوي على أوروبا في العصر الحديث | الموسوعة

                                 

اندلعت الحرب اليابانية الروسية في الثامن من فبراير/شباط 1904، بعد فشل مفاوضات اليابان مع الروس في تقاسم النفوذ على المناطق المستعمرة، واستمرت حتى الخامس من سبتمبر/أيلول 1905؛ مخلفةً آلاف القتلى والجرحى، وأسفرت عن هزيمة الروس وتوقيع معاهدة بورت سموث التي جعلت اليابان تقف في مصاف الدول الكبرى.

بعد هذه الحرب أصبحت اليابان المنتصرة أول قوة آسيوية في العصر الحديث تهزم قوة أوروبية، وتجبرها على التخلي عن سياستها التوسعية في شرق آسيا.

إرهاصات تاريخية

بحلول أوائل القرن 17، كانت روسيا بسطت سلطتها على كل سيبيريا التي تمتد من جبال الأورال (تقع في روسيا وكازاخستان وتصل بين قارتي آسيا وأوروبا) غربا إلى المحيط الهادي شرقا، لكن محاولاتها للتحرك جنوبا كانت تفشل باستمرار أمام وقوف الصين لها بالمرصاد.

وخلال القرن 18، أدركت روسيا حاجتها إلى منافذ على البحر، ولأن الصين استمرت في منعها من الوصول إلى منطقة أمور (بلاغوفيشتشينسك) عند مصب نهر زيي، لجأت روسيا إلى القوة في نهاية عهد الإمبراطور نيكولاس الأول (1825-1825).

وبسبب مواجهتها المستمرة ضد بريطانيا العظمى وفرنسا والاضطرابات الداخلية، لم تكن الصين قادرة على مقاومة الضغط الروسي، وبموجب معاهدة أيغون عام 1858، التي أكدتها اتفاقية بكين عام 1860؛ تنازلت الصين لروسيا عن كل الأراضي الواقعة شمال أمور، جنبا إلى جنب مع المنطقة البحرية شرق نهر أوسوري من مصب نهر أمور إلى حدود كوريا.

كانت السياسة التوسعية الروسية تثير انزعاج القوى الأوروبية الأخرى، وفي عام 1861 أحبطت بريطانيا العظمى محاولة روسية لإنشاء قاعدة بحرية في جزيرة تسوشيما الواقعة بين كوريا واليابان.

شهد عهد الإمبراطور ألكسندر الثالث (1881-1894) إحياء الاهتمام بتطوير الأجزاء الآسيوية من الإمبراطورية الروسية، حيث أرسل ألكسندر ابنه نيكولاس الثاني في جولة عام 1891 حظيت بتغطية إعلامية واسعة في شرق آسيا.

في هذا الوقت، بدأ العمل في السكك الحديدية العابرة لسيبيريا، حيث أصبحت السياسة التوسعية الروسية أكثر نشاطا ووضوحا، ومع اندلاع الحرب الصينية اليابانية الأولى عام 1894 ظهرت اليابان كقوة جديدة صاعدة في آسيا، وتنازلت الصين عن شبه جزيرة كوانتونغ (لياودونغ) لليابان إثر توقيع معاهدة شيمونوسيكي في 17 أبريل/نيسان 1895.

رسم يوضح إرسال تعزيزات ومؤونة للجيش الياباني أثناء الحرب الروسية اليابانية عام 1905 (غيتي)

الأسباب

فقدان اليابان سيطرتها على كوريا عام 1895 بعد أن طلبت الأخيرة مساعدة القوات الروسية لها ومنحتها شرعية الإقامة فوق أراضيها، أشعل حدة التنافس بين روسيا القيصرية واليابان حول منشوريا؛ كونها تحتوي على احتياطات ضخمة من الذهب والحديد والفحم.

أصبح التنافس الاستعماري في السيطرة والنفوذ على الشرق الأقصى -خاصة في منشوريا وكوريا بين دولتين قويتين مثل روسيا واليابان- من أهم الأسباب الداعية لاندلاع الحرب بينهما، لا سيما أن اليابان ترى كوريا الخنجر الواقع بينها وبين الصين، مما يمنحها أهمية إستراتيجية تدفع اليابان لمنع روسيا من السيطرة عليها تحت أي ذريعة أو مسوغ.

