الفصل السادس - مهام الفقهاء الأصلية
إن أول مهمة للفقهاء، هي التفقه (التعلّم)؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وعلى اختلاف في معنى النَّفْر عند المفسرين، إلا أنه لا يخرج عن قصد التفقه (عِلم ما أنزل الله) بأسباب شتى، من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ مباشرة لمن كان باقيا في المدينة، وبكيفية غير مباشرة لمن غاب عنها؛ ثم العودة بما عُلم، إلى من لم يعلم ممن كان غائبا، أو كان من أهل البادية. وعلى هذا فإن الفقه يؤخذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع الأحوال، بواسطة وبدونها. وهو بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يؤخذ عن طبقة الربانيين، كما سبق أن أبنّا مرارا.
وأما التفقه على أيدي أئمة الفقه، فهو إبعاد في الأخذ؛ لأن فقههم يقتصر على الفقه الظاهر، دون الباطن الذي منه فقه التزكية والسلوك. يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. فهذه الآية تُعرّف ضروب الفقه من جهة الظاهر ومن جهة الباطن؛ مع التأكيد على أنها كلها تُتعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كل زمان؛ من زمن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، إلى أن تقوم الساعة. وهذا هو ما يدل عليه قول الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3].
فإذا حصل التفقه، تعينت على الفقهاء المهمة الثانية، والتي هي بحسب الآية التي صدّرنا بها الكلام، إنذار القوم. ولقد خص الله الإنذار بالذكر وحده، مع أن القرآن نزل بالنذارة وبالبشارة معا؛ للدلالة على مُرتكز الأمر، هو التربية الجلالية؛ حتى يستقر في النفس الخوف من الله والذل له. وأما مطالعة الجمال، فهي نتيجة للتربية الجلالية، ولا تستقل عنها. ومن دلّك على السبب، فقد دلك على النتيجة. فإن قال قائل: فلم كانت رسالة عيسى عليه السلام بشارة، ولم تكن نذارة؟.. نقول: لقد شملت الرسالة العيسوية النذارة أيضا؛ إلا أنها قد غلب عليها التبشير، بسبب كونها متممة للرسالة الموسوية التي كانت بعكس ذلك تميل إلى الإنذار. وعلى هذا، فإن الرسالة المحمدية، تكون جامعة لما تفرق في الرسالتين الموسوية والعيسوية؛ لكن بالترتيب الذي يقتضيه العلم. نعني بإسباق النذارة على البشارة. وهذا أيضا من لب الفقه في الدين.
والنذارة تتطلب أول ما تتطلب، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذه الوظيفة هي مما لا يختلف عليه اثنان من مقلدة الفقهاء، فضلا عن الأئمة. لكننا إن عدنا إلى تفقدها في زماننا، فإننا سنجدها شبه منعدمة. ذلك لأن حمَلة الفقه، صاروا خَدَما للحكام. فهم لا ينطقون بشيء علموه، إلا بعد إذنهم؛ إن أذنوا. أو هم قد وطنوا أنفسهم، على النطق (الأمر والنهي) بما يراه الحكام لا الشرع؛ فعادوا موظَّفين منفصلين عن الفقه، كما هو في أصله. ذلك لأن الفقيه الأصيل، يأخذ علمه من الله ورسوله، ويأمر به وينهى، بحسب ما يرى من دواع شرعية، من دون اعتبار لشيء آخر. وهذا الفقه الذي يأتمر بأوامر الحكام، لا يمكن أن تُضمن نتائجه. فعلى فرض أن يكون الحاكم صالحا خاشيا لربه، بخصوص بعض منهم؛ فكيف يكون الأمر مع من اتخذ إلهه هواه وتربب في نفسه؟!.. ألا يكون هذا من الخروج عن الدين جملة؟!.. ثم إن العلم، لم يترك لنا اعتبار الخصوصيات، إلا في الدرجة الثانية وما بعدها في الاعتبار؛ ولهذا كانت القواعد العامة (الكليات) حاكمة على الأحكام الفرعية لدى الفقهاء دائما.
إن غياب الفقه المؤسّس على التفقه الصحيح، وعلى النذارة للقوم بشروطها، جَعَلنا أمام فراغ فقهي غير معلن. لا يتمكن الناس من سد فراغه من أنفسهم، ويجعلهم في الوقت نفسه، عرضة لكل متلاعب يأتيهم بلبوس الدين. ومن هذا الباب أُتي شبابنا الذين أخذتهم الجماعات السياسية، فظنوها بديلا ناجعا.
