منذ الازل اراد الله بالعراق و سكان بلاد الرافدين وابناء الامة العراقية - ابناء الالهة واحفاد رسل الله - ؛ خيرا اذ حباهم بمختلف النعم والخيرات والثروات , فكانوا نبراسا حضاريا للبشرية ومشعلا مضيئا للإنسانية , فمنهم بدأت البشرية تعلم الخط بالقلم - الكتابة والقراءة - وعنهم اخذت الحضارة ؛ فهم مذ كانوا لا يرقى اليهم الطير وينحدر عنهم السيل .
فقد حقق الرافدينيون الاوائل والعراقيون القدامى أعظم الانجازات الحضارية والتي مثلت قفزة نوعية في تغيير حياة بني البشر ودفعت مسيرة الانسان نحو الامام , اذ استفادت الامم والشعوب والاقوام من ضياء حضارات بلاد النهرين العظيمة واقتبست من انوارها الشيء الكثير .
وبما ان بقاء الحال من المحال ؛ أدار الزمن بوجهه عن العراق , وادبرت الحضارة من بلاد النهرين , ودمرت مدن وقرى السواد , وأشاح الدهر بوجهه عن العراقيين ؛ اذ هجروا صهوات الخيول وتركوا عربات الجيش الرافديني العرمرم خالية من الفرسان , واهملوا المكتبات والتدوين الا ما شذ وندر , اذ انشغلوا بعلاج جراحات الاعداء وترميم ما خربته عوادي الدهر الاسود وصروف الزمن الاغبر .
منذ بدء الهجمات المغولية الهمجية على العراق ؛ فقدت بلاد الرافدين العظيمة استقلالها ورمزيتها السياسية والثقافية والاسلامية والعربية ؛ فقد تعرضت مدينة بغداد – عاصمة الدنيا ومركز القرار الاسلامي والعربي - للغزو المغولي الذي دمّرها وأنهى صفحة مشرقة دامت نحو 5 قرون من الازدهار كانت في أثناها حاضرة الدنيا وعاصمة الخلافة العباسية الاسلامية ؛ ومنذ ذلك اليوم المشؤوم فقد العراق استقلاله السياسي ، وأصبح جزءا من إمبراطورية واسعة عرفت باسم الدولة الإيلخانية .
و بسقوط الخلافة العباسية ما عادت بغداد مركز الإسلام ومعين الثروة والرخاء وكعبة العلماء , ويعتقد بعض المؤرخين بأن الغزو المغولي قد دمر البنية التحتية للنظام الزراعي والذي ابقى على ازدهار بلاد الرافدين لألوف السنين , إلا أن مؤرخين آخرين أشاروا إلى ان ملوحة التربة هي السبب الرئيسي في تراجع القطاع الزراعي ؛ وقيل : رجعت بغداد إلى حياتها الطبيعية بعد مدة وجيزة من الغزو المغولي، فأعيد بناؤها وإدارتها وعمرانها، وعادت كما كانت عليه من قبل، حسب قول بعض المؤرخين , ويلفت إلى أن كثيرا من المغول أنفسهم أعلنوا إسلامهم بعد 30 عاما من المذابح التي اقترفوها، وحققوا حضارة إسلامية عظيمة في الجناح المغولي في الهند، استمرت قرونا عدة، وتوسعوا نحو روسيا حتى دخلوا موسكو. .... ؛ وقد شهدت بغداد أكثر من 20 هجوما منذ تأسيسها قبل 13 قرنا – حسب رأي البعض - ، لكنها تعود وتزدهر من جديد بعد كل كبوة.
وبعد الغزو المغولي حكم العراق الجلائريون ، وفي سنة 1401 غزا تيمورلنك العراق، ودمر بغداد بعد استسلامها له، وقد قتل جراء التدمير حوالي 20,000 من الأهالي العزل. وقد أمر تيمور لنك كل جندي أن يعود إليه ومعه رأسين من رؤوس الضحايا -(ومن شدة خوف الجنود منه، قتلوا الأسرى الموجودين عندهم قبل دخولهم الى بغداد ليروه الرؤوس عند حضورهم إليه) - ؛ وضمها للدولة التيمورية .
وفي القرن الخامس عشر تمكنت قبائل الخروف الأسود (القرة قوينلو) من بسط سيطرتها على العراق، حيث استطاع زعيمهم بهرام خواجة من بسط سيطرته على مدينة الموصل ، ومن ثم تمكن ابنه يوسف بن قره محمد حفيد بيرام من هزيمة الجيش الجلائري قرب تبريز في إيران ، وتمكن خلالها من احتلال العراق ، وقد انتهى حكم الخروف الأسود في سنة 1467م بعد أن تمكنت قبائل تركية أخرى وهم الخروف الأبيض (آلاق قوينلو) من احتلال العراق، حيث تمكن أميرهم حسن الطويل من هزيمة جيش قبائل الخروف الأسود وطردهم من العراق.
اشتهر هذا العصر في العراق بكثرة النزاعات فيه على السلطة من قبل قبائل الخروف الأسود والخروف الأبيض، وانتهى حكم هذه القبائل بعد أن تمكن إسماعيل الصفوي من احتلال العراق وأنهى حكم قبائل الخروف الأبيض فيه.
ثم سيطر الايرانيون على بغداد في عام 1509 بقيادة الشاه إسماعيل الصفوي, وبقيت تحت حكم الصفويين حتى انتزعها العثمانيون من يد الصفويين عام 1535، ولكن ما لبث الصفويون أن عادوا ليسيطروا عليها عام 1624م، وحدثت فيها مذبحة عند دخول جيش الشاه ، وبقت تحت الحكم الصفوي حتى عام 1639م ، حيث دخلها السلطان العثماني مراد الرابع عام 1638م.
