يفصل البعض بين المطلبين السياسي والاجتماعي، محاولين بذلك معالجة الداء دون تشخيصه ودون النظر إلى أصله، ربما لأن هناك نظاما بأكمله لا يصب في صالحه الربط بينهما لهذا يحاول فصلهما والترويج لذلك، وقد يكون الاجتماعي والسياسي منفصلين فعلا وترابط هذين المصطلحين هو ما جعل الناس تخلط بينهم.. هذا النقاش هو ما جعلني أكتب هذه السطور محاولا إيضاح العلاقة بينهما باعتبارهما سببا محتملا لأي انتفاضة، منطلقا في ذلك من واقع الشعب المغربي، وكذلك من تاريخه المليء بالنضالات والانتفاضات.

لقد عانى أبناء هذا الوطن من الاستبداد طويلا، ومن قمع الحريات والتفقير والتجهيل... معاناتهم لا تعد ولا تحصى ولنا في التاريخ عبر، فقد سجل في صفحاته عدة انتفاضات جاءت كردة فعل على المشاكل التي يعانون منها، وما يلاحظ أن غالبيتها كانت لأسباب إجتماعية معيشية.

إنتفض الشعب سنة 1965 لسبب إجتماعي؛ إقصاء فئة معينة من أبنائه من متابعة الدراسة، وإنتفض سنة 1981 لأسباب إجتماعية خبزية، وكذلك الأمر بالنسبة لانتفاضة 1984 و 1990،  هذه الشواهد التاريخية يظهر أن أسبابها اجتماعية بحتة !

إن الأسباب التي جعلت الشعب المغربي ينتفض في القرن الماضي ما زالت موجودة حاليا، لهذا فجل المراقبين يتحدثون عن ثورة شعبية سيشهدها المغرب واعتمدو في هذا على الموجات الإحتجاجية الفئوية ؛ إحتجاجات سكان الشمال، معركة الطلبة الأطباء، معركة الأساتذة المتدربين التي ما تزال مستمرة، والإحتجاجات الشعبية المحلية على مستوى المدن وظهور تنسيقيات وجبهات محلية لمحاربة الفساد، كل هذا يشير إلى أننا على أبواب إحتجاج يوحد كافة فئات الشعب المغربي، خصوصا أن الأوضاع تزداد ترديا، إضافة إلى المشاكل التاريخية التي لم تحل بل كرست أزماتها مثل مشكل التعليم ومشكل الصحة، حيث ازاد هذان القطاعان تأزما بسبب الامبالاة الممارسة من طرف الدولة تجاههما، ما جعلها تحاول أن تلقي بهما إلى غيابات الخوصصة، إن ظاهر هذه المشاكل اجتماعي لكن باطنها غير منفصل عن ما هو إقتصادي وما هو سياسي، والتساؤلات المطروحة حاليا؛ هل يمكن أن تكبر مطالب الشعب ويعلوا سقفها وتتحول من إجتماعية إلى مطالب سياسية؟ أم أن التاريخ سعيد نفسه وتبقى المطالب إجتماعية معيشية فور تحقيقها تعود الجماهير الشعبية إلى منازلها ؟

لقد تغيرت الأمور في هذا العقد، فحين هبت ريح التغيير أو ما يسمى "الربيع العربي" تغير الكثير في كل البلدان العربية، صحيح لم تتغير كل الأنظمة لكن تغيرت الكثير من الأفكار التي عششت في العقول لعقود طوال، ونمت ثقافة الإحتجاج عند الشعوب، وفضح الاستبداد وأعوانه الذين تخفو لسنين، وهذا من أكبر محاسن "الربيع العربي"، وما ميزه كذلك أن المطالب التي رفعت فيه تجاوزت شيئا ما ماهو اجتماعي خبزي وصارت الشعوب تطلب الحرية والانعتاق وتطلب الكرامة والعدل بل طالبت بإسقاط الاستبداد، يعني أن هناك درجة من الوعي وصلت إليها الشعوب العربية.

الشعب المغربي كان ممن استفاد من موجة "الربيع العربي"، فقد تحرر من الوهن الذي سيطر عليه بفعل السياسة المخزنية، وعلى غرار الشعوب الأخرى فقد رفع هو الأخر مطالب لامست السياسي قبل أن يتم الإلتفاف عليها، من هذا المنطلق وباعتبار أن عجلة التاريخ لا تعود للوراء فإن الإنتفاضات القادمة ستتجاوز ماهو إجتماعي إلى ماهو سياسي يحقق الاجتماعي، وخصوصا بعد أن فضح المخزن وجرد من ملابسه ولا دل على ذلك أكثر مما يحدث في الريف ؛ زلازل يومية منذ يناير منها القوي ومنها المتوسط ومنها الضعيف، العامل المشترك بينها هو نوم الدولة وكل مؤسساتها وتماطلها في توفير أدنى شروط السلامة (الخيام)، وبدل الإنصات للمحتجين بدأت تؤول مظاهرات أبناء الريف سياسيا ! كما قالت سابقا إحدى المسؤولات من الحزب الحاكم  !

إن الإنتفاضة القادمة في المغرب لن تكون خبزية بل سيرفع السقف إلى ما هو سياسي، و "ﺳﻴﻜﻮﻥ ﻣﺤﺮﻛﻬﺎ ﺍﻷﺳﺎﺳﻲ، ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺑﺎﻟﺬﻝ ﻭ ﺍﻹﻫﺎﻧﺔ .." (مهدي منجرة)، فخدعة الإصلاح في ظل الإستقرار إنتهت، يقول الدكتور مهدي منجرة في كتاب إنتفاضات في زمن الذلقراطية "ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻮﺕ . ﻓﺎﻟﺪﻭﻝ ﺗﺘﻐﻴﺮ ﻭ ﺗﺘﺤﺮﻙ، ﻭ ﻟﻜﻦ ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﺿﺔ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻨﺴﻖ ﺑﺄﻛﻤﻠﻪ "...

أرى أنه لا يمكن الفصل بين ما هو إجتماعي وما هو سياسي من حيث سبب الأزمة، فمثلا مشكل الأساتذة المتدربين قد يبدو مشكلا إجتماعيا إلا أن سببه إقتصادي سياسي، لكن يمكن الفصل بينهم من حيث سبب الانتفاضة، فمثلا إنتفاضة سنة 1984 سبب خروج الشعب خبزي معيشي لكن سبب المشكل في أصله إقتصادي وهكذا... لهذا فإن أي انتفاضة يجب أن يسبقها وعي كي لا تولد ميتة.

على العموم فإن الفشل الذريع للسياسة المخزنية المبنية على إستبداد الشعب والتبعية للغرب هو من ألقى بظلاله على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وخلاصة القول أن الداء الإجتماعي؛ التفقير والتجهيل... لا ينفصل عن أصله السياسي؛ الإستبداد..  ولا الإقتصادي؛ التبعية..