الفصل الحادي عشر - الخلافة والإمامة
إن الخلافة تكون عن الله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذه هي الخلافة الأصلية، التي لا تكون لأحد من الأنبياء -سوى محمد صلى الله عليه وآله وسلم- ولا الأولياء أبدا. وفي هذه الخلافة ظهرت الحقيقة المحمدية بصورة الله تعالى ظهورا ذاتيا، قبل خلق الخلق أجمعين. وإلى هذه الصورة (الحقيقة المحمدية) الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»[1]. وهذا يعني أن آدم صورة للصورة الإلهية. وكون آدم خُلق على الصورة، هو الذي هيأه لقبول حيازة الأسماء كلها. وقبولُ الأسماء كلها، هو ما جعله يظهر في العالم بالخلافة. وفيها أنزل الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. فآدم على التحقيق خليفة الخليفة، لا الخليفة الأصلي؛ ولكن الله تعالى أراد أن ينبهنا بنسبة كل خلافة إليه سبحانه، إلى سريان الخلافة بحقيقتها في الخلفاء من الأنبياء ومن الأولياء، عليهم السلام جميعا. وبهذا، فهو يدلنا سبحانه على صورته في الخليفة، وإن كانت صورةَ الصورة؛ حتى لا نغفل عنه، ونُخطئ الدلالة. ذلك لأن الله لا يدل إلا على نفسه، كما لا يُقسم سبحانه إلا بذاته.
قد يقول قائل: إن مثل هذه العلوم، ما كان السابقون يبثونها للعموم خوف الفتنة عليهم؛ فلم تفعل أنت ذلك؟.. وهل هذا يُعدّ مخالفة لأئمة التصوف نفسه؟.. فإن كان الأمر مخالفة، فهذا يجعل كل ما ذكرته من بداية الكلام حقيقا بإعادة النظر فيه!.. لأننا نريد في النهاية، أن نعود إلى أصل الدين، لا أن نخالفه مرة أخرى!.. فنقول: إن الكلام في العلم، لا يكون بهذا الجمود الذي يظنه الكثيرون؛ إلا عند من لا يدرك حقيقة العلم نفسه. وقد ذكرنا هذه الحقيقة في كتابنا "النسبية العلمية"، فلا نعيدها هنا إلا بقدر الحاجة.
أما عن كتمان بعض ما يفوق إدراك العامة من العلم، فهو ثابت؛ وعليه كان العمل في الأصل؛ وذلك تجنبا للفتنة، كما قيل. أما كلامنا نحن اليوم، فقد جاء بعد الوقوع في الفتنة والتوغل فيها. نعني مِن هذا، أن الحكم الأصلي قد تغير بتغير الظروف والشروط. وعلى هذا، فإن كلامنا بالنظر إلى أئمة التصوف خصوصا، هو من واجب الوقت في عصرنا؛ بخلاف واجب وقتهم الذي أعطاهم تخصيص بعضٍ به دون بعض. ثم إننا بكلامنا في مثل هذه المسائل، لا نستدل إلا بالقرآن والسنة. وما هو مذكور فيهما، فقد أشيع نصه، قبل إشاعة الكلام فيه (إن صح القول بإشاعة الكلام). ثم إن علوم الخواص، لا تنتشر بالكلام فيها؛ وإنما تبقى في حجابها معززة، إلى أن تتحقق الشروط لنيلها. وأولها الإذن من الله فيها لمن يشاء من عباده. فيبقى السؤال: إن كان الأمر هكذا، فلِمَ الكلام فيها من الأصل؟.. خصوصا إن لم يتحقق به نفع للعموم؟.. فنقول: إن كلامنا في مثل هذه الأمور، هو للدلالة على جهل الفقهاء بها جهلا تاما. وهذا نريد منه: أنْ يُدرك الناس أنّ الفقهاء لا يُعتدّ بأقوالهم كلها؛ خصوصا فيما نذكره هنا. والعامة منا عندما يدركون قصور الفقهاء، فإنهم لن يرجعوا إليهم في كل شيء، كما هي الحال اليوم لدى بعض المتدينين. ثم إننا نبغي تنبيه الفقهاء إلى جهلهم في أنفسهم؛ حتى يطلبوا العلم من مظانه، إن هم كانوا حقيقة من أهل العلم؛ وإلا كانوا مدّعين، محترفين لهذه المهنة (والتي لم تكن مهنة قط). ولنعد إلى ما كنا بصدده من شأن الخلافة والإمامة...