بحلول القرن السابع عشر، استنزفت النزاعات المتكررة مع الصفويين من جانب ومع الدول الأوربية من جانب آخر قوة الدولة العثمانية وأضعفت سيطرتها على ولاياتها في الدول العربية وبما فيها العراق ؛ وتضخم عدد السكان في العراق مع تدفق البدو الرحل من نجد والحجاز ، وأصبح من المستحيل كبح غارات البدو الغرباء على المناطق العراقية المستقرة ، وأكثر الهجرات كانت للمحافظات الوسطى والجنوبية المحاذية لنهر الفرات أي من الأنبار إلى البصرة.
خلال الفترة 1747-1831 حكم العراق الضباط المماليك ؛ واطلق عليهم مماليك العراق : و هم سلالة من الولاة الذين حكموا العراق منذ منتصف القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر وتعود أصولهم إلى عدة مناطق من آسيا الوسطى (جورجيا ومن بلاد الشركس وداغستان وبلاد جبال القوقاز الأخرى وبعض الدول )، حيث استمر حكمهم للعراق زهاء 82 عامًا بولاية سليمان باشا الكبير المكنى بأبو ليلة في سنة 1749م، وانتهى بعزل داود باشا من منصب والي بغداد سنة 1831م .
وفي عام 1831، نجح العثمانيون في الإطاحة بنظام الحكم المملوكي وفرضوا سيطرتهم المباشرة على العراق واستمر الحكم العثماني على العراق حتى الحرب العالمية الأولى , وقد بلغ عدد سكان العراق أوائل القرن العشرين أقل من خمسة ملايين نسمة .
وبعد إعلان الحرب العالمية الاولى ، تمكن الجيش البريطاني من الدخول إلى بغداد في 11 آذار 1917. و خسر البريطانيون 92000 جندي في حملة بلاد الرافدين , وكانت خسائر العثمانيين غير معروفة لكن القوات البريطانية أسرت 45000 أسيراً من الجيش العثماني .
وبعد الحرب، منحت عصبة الأمم ولايات بلاد الرافدين (وهي بغداد والبصرة والموصل) للمملكة المتحدة. في 11 نوفمبر 1920، أصبح العراق منتدباً من عصبة الأمم تحت السيطرة البريطانية.، وقد قامت القوات المسلحة البريطانية بقمع الثورات العربية والكردية ضد الاحتلال. ومن أبرز هذه الثورات: ثورة العشرين وثورة دير الزور في سوريا التي امتدت حتى الموصل وتكريت ولواء الدليم وثورة الشيخ محمود الحفيد في المناطق الكردية.
و في آذار 1921 عقد مؤتمر القاهرة الذي ترأسه تشرتشل لتأمين استقرار الشرق الأوسط. سمي فيصل ملكاً على العراق مع توصية بإجراء استفتاء لتأكيد التنصيب، وتوج فيصل رسمياً ملكاً في 23 آب 1921.
ومنذ ذلك الحين استمر مسلسل حكم ونفوذ وسيطرة الغرباء والدخلاء والاجانب على مقاليد الامور في العراق ؛ و احكمت الفئة الهجينة قبضتها على بلاد الرافدين , وتحكم بنا بقايا العثمنة والعجم والمماليك والانكشارية – من جورجيا وارمينا وروسيا و اوربا و بلاد التركستان ، وشبه جزيرة القرم، وبلاد القوقاز، وآسيا الصغرى، وبلاد ما وراء النهر, والاذر والطاجيك , بالإضافة الى اكراد الدول المجاورة الذين كانوا يعملون مع القوات التركية كمرتزقة او قوات غير نظامية , ناهيك عن بقايا المغول في بعض المناطق _ حتى سقوط صنم الانظمة الهجينة الاكبر وهلاك طاغية العراق الاحقر اللقيط صدام بن ابيه .
والان امامنا فرصة تاريخية للنهوض بالعراق العظيم من جديد ؛ وتجاوز عثرات الماضي , وتصحيح الاخطاء السياسية التي رافقت تشكيل الدولة العراقية الحديثة , ومعالجة تداعيات الحكم الجمهوري العارفي والتكريتي والصدامي ؛ بالإضافة الى مراجعة الأخطاء التي شابت مسيرة بناء العراق الجديد بعد زوال الدكتاتورية .
ونحن عندما نستعرض معاناة اسلافنا والام اجدادنا وهموم اباءنا , ونستذكر الماضي المؤلم والظلم القديم , والغزوات الهمجية والاحتلالات الاجنبية ؛ فأننا لا نريد من ذلك تجديد الاحزان وبث الطاقة السلبية واشاعة روح الحقد والثأر والبكاء على الاطلال ... ؛ بل الهدف من ذلك اخذ الدروس والعبر من اجل عدم تكرار الاخطاء وتجنب مسبباتها ومعرفة اسبابها والعلم بعواقبها السلبية وتبعاتها غير المحمودة ... ؛ وتحذير المواطن العراقي من خطورة الانزلاق في مستنقع الطائفية والعنصرية والمناطقية والعشائرية والقبلية المتعصبة ؛ والسقوط في وحل الدكتاتورية والعمالة والخيانة , والانحراف عن جادة الوطنية والهوية العراقية العريقة ؛ ليشرق فجر وطني جديد , وتعود للامة العراقية ريادتهم الحضارية .