مرت حوالي ستة سنوات على بداية الموجة الاحتجاجية التي اجتاحت الدول العربية، والتي طالبت خلالها الشعوب بالحرية والعدالة والعيش الكريم، أزهقت في سبيل هذه المطالب أرواح كثيرة، وكانت زوايا السجن الأربع مقرا لأخرين، بينما تشتت شعوب في ربوع العالم تبحث عن أمن مفقود، تساؤلات كثيرة تطرح نفسها ويطرحها المواطن الذي شهد أو شاهد الأحداث، بعضها لقيت إجابات والأخرى لا زالت تنتظر. بخفوت هذه الاحتجاجات، قال البعض أنها انتهت، وقال أخرون  هي مرحلة جزر يعود بعدها المد، وهناك من قال أن الربيع مرحلة أولى للمراحل قادمة في طريق اجتثاث الفساد والاستبداد، ودور المرحلة الأولى هو الفضح، وقد أدته على أكمل وجه، وفضحت عدة نوايا وعدة مخططات، وعرت أعوان لاستبداد الذين تخفو في جلابيب الشعب لمدة طويلة، بعد مرور حوالي ستة سنوات يمكننا استخلاص بعض الدروس من هذا الحراك. لست أحسر ما يمكن أن يستفاد ، لكن أذكر بعض الدروس التي اتضحت من زاويتي، وهي  ثلاث دروس سأضعها تحت العناوين التالية: سقوط الأقنعة، المخطط الغربي، الفساد والاستبداد لا يسقط بإسقاط حاكم.

الدرس الأول: سقوط الأقنعة.

إن الثورة على الأنظمة الاستبدادية (حتمية تاريخية) إن صح التعبير، فالضغط يولد الإنفجار مهما طال الزمان، والشعوب لن تصبر على الظلم لوقت طويل، ولن تظل في زريبة الطاعة خاضعة للأبد، هكذا علمنا التاريخ، وعلى هذا الأساس قامت كثير من الثورات في العالم، ويمكن اعتبار "الثورة الإسلامية" في إيران أواخر سبعينيات القرن الماضي من الثورات ضد النظم الاستبدادية، بعد نجاحها ظهر مصطلح "تصدير الثورة" للدول المجاورة التي تعيش تحت نير الاستبداد، وهذا ما حاولت إيران فعله، لكن الواقع فضح نواياها فيما بعد.

في بداية "الربيع العربي"، حين كانت الاحتجاجات لا تزال في تونس ومصر، رحبت إيران بهذا الحراك، ووصفه المرشد الأعلى "علي خامنئي" بالصحوة الإسلامية، وصورها على أنها امتداد للثورة الإسلامية.

 لكن بعد وصول ريح التغيير لسوريا، اتضح لإيران أن ما يحصل ليس في مصلحتها، فانحازت للنظام السوري على حساب شعبه، ووقفت ضد الثورة في العراق واليمن، وقتلت الميليشيات الإيرانية وبناتها الشيعيات المدنيين في هذه الدول، وهذا لربما عكس ما كان يتمناه المواطن العربي والإسلامي الذي كان يرى في إيران والشيعة حليفا استراتيجيا للقرب الجغرافي والتاريخي والديني.

بعد امتداد الثورة إلى سوريا، وسقوط قناع إيران، لم يعد هناك ما تخفيه، فبدأت في استغلال الانتفاضات الشعبية في المنطقة، لتحاول بسط نفوذها و "تصدير الثورة" للدول التي لم تكن تسيطر عليها "كاليمن"، وحاولت بشتى الوسائل الحفاظ على مكتسباتها السياسية والمذهبية و"حماية الثورة" في الدول التي تهيمن عليها "كالعراق" "وسوريا"، وسخرت لهذا الدعم المادي والمعنوي، والمشاركة الميدانية.

لست هنا أدعوا للطائفية ولا للتفرقة، لكن أقول الحقيقة فقط، فإيران والشيعة رغم أن نظرتهم للسنة نظرة تاريخية وليست وليدت اللحظة، لكن وبدل الاصطفاف جنب شعوب المنطقة، دافعت عن الطغاة وساهمت بشكل كبير في المجازر التي ارتكبها النظام السوري والعراقي والجرائم التي ارتكبتها ميليشيات الحوثي في اليمن.

ولا تزال هناك مخططات أخرى لإيران تنتظر الفرصة السانحة للبدأ في تنفيذها، ويمكن تحسس ذلك في بيان الجنرال "قاسم سليماني" قائد فيلق القدس، الذي أعقب إسقاط البحرين لجنسيتها عن المرجع الشيعي الأعلى في البلاد "عيسى قاسم"، حيث قال أن هذا الفعل قد يمهد لتحول الاحتجاجات من سلمية إلى مسلحة.

كلمة حق أريد بها باطل، هكذا يمكنني التعليق على كلام "قاسم سليماني"، لأن ما قاله حول أن ظلم وجرائم النظام البحريني في حق شعبه أو في حق طائفة معينة منه قد تولد انتفاضة، يمكن أن يتقبله العقل، لكن ما لا يتقبل هي أن تتدخل إيران في البحرين، وتلمح إلى إشعال الفتيل وحمل راية الطائفية وجعل الاحتجاجات مسلحة.