وفي عام 1896، أبرمت روسيا تحالفًا مع الصين ضد اليابان، وبموجب شروطه حصلت روسيا أيضا على الحق في القسم الشرقي من السكك الحديدية العابرة لسيبيريا عبر منشوريا عن طريق هاربين إلى فلاديفوستوك، والحق في تمديد خط فرعي من هاربين إلى موكدين (شنيانغ الآن) وداليان.

حصل الإمبراطور الألماني ويليام الثاني -خلال زيارة لروسيا عام 1897- على دعم ابن عمه نيكولاس الثاني لضم كياوتشو (تشينغداو الآن)، وهي مستعمرة ألمانية في الصين بين عامي 1898-1914.

بعد ذلك، قرر نيكولاس الثاني بنفسه الاستيلاء على ميناء آرثر (شمال شرقي الصين)، رغم ضماناته الخاصة بسلامة الأراضي الصينية، وتمكن في الثامن من أبريل/نيسان 1898 من الفوز بعقد إيجار ميناء آرثر لمدة 25 عامًا، وهكذا دخلت روسيا في احتلال شبه جزيرة كوانتونغ، التي استبعدت اليابان منها قبل 3 سنوات فقط.

عام 1903، سعت اليابان إلى عقد جولات من المفاوضات مع روسيا ترمي إلى اعتراف الأخيرة بحق اليابان في التصرف في كوريا، إلا أن مماطلة الروس بالرد على الرسائل اليابانية وإرسال القيصر نيكولاس الثاني قوات ضخمة باتجاه الشرق عبر خطوط سكة حديد سيبيريا أدى إلى فشل المفاوضات، وإعلان اليابان الحرب على روسيا.

The diplomatic corps farewell to Komura Jutaro, July 7, 1905, Tokyo, Japan, Russo-Japanese War, photograph by Underwood, from L'Illustrazione Italiana, Year XXXII, No 34, August 20, 1905.
الأطراف المتحاربة أجرت اجتماعات دبلوماسية رفيعة لوقف الحرب الروسية اليابانية عام 1905 (غيتي)

البداية

قبل إعلان إمبراطور اليابان الحرب، توجه أسطوله إلى ميناء آرثر في المياه الكورية لتوجيه الضربة الأولى المباغتة لتدمير الأسطول الروسي المتمركز هناك، والمكون من 3 سفن حربية، ونجح في تدميرها كاملةً.

في اليوم التالي، اقترب الأسطول الياباني من مرفأ شيموليو الكوري، حيث ترسو سفينتان روسيتان هما الطراد “فارباغ” والبارجة المسلحة “كوربيتش”، ونجح الأسطول في إغراقهما.

وفي العاشر من فبراير/شباط 1904، هاجمت القوات اليابانية الأسطول الروسي من جديد في المحيط الهادي، فأغرقت السفن التجارية وزرعت الألغام البحرية، محققة أكبر انتصاراتها بعد إغراق سفينة القادة الروسية وعلى ظهرها قائد الأسطول و600 جندي روسي.

وبالتزامن مع الانتصارات البحرية، واصلت اليابان انتصاراتها البرية وإسقاط المواقع الروسية؛ فاحتلت “وفغ” و”هوانغ سينغ”، ثم استولت على “سي ماتسو”، وأجبرت الروس على الانسحاب إلى منطقة “موكدين”.

معركة ميناء آرثر

بعد فشل المفاوضات اليابانية الروسية الرامية إلى إعادة كوريا إلى سيطرة اليابان، وقبل أيام من إعلان إمبراطور اليابان الحرب على روسيا، وفي ليلة الثامن من فبراير/شباط 1904 وجهت اليابان ضربة استباقية مفاجئة لميناء آرثر، أدت إلى غرق سفينتين روسيتين وتدمير القوة الروسية في الميناء وسقوط العديد من الجنود الروس بين قتيل وجريح.