وإن كان نزول مقلّدة الفقهاء عن مرتبتهم، سيفرز طبقة جديدة هي "مرتزقة الفقهاء" (الذين لا يأبهون لحلال ولا لحرام؛ وإنما همهم بيع سلطتهم الدينية لمن زاد عطاؤه)؛ فإن طبقة أخرى مقابلة، ظهرت لتُحمّل الحكام وحدهم، تبعة ما لحق الأمة من بلاء على مر القرون. وهؤلاء قد أسسوا للأيديولوجيا السياسية في الدين، بعد أن كانت الأيديولوجيا العقدية قد تمكنت وأعطت مُرّ ثمارها. فازدادت الشعوب تمزقا على تمزق، عندما أصبح للرأي السياسي اعتبار في الدين!..
سيعاجلنا بعض الناس بالقول: وهل السياسة منفصلة عن الدين؟.. فنقول: لسنا نعني هذا؛ وإنما نعني استعمال الذرائع في غير موضعها، للوصول إلى ما تشتهي الأنفس!.. خصوصا وأن الأمر يتعلق بالحكم، الذي يتطلع إليه كل طلاب الدنيا؛ ويستهوِنون في سبيله ارتكاب أكبر الكبائر. ولنا في حاضر الأمة، ما يغني عن استحضار محن الماضي!..
لو كان متسيّسو الفقهاء يرومون الإصلاح حقيقة، لبدأوا بإصلاح أنفسهم. نعني لبدأوا بتوجيه اللوم إلى أمثالهم من الفقهاء، الذين زينوا للحكام طريقهم؛ لأنه ما من حاكم إلا وتحيط به جوقة من الفقهاء، يشهدون له -قبل أن يُستشهدوا- أن ما ينطق به هو الحق الذي نزل من عند الله؛ وأن من تُسول له نفسه مخالفته في الرأي، يكون مارقا من الدين على كل المذاهب. كان الأجدر بهم فضح هؤلاء المرتزقة، لا معارضة الحكام، الذين لو وَجدوا من يردهم إلى الصراط المستقيم، لاستجابوا ولو قليلا. أما وضع اللوم كله على الحكام، أو السكوت عنه إن كان من الغير، فهو من السياسة إن لم يكن جهلا، لا من الفقه؛ لإبقاء الصلة بين الفريقين من الفقهاء، استعدادا لما يمكن أن يحدث من تغيير للمواقع عند الانقلابات. أهكذا يكون الصدق في القول والفعل الذي يحض عليه الدين؟!..
إن الناظر في أحوال الفقهاء في زماننا، سيجد جلهم مسيَّسين: فريق منهم مع الحكام، وفريق في المعارضة. والشعوب لا تتمكن من إدراك دين يجمع النقيضين؛ خصوصا وأن الأمر لم يُحسم بين الفريقين فيما بينهما. نعني أنه لم يُشر فريق إلى الآخر بكونه على الباطل من كل وجه؛ حتى يُريح الناس. وهذا الأمر، مع تَكراره في حياة الشعوب، هو الذي أوصلها إلى التخلّي عن العقل وأصوله عمليا. وحتى من يزعم أنه قد تخلّص من هيمنة الفقهاء، وأنه قد أصبح مجتهدا على قدر نفسه، يرجّح فريقا على آخر، فإنه لا يعلن ذلك إلا بين من هم على شاكلته؛ ولا يستطيع الجهر برأيه أمام العموم. هذا من جهة الكلام؛ أما ما يكون عملا في اتجاه ما يرى أنه الحق، فإنك لن تعثر له على أثر يُذكر. ذلك لأن شخصية المسلم مع كثرة ما وقع عليها من تأثير من مختلف السلطات، صارت كالثوب الذي ذهب لونه من كثرة ما غُسل؛ باهتة منمحية!..
لو أن الفقهاء أرادوا أن يؤدوا ما عليهم لله، لبيّنوا أحكام الدين للحكام وللمحكومين جميعا؛ من غير أن يكون لهم غرض؛ ومن دون أن يكتموا شيئا مما ينبغي تبيينه، أو يُجمِّلوا ويُقبّحوا من عند أنفسهم. ولو كانوا على هذه الصفة، وبقوا على الحياد من جهة السياسة، لصاروا مرجعا للجميع، حائزين لثقة الجميع. ولكن ما نشترطه هنا، يقتضي أن يكون الفقيه طالبا للآخرة، عازفا عن الدنيا؛ قانعا بالقليل، صابرا على الشدائد. وهذا، كان يمكن أن يُحصّله الفقيه، لو أنه تربى على أيدي الربانيين، الذين صار يُنكِر في الغالب وجودهم. فمَثَله كمن أعدم نفسه سبب النجاة، وهو عرضة للهلاك. فما أحمقه!..
لا بد أن نذكر هنا أن الفقيه إن كان أمينا على ما حُمِّل، فإنه يكون نائبا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، من وجه الرسالة حصرا؛ لا من وجه النبوة ولا من وجه الولاية. فليُعتبر هذا عند الفقهاء العاملين، حتى لا يدخل المرء في سوء الأدب، مع من أنابهم!.. صلى الله عليه وآله وسلم.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 555 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.
رابط المقال على موقع الطريقة العمرية