إضافة إلى سقوط قناع إيران هناك أقنعة أخرى سقطت تحت شعارات متعدد مثل (طاعة ولي الأمر)، لكني ركزت على إيران باعتبارها مساهمة بشكل كبير في التصدي لإرادة شعوب المنطقة، ووقوفها وراء عدة جرائم حدثت وتحدث في تلك البلدان.

الدرس الثاني: المخطط الغربي.

كشف "الربيع العربي" عن تربص الغرب بالشعوب العربية، وانحيازه للأنظمة الاستبدادية التي خدمت مصالحه الشخصية لعقود طوال، فمن غير المقبول أن يخسرها بين ليلة وضحاها، لهذا كثف سعيه لإبقائها بشتى الوسائل مباشرة كانت أو غير مباشرة.

إن من يلخص المخطط الغربي في منطقة الشرق الأوسط في "التقسيم" فقط، مخطئ تماما، لأن التقسيم الجغرافي لا قيمة له إن كانت الإرادة الحرة حاضرة وموحدة، فحتى ولو قسمت المنطقة إلى دويلات، وبالرغم من مساوئ هذا التقسيم فبقاء الإرادة ستجعل الشعوب تطالب مجددا بالتحرر، أما في حالة تحطيم هذه الإرادة، وتقسيم الشعب داخليا فهذا سيضمن عدم تحركها أبدا.

كانت الإرادة هي المحرك الحقيقي نحو مقاومة الاستعمار عبر التاريخ، فحتى حين تم احتلال البلدان، بقيت القيم والأفكار وبقيت معها الإرادة، لهذا فالمخطط الغربي  لا يهدف إلى تقسيم المنطقة في حد ذاتها، ولكن هدفه هو تحطيم الإرادة وتقسيم الشعب، وذلك عبر إعطاء نموذج سلبي لما جاءت به الثورات، ومحاولة ترويجه على أنه مصير كل من أراد التحرر، وهذا ما ينتظر الشعوب التي تريد أن تنتفض، وبالفعل كثرت هذه المقولات، فعلى سبيل المثال في المغرب لطالما سمعنا كلاما يقال لكل من طالب بحقه "هل تريدون أن نصير مثل سوريا ؟"، "بقاؤنا هكذا خير من أن نصبح كسوريا"، وغيرها الكثير، وكأن في الألوان أبيض أو أسود لا غير.

جعل النموذج السوري فزاعة للشعوب (العربية) التواقة للانعتاق والتحرر مخطط غربي لجعلها تقبل بالاستبداد في مقابل الأمن والأمان، وهذا يضرب إرادة الشعوب أو فئات من الشعب، مما يقسمه من الداخل، ويجعل الصراع قائما بين فئة تطالب بالحرية والكرامة.. وفئة تخشى من فقدان أمنها والتحول إلى "سوريا جديدة"، لهذا فإن التقسيم الجغرافي لا شيء، بالمقارنة مع "تقسيم الشعب" وتحطيم الإرادة.

الدرس الثالث: الفساد والاستبداد لا يسقط بإسقاط حاكم..!

إن قطعت شجرة شائكة كانت تسبب الضرر دون اجتثاثها، فتأكد أنها ستنموا مع مرور الأيام لأنك تركت الجذور في الأرض، هذا المثال هو الأقرب لوصف الأنظمة الاستبدادية فبإسقاط رأسها، لن نتخلص من الاستبداد، وهذا ما حدث في مصر مثلا، أسقط "حسني مبارك"، لكن لم يسقط الاستبداد، ذهب شخص ليظهر شخص أخر من نفس المؤسسة التي كان ينتمي إليها سابقه (السيسي) وينقلب على إرادة الشعب المصري.

في ليبيا كذلك بعد أن سقط القذافي، بقي أعوانه (حفتر)، وحاولوا عرقلة الثورة والانقلاب على إرادة الشعب، ونفس الشيء في تونس (السبسي)، رغم اختلاف الأشكال التي عادت بها بقايا الأنظمة السابقة.

يحتاج المريض بعد أن يعالجه الطبيب لفترة تسمى "النقاهة"، وهي استعادة الصحة تدريجيا، لكن خلالها يمكن أن ينقل العدوى حتى ولو شعر المريض بالتحسن، هكذا التخلص من الاستبداد فهو لا يأتي بعد سقوط الطاغية مباشرة، بل يحتاج وقتا، يكون فيها الوطن في فترة نقاهة يعالج فيها تدريجيا من الاستبداد.

خلاصة

إن الثورات عبر التاريخ لم تات بالتغيير بين ليلة وضحاها، وإنما جاءت عبر مراحل، لذلك يمكننا القول أن "الربيع العربي" هو مرحلة أولى نحو التحرر، سقطت خلالها عدة أقنعة، وظهر مناصروا الاستبداد تحت ذريعة (طاعة ولي الأمر)، أو (سلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم)، واكتشفت الشعوب من نصرها، ومن وقف ضدها من الجماعات والتيارات والدول، وظهرت حقيقة "إيران"، وكذبت الثورات الشعارات الغربية الداعمة للديمقراطية، والأهم من كل هذا أن الشعوب أثبتت أن التغيير ممكن، ويحتاج لإرادة واستخلاص لدروس هذه المرحلة واستفادة منها.