واستمرت الانتصارات المتتالية من موقع لآخر، ثم خضع الميناء لحصار شديد، واشتعلت معركة “نانشان”، وتمكنت القوات اليابانية بقيادة ياساكوتاوتو من السيطرة على كامل الميناء، ثم اندلعت معركة “لياو-يونغ”، التي أدت إلى سقوط آخر معقل للروس في ميناء آرثر.

معركة خليج جيمولبو

أنذرت القوات اليابانية قيادة السفينتين الروسيتين “كورياتس” و”فارياج” الراسيتين في خليج “جيمولبو” بالمغادرة وإلا ستتعرضان للهجوم من قبل المدمرات اليابانية، وقبل انتهاء مدة الإنذار استجابت السفينتان إلا أن حظ سفينة “كورياتس” كان سيئًا حيث غرقت ومات من فيها، وأما الناجون فوقعوا في قبضة الجيش الياباني.


معركة ممر موتين

تقدمت القوات اليابانية إلى ليو يونغ، وأثناء عبورها نحو المدينة تعرضت لهجوم مباغت من قبل الروس في ممر موتين الذي يبعد عنها 4 أميال، ثم سرعان ما انقلبت الأحوال وتمكنت القوات اليابانية من السيطرة على الممر، ثم واصلت المسير واحتلت قرية سن-هنغ، ثم مدينة كي-بنغ التي صمدت أمام الجيش الياباني 3 أيام قبل أن تسقط.

لم ييأس الروس من محاولة استرداد ممر موتين متفوقين لأول مرة على الجيش الياباني من حيث العدد والعتاد، إلا أن نقص إسناد المدفعية التي دمرت تحت ضربات جيش اليابان جعلت محاولة الروس تبوء بالفشل.

معركة موكدين البرية

زحف اليابانيون لاحتلال سان مينتن، وأثناء الزحف علموا أن القوات الروسية سبقتهم إليها، فقرروا العودة وتغيير الخطة العسكرية الرامية لاحتلالها، وبدؤوا الهجوم من الجنوب حيث الجهة اليمنى لنهر خونغ، ثم توجهوا إلى الشمال لاحتلال مدينة سينتخيزا، والتمركز إلى غرب محطة موكدين.

هاجمت اليابان القوات الروسية إلا أن هجومها باء بالفشل وتكبدت خسائر وقتلى وجرحى، وحاول اليابانيون احتلال الجهة اليسرى لنهر خونغ، لكن هذه المحاولة فشلت، مما دفعهم للتوجه نحو تعزيز جبهة الشمال من موكدين في رايون، وبحلول مارس/آذار 1905 هاجمت اليابان موكدين من جديد بقوات كبيرة موجهة ضربة حاسمة لروسيا في الشرق الأقصى، مما دفعها للانسحاب باتجاه الشمال من موكدين.

معركة تسوشيما

تعد هذه المعركة آخر المعارك التي خاضتها روسيا ضد اليابان، وفيها قررت أن تقلب الموازين التي ما زالت لصالح اليابان، فاتجهت لاتخاذ خطة جديدة تقوم على أساس أن يبحر أسطول روسيا المتواجد في بحر البلطيق حول أفريقيا لعبور المحيط الهندي والوصول إلى ميناء فلادفستوك.

ولسوء حظ الروس فقد نقص الفحم الحجري المسيّر للسفن الحربية الروسية، مما اضطرها لدخول مضيق تسوشيما المحاذي لليابان، الأمر الذي جعل الأسطول الروسي يقع في قبضة الجيش الياباني المتفوق على روسيا من حيث العتاد الحربي وقوة السفن وسرعتها، مما أدى إلى سقوط آلاف القتلى في هذه المعركة وحدها، وفقدت روسيا هيبتها كدولة كبيرة لها وزنها في السياسة الأوروبية والعالمية.