إن الخلافة في أصلها خلافة عن الله؛ وإن الخليفة الجامع، هو من يظهر فيها بحكم المسلمين من حيث الظاهر (=الإمامة عند الفقهاء)، ويظهر بحكم العالَم كله (التصرف بالأسماء الإلهية كلها) من حيث الباطن. ومن هذا التعريف، سنتوصل إلى موطن الاختلاف في النظر إلى الخلفاء، من قِبل عوام فقهاء أهل السنة، ومن قِبل الشيعة. بل إننا نجزم أن بعض ما قالته الشيعة في الأئمة عليهم السلام، هو من خصائص الخلفاء وحدهم.
فإذا كانت هذه هي الخلافة (باختصار)، فما الإمامة؟.. أما الإمامة، فهي مرتبة في الولاية والعلم. وهي لا تكون إلا لمن جمع الله له بين علمي الظاهر والباطن (نعني أنه يكون إماما فيهما معا). وهذا يؤهله لأن يحوز خلافة التعليم والتربية، الموروثة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هذه الإمامة، يكون التشيخ (=إمامة) الذي يحصل لبعض رؤوس الصوفية، الذين يدلون على الله بالإسلاك. ولهذا السبب، تنتهي جل (إن لم تكن كلها) طرائق التصوف التربوية إلى علي عليه السلام؛ وهو إمام-خليفة. نعني أنه ملتقَى ربانية الخلفاء وربانية الأئمة جميعا، عليه السلام (إمامته كانت قبل زمن خلافته وإبانها). وهذه هي خصوصيته التي تجعل الناس يشعرون بها، دون أن يميزوها. وهذا يعني أن غيره من الخلفاء، ومن الأئمة على السواء، كانوا أقل منه مرتبة، من هذا الوجه الجمعي الخاص. ولعل هذا، هو ما جعل الشيعة يتوهمون استحقاقه الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة. وهو غلط، لا مرية فيه!..
وقد نبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إمامة آل البيت في الدين، بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»[2]؛ قال هذا عليه السلام، في حجة الوداع، التي تضمنت الوصايا النبوية، في مهمات الأمور.
وقد ضلت الشيعة باعتقاد أن هذه الجمعية تنسحب على جميع الأئمة؛ ومن هذا الالتباس، توهموا أن الخلافة كان ينبغي أن تكون من نصيب الأئمة في زمانهم. هذا، رغم أن الأئمة عليهم السلام، كانوا يعلمون أن الحكم لا يكون لهم. ولعل جهل العامة من مُواليهم، كان وراء خوف الحكام منهم على حكمهم. وهو ما كان سبب التضييق عليهم، عليهم السلام، وسبب قتلهم أحيانا.
وإن بعضا من عقائد الشيعة في الأئمة، له أصل في مرتبة الخلافة ومرتبة الإمامة معا. من ذلك، القول بالوصية (على مرادنا لا على مرادهم)، وبالعصمة. فالقول بالوصية من الوجه الظاهر الذي تذهب إليه الشيعة لا يصح؛ وقد ذكرنا هذا في كتاب "تجريد الوحيد"؛ لكن له أصلا كما ذكرنا، هو: البعث. وقد ذكر الله البعث في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247]. فهذا طالوت كان ملكا (خليفة في الظاهر وحده؛ لأن خلافة الباطن من نصيب نبي ذلك الزمان)، وبَعَثَه الله. والبعث تخصيص، يكون به المبعوث، هو الشخص الوحيد المناسب للمنصب. وهذا في كل من وَلِيَ الحكم من أهل الظاهر، سواء في زمن الخلافة، أو في زمن الدول القطرية. وهذا يرفع ذريعة القيام على الحكام، من جهة العلم؛ وإن كانت باقية من جهة القدر. ولهذا السبب قلنا في كتبنا، إن حكم كل الحكام شرعي، من جهة الباطن. وهذا لا يعني أن البعث الإلهي للحاكم، يرفع عنه التكليف كما يزعم أهل الأهواء من المتملقين، ويجعله فوق المساءلة!.. وإن البعث الباطني، هو السبب في كون البيعة الظاهرة لا صورة لها مخصوصة في الشريعة، كما هو معلوم؛ لأنها ليست الحاسمة في المسألة، وإنما الحاسم البعث. وأما الأسباب الظاهرة، فتأتي لستر القدرة فحسب. وكل من راهن على انعدام الصورة المخصوصة لاختيار الخليفة، ليقول بعدم وجود نظام سياسي مخصوص في الإسلام، فقد جهل وجوه المسألة من أصلها، وحكم بسطحيةٍ غير لائقة. والشيعة لما فطنوا لمبدإ البعث في زمن علي عليه السلام وما بعده، أرادوا أن يجدوا له سندا من الظاهر فتكلفوا له؛ ثم نظّروا رَجعيا (بأثر رجعي) ليُبقوا على استغراق المبدإ لزمان الخلافة الأولى كله؛ فقال مَن قال منهم، مِن هنا بالرفض (رفض خلافة الخلفاء الأولين)، فضلوا. كل هذا، من أثر دخول ظلمة الفكر على العقائد الصحيحة. أما أهل السنة، فقد جهلوا مبدأ البعث من الأصل؛ وحجبتهم عنه أسبابه الظاهرة التي رتبتها الحكمة. فرأوا أن أبا بكر رضي الله عنه (وهو مبعوث)، كان يمكن أن يُبايَع غيرُه؛ وحُجبوا بصورة البيعة في السقيفة، عن حقيقة البعث. فشاركوا الشيعة في بعض ما ذهبوا إليه (احتمال أن يكون الخليفة غيرَ المبايَع) من غير أن يشعروا، ومن وجهٍ مخالف.
