جاء على لسان الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية أن هذه الأخيرة ستتحول إلى حزب يمارس عمله في الحقل سياسي فقط، وقال أيضا أن النهضة بتفرغها للعمل السياسي وتركها الدعوي للجمعيات وهيئات المجتمع المدني لن تحيد عن هويتها الإسلامية و"تتعلمن" كما يظن البعض. وأكد الدكتور رفيق عبد السلام عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة أن هذا القرار جاء مراعيا لمقتضيات المرحلة سواء داخليا في ظل التطورات السياسية أو خارجيا في ظل زمن التخصصات الوظيفية.
يمكن أن يكون الحكم جاهزا لدينا على هذا القرار؛ أن العمل الدعوي أولى، واعتزاله منزلق خطير. وأن النهضة أخطأت خطأ جسيما باتخاذها هذا القرار. لكن أظن أن المسألة تحتاج تأملا دقيقا وتفكيرا عميقا. تحتاج تفكير في القرار، وتأملا في كل مقتضياته وأسبابه وغاياته وكذلك تداعياته، بمعنى أخر نعم "لم يكن على النهضة فعل هذا"، لكن قبل أن نقول العبارة الأخيرة يجب أن نسأل "لماذا فعلت النهضة هذا" ؟
الكل أشاد بذكاء حركة النهضة في تعاملها مع متطلبات المرحلة الانتقالية في تونس، بعد أن قدمت مصلحة الوطن والشعب على المصلحة الشخصية، لكن بعد قرارها الأخير طرحت عدة علامات استفهام ؛ أين ذكاء النهضة ؟ وهل يعتبر هذا القرار ذكيا ؟ أو أن أخاك مكره لا بطل ؟ أو ربما هو شر لابد منه !
هناك عدة فرضيات واردة فيما يخص هذا القرار، وأظن أن ثلاث منها هي الأبرز وهي والتي يمكن أن تجعلنا نفكر قبل الحكم، سأحاول ذكرها بشكل مقتضب وواضح.
الأول: شر لابد منه.
إن ظرفية وطبيعة الثورة التونسية تختلف عن غيرها، فالظرفية التي جاءت فيها الثورة فجائية، لا أحد كان يتوقعها ولا حلم بها ولا بأن نظام بن علي أو أي نظام عربي سيسقط. وطبيعة هذه الثورة أنها انطلقت من وجدان الشعب دون أن تحركها لا حركة ولا جماعة ولا حزب، محرك الشعب الوحيد خلالها هي الحرية والكرامة.
هنا فإن حركة النهضة بعد أن عانت سنوات طوال من القمع والمنع والاضطهاد سواء في عهد بورقيبة أو في عهد بن علي،فجأة وجدت نفسها أمام الحكم، وما كان عليها إلا أن تضع يدها في يد الفضلاء من أبناء الوطن لإخراج تونس من المرحلة الإنتقالية بنجاح، لكن بعد مدة وجد الإخوة في الحركة أنهم غير قادرين على مسايرة واجهة الدعوة وواجهة السياسة وربما هذا ما يفسر الإنسحاب من الانتخابات الرئاسية ويفسر الكثير من النقاط المبهمة في مسار الحركة بعد الثورة، وكان لابد لهم من التفرغ لمجال دون الأخر، وتبقى اجتهاداتهم هي من ستحسم الأمر. بعد أن طرح موضوع فصل السياسي عن الدعوي منذ حوالي سنة ونصف من الآن، هاهو يلقى القبول ويتم تقريره في شهر ماي 2016 بعد إعلان النهضة ترك العمل الدعوي والإنكباب على العمل السياسي مع تيقن أفرادها وقادتها أن العمل الدعوي هم للغاية وهذا القرار شر لابد منه.
ثانيا: مكره أخاك لا بطل.
يمكن أن نفترض أن النهضة تغيب عنها الخبرة والحنكة السايسيتين لمجاراة الفرقاء السياسيين في تونس، خصوصا وأن كثيرا منهم عايشوا مرحلة بن علي وكانوا في مراكز مهمة في الدولة، من هنا يمكننا أن نفترض أن النهضة مجبرة على هذا "مكره أخاك لا بطل"، وهذه الفرضية على وجهين؛ إما بسبب الإكراه، بضغط خصوم الساحة السياسية على الحركة للمضي في هذا القرار، أو بسبب قوتهم في الساحة حيث لم تجد النهضة سبيلا لمجاراتهم غير الإنكباب على واجهة وترك الأخرى.
ثالثا: مراجعة واقتناع.
ويمكن أن نقول أن هذا القرار جاء بعد مراجعة شاملة خلصت لهذا واقتنع القادة به، وهذا ما صرح بيه الدكتور رفيق عبد السلام عضو المجلس التنفيذي للحركة، حيث قال أن "النهضة تتخذ هذا التوجه الجديد في ظل التطورات السياسية النوعية التي تشهدها تونس، حيث كانت في السابق تواجه نظاما شموليا...".
كما كان قد أعرب راشد الغنوشي في كثير من المرات عن إعجابه بعدة تجارب ومن ضمنها تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي من خلال فصله بين المجال الدعوي والسياسي، ونجاحه في ذلك حسب نظرته، ولعلهم سارو على نفس الطريق ونسجوا على نفس المنوال، لكن المشكل الذي اعترض طريق النهضة هو عدم وجود طاقات لتشتغل في الدعوة للإبقاء على الحركة قائمة تحت إسم من المسميات المهم أن القصد واحد وهو "الجناح الدعوي لحركة النهضة"، الخصاص في هذا المجال هو ما جعل هيئات وجمعيات المجتمع المدني وفقط تتكلف بالعمل الدعوي.
مهما كانت دواعي ودوافع القرار، فإني أرى أنه من غير المنطقي أن نركز على انتقاد القرار، وأن نحكم على التجربة قبل بدايتها، دون تحري الأسباب، أو أن لا نلتمس أعذارا لإخواننا في النهضة، خصوصا وأنهم ذاقوا الأمرين طوال تاريخهم، وقتلوا وسجنوا وضحوا في سبيل مشروعهم الإسلامي فكيف يضيعونه بهذه البساطة بعد أن وصلوا لهذه المرحلة ؟ هذا من جهة ومن جهة ثانية لماذا لا نتفاءل بدل التشاؤم ؟ لما لا نقول أننا أمام نموذج تركي ثان في مرحلته الأولى ؟ أو أننا أمام نموذج تونسي فريد ؟