النتائج

الحرب استمرت نحو سنة خاض فيها الجيشان الياباني والروسي معارك ضارية بحرية وبرية، انتصر في أغلبها الجيش الياباني وتكبد الجيش الروسي خسائر فادحة، ولا ريب أن معركتي تسوشيما وموكدين -المعروفة أيضًا في اليابان باسم “الحادثة المنشورية”، وفي الصين باسم “حادثة 18 سبتمبر”- حملتا أهمية كبرى في انتصار اليابان وفرضها شروط الهزيمة على روسيا في معاهدة “بورت سميث” في الولايات المتحدة التي كانت بمثابة فرض اليابان شروطها على روسيا.

ومع أهمية تلك المعركتين فإن البداية كان لها الأثر المهم في استمرار الانتصارات اليابانية، إذ باغتت الروس في منطقة ميناء آرثر ثم حصارها واحتلالها، وانسحاب الجيش الروسي بعد أن لحقت به الخسائر المادية والبشرية الفادحة.

الخسائر

وقعت معارك متعددة بين الروس واليابان في مواقع متنوعة أدت إلى سقوط العديد من القتلى بين الطرفين؛ ففي ميناء آرثر قُتل في غرق السفينة الروسية بيتروبالفالوفسكي أكثر من 600 جندي روسي.

وفي معارك أخرى في ميناء آرثر سقط من الروس 1100 مقاتل، وفي المقابل قتل أكثر من 700 جندي ياباني.

وفي معركة ممر موتين خسر الروس أكثر من 9000 قتيل، وفي معركة تاشي تو خسرت روسيا 600 جندي.

كان لارتفاع عدد القتلى في معركتي موكدين وتسوشيما الأثر الكبير في انتهاء الحرب، حيث بلغت أعداد القتلى الروس في موكدين 70 ألف قتيل، في حين خسرت اليابان 50 ألفا، وفي معركة تسوشيما خسر الروس 5 آلاف قتيل و6 آلاف أسير، بينما خسر اليابانيون 117 قتيلا و583 جريحا.


حسمت معركتا موكدين وتسوشيما القرار بشأن إنهاء الصراع بعد الخسائر الفادحة التي مني بها الطرفان، وإدراك اليابان عدم قدرتها على تحقيق نصر حاسم على الأرض، وبدأت تعاني من استنزاف اقتصادها ومواردها البشرية.

أما روسيا فشعرت بأن النصر بعيد المنال، خاصة أنها تعاني من الاضطرابات الداخلية ومواجهة المحتجين على سياسات القيصر.

هذه العوامل دفعت الولايات المتحدة الأميركية في الثامن من يونيو/حزيران 1905 إلى السعي لتوسط الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت ودعوة طرفي الحرب لمباحثات سلام تفضي لإنهاء الحرب.

وافقت كلتا الدولتين المتحاربتين على إرسال وفديهما للمفاوضات، إذ مثّل روسيا كل من الجنرال وايت والبارون روزين، وفي المقابل مثَّل اليابان وزير الخارجية كومورا وسفيرها في الولايات المتحدة الأميركية تاكوهيرا.

النهاية

في الخامس من سبتمبر/أيلول 1905، وقّعت الأطراف المتنازعة في ميناء مدينة “بورت سميث” في ولاية نيوهامشير معاهدة السلام التي حملت اسم الميناء الموقعة فيه.

وبهذه المعاهدة انتهت الحرب وحصلت اليابان على ميناء آرثر، بما في ذلك الخط الحديدي الذي يربط الميناء بمدينة موكدين في إقليم منشوريا، وكذلك على امتياز الصيد في إقليم سيبيريا، واعتراف روسيا بضم كوريا إلى اليابان وسيطرة اليابان على المشاريع الإنشائية في منشوريا، كما تنازلت روسيا القيصرية عن النصف الجنوبي من جزيرة سخالين لليابان.

هذه المعاهدة غيّرت الخارطة السياسية في الشرق الأقصى، إذ أدت نتائجها إلى تراجع دور روسيا في المنطقة وارتفاع مكانة اليابان إلى مرتبة الدول الكبرى وتزايد نفوذها بشكل كبير في منطقة شرق آسيا.

يمكنك متابعة الموقع الرسمي على الفيسبوك من هنا