تطرق الكاتب الامريكي مارك توين الى موضوع من الاهمية بمكان الا وهو الشجاعة الاخلاقية ؛ اذ تساءل قائلا : ((لماذا الشجاعة البدنية أكثر شيوعاً من الشجاعة الأخلاقية ؟! )) .
ليست الشجاعة في ان تحمل سيفا او بندقية او ( توثية ) تحارب فيها الاخرين كما في العصور الغابرة ؛ او تتصارع مع الناس كصراع الضباع على الجيفة او تتقاتل مع المواطنين كما الحيوانات المفترسة فيما بينها , فهذه الصفة الذميمة قد اكل الدهر عليها وشرب ؛ اذ تعيش الان اغلب شعوب العالم المتحضر تحت راية الانسانية والقانون و قيم العلم والتسامح والتنمية والمعرفة ؛ ولا احد منهم يتبجح ب : (( ... ويلك ياللي تعادينا يا ويلك يا ويل شف النار تلاقينا بظلام الليل حنا للسيف ... )) او يردد ما قاله الشاعر القطامي التغلبي :
وَمَـن تـكُنِ الحضارةُ أَعجَبَتهُ ... فـأيَّ أنـاسِ بـاديـةِ تَـرَانـا
وَمَن رَبَطَ الجِحاشَ فإنَّ فينا ... قـنـاَ سُلباً وأفراساً حِسانا
وكُـنَّ اذا أَغَـرنَ عـلى جَـنابٍ ... وأَعـوَزهُـنَّ كـوزٌ حـيـث كـانا
أغرنَ من الضَّبابِ على حَلالِ ... وضـبـةَ إنَّهـُ مَـن حـانَ حـانا
وأحـيـانـاً عـلى بَكرٍ أخينا ... إذا ما لم نَجِد إِلا أخانا
هجرت الشعوب المتحضرة هذه المقولات ونظائرها من قبيل : السيف البتار الذي يشطر الشخص الى شطرين – والسيف الذي يفلق الهام – او ذل من لا سيف له – و العز تحت ظلال السيوف - ... الخ .
هذه السيوف كانت تفتك بأبناء المجتمع الواحد وهذه ( التواثي ) موجهة ضد رؤوس ابناء الوطن ؛ حتى انهكته واهلكته مما صيرته لقمة سائغة للاحتلالات الاجنبية والتدخلات الخارجية ؛ فالعز الان يكمن في المختبرات العلمية والصناعات الوطنية والتنمية البشرية لا في ظلال السيوف والعصي ؛ ولا يفهم من كلامنا اننا ندعو الى تجريد الجيش الوطني من سلاحه الذي يحمي به الوطن والمواطن من الاعداء الخارجيين ؛ فهذا موضوع وذاك موضوع اخر مختلف جدا ؛ اذ اننا ندعو الى حصر السلاح بيد الدولة وعدم عسكرة المجتمع وتجريد المواطنين من كافة انواع الاسلحة وتجريم استخدام العنف فيما بينهم بنصوص قانونية عادلة تضمن السلم والامن الاهلي والمجتمعي وتنشر الامان والسلام في ربوع الوطن .
وقد نسب للنبي محمد : ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) فليس القوي ذاك الشخص العصبي المنفعل الذي يلكم هذا وذاك ويعتدي على المواطنين بالضرب او يستعرض عضلاته امام الاخرين ؛ انما القوي والشجاع : المواطن المثقف والعامل المجد والموظف النزيه والجندي الغيور والشخص الكفوء ... فهؤلاء هم الشجعان الذين يرفعون اسم العراق عاليا .
فعندما تتظاهر ضد هذه الحكومة او تلك وتقوم بحرق الاطارات والدوائر وسيارات الدولة ومقرات الاحزاب وتغلق المدارس وتتعدى على رجال الجيش والشرطة بالحجارة والشتم والضرب وقنابل المولوتوف احيانا , او الاستعراض بالأسلحة ... الخ ؛ هذا لا يعني انك شجاعا بل مخربا همجيا او ارعنا متهورا لا تعي مخططات الاعداء ولا تفكر بمستقبل الاجيال بصورة علمية ومنطقية ؛ انظر الى تظاهرات الشعوب المتحضرة والشخصيات المثقفة وتعلم منها , ولا تكن اضحوكة للآخرين حتى في تظاهراتك ؛ فهذه التصرفات ليست من الشجاعة بشيء بقدر ما تعكس القيم الرجعية البالية والسلوكيات السلبية الهابطة والعقد النفسية .
والا بماذا تفسر هذه الظواهر الاجتماعية : رمي الاطلاقات النارية وبمختلف الاسلحة في مختلف المناسبات ؛ في الخطبة وفي العرس , وفي الموت وتشييع الجنائز , وعندما يفوز المنتخب الوطني ... الخ ؟!
انها عقد الرجولة والفحولة والذكورة والشجاعة في المجتمعات المريضة والتجمعات المتخلفة .
اما ان الاوان ان يرتاح العراقيون وينعم المواطنون بالسلم والهدوء والامان ؛ وان يعي العراقي ان الرجولة تكمن في حماية الوطن وابناءه من الاعداء , وان يعرف المواطن ان الشجاعة تعني قول الحق حتى لو عارضك الجميع , وان يفهم الانسان ان الفحولة لا تعني كثرة العراك او ممارسة النكاح او شد العضلات بقدر ما تعني اعمار الارض وتطوير البلاد وصون الاعراض من الاعتداءات والتحرش والسلوكيات الجنسية السلبية .
نعم ان الشجاعة تعني الثبات على المبادئ والقيم , واحترام الانسان , ورعاية الاطفال والنساء والضعفاء , والاهتمام بالوطن ومساعدة المواطن ؛ وعليه لا يعتبر اذى الناس والاضرار بالآخرين والاستخفاف بالمواطنين والاستهتار ... من الشجاعة بل انه من الحقد والكره والضعف والخسة والنذالة والدونية .