وهنا قد يسأل سائل: فعلى هذا، يكون يزيد بن معاوية مبعوثا! فلِمَ إذاً قام عليه الحسين عليه السلام؟.. فنقول: أما بعث يزيد، فصحيح؛ وأما قيام الحسين عليه السلام فصحيح أيضا (وهو أجلُّ من أن نحكم عليه نحن). والصورة هي أن يزيد كان في مرتبة "طالوت" (خلافة الظاهر)، والحسين كان في مرتبة "شموئيل" النبي الذي كان في زمنه طالوت (الخلافة الباطنة). والقاعدة -إذا افترقت الخلافتان، كما كنا قد بيّنّا سابقا- أن يتبع خليفة الظاهر، لخليفة الباطن. وعلى هذا فإن يزيد كان ينبغي عليه أن يأتمّ بالحسين عليه السلام في أمور الدين والسياسة العامة. ولكن أنى له بهذا العلم!..
أما العصمة فهي ثابتة للخلفاء وللأئمة عليهم السلام جميعا؛ لأنها فرع عن ربانيتهم. وأما عوام الفقهاء الذين يفرّون من هذا القول، فذلك لأنهم لا يميّزون النبوة إلا بهذه العصمة، مع جهلهم بحقيقتها عند الأنبياء عليهم السلام أنفسهم. فهم يخافون أن تختلط عليهم مرتبة الربانية النبوية، بالربانية الولائية. وكل كلامهم فيها هو كلام تنظيري يُسكت العقل الناقد (عقلهم) فحسب. والعصمة التي نعنيها نحن (سماها بعض الأولياء حِفْظا، للخروج من الإشكال الاصطلاحي)، هي التي لا يثبُت معها ذنب؛ سواء أظهرت المعصية على العبد أم لم تظهر. يقول الله تعالى لعبده المخصوص صلى الله عليه وآله وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]؛ ما تقدم: أي ما كان من مرتبة العلم؛ وغفْرُه هنا، عدم إظهاره في عالم الحس؛ وما تأخر: أي ما جاوز العلم وظهر في عالم الحس؛ من مثل ما ذُكر في القرآن مما كان سببا للعتاب الإلهي. وهذه العصمة تُفهم من قول الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»[3]. فالعبد الذي تكون هذه حاله، لا تُتصَوّرُ نسبة الذنب إليه. فهذه هي خصيصة الرباني لمن لا يعلمها؛ وهي مجهولة في زماننا وفي الأزمنة التي قبله، لدى العلماء قاطبة؛ بحيث تجدهم ينسبونها (الربانية) إلى بعض علماء الدين بالظن، من غير أن يعلموا مناط حكمها. ونحن بحمد الله قد أوضحناها إيضاحا لا مزيد عليه، لمن كان ذا إيمان، مع علمه. والشيعة عند ظنهم أن العصمة خاصة بالأئمة، دون الخلفاء، قد أخطأوا الحكم. وأما من سيرُدّ عليهم من أهل السنة، بأن الخلفاء عندنا غير معصومين، فنقول له: أنت أقل من الشيعة في الإدراك؛ لأنهم قد أدركوا خصائص الربانية، وأخطأوا في تحديد النسبة؛ أما أنت، فما أدركتها من الأصل!..
وعلى كل حال، فإن من يحقق النظر، سيجد الشيعة وأهل السنة، قد اقتسموا عقائد الحق بينهم (نقول هذا على التعميم)؛ فذهبت الشيعة بكثير من أحكام الباطن، وذهب أهل السنة بكثير من أحكام الظاهر؛ كل هذا بخصوص الخلافة والإمامة حصرا. وهذا هو ما جعل أهل السنة على بعض الباطل، وجعل الشيعة على بعضه أيضا. أما الحق الذي كان عليه الخلفاء والأئمة ومن تبعهم، فهو متفرق بين هؤلاء وهؤلاء. وهذا هو ما ندعو إليه (=الحق الجامع) نحن في هذا الزمان، ليكون تهيئة لمـَقْدَم خاتم الخلفاء، المهدي عليه السلام.
____________________
[1] . متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] . أخرجه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، والترمذي في سننه واللفظ له، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] . أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 559 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.