يشعُرُ الأستاذ ماركيز بهدوءٍ أكثر مِن اللازم، هدوءٌ مشابه لحد كبير لذلك الذي يسبق العواصف والأعاصير، أين يصبح الإنسان منخدعا بتلك الصورة المزيفة التي تجعله يشعر بالأمان قبل أن يأخذه الزمان على حين غرة، هي حالة تضاعف شعور الفزع عندما تحين ساعة الزلزال الروحي الذي قد يصيب الفرد دون سابق تبليغ. اعتاد ماركيز على العواصف على اختلافها، فعلى "أرض الجنة ما وراء البحر"؛ الأعاصير لا تهدأ رغم اعتدال الجو في تلك المنطقة مِن العالَم، لقد اعتاد على المشاكل منذ طفولته، فإن نجا مِن أزمة الطاقة، لم ينجُ مِن أزمات السكن والنقل، وإن فرَّ مِن أزمة التعليم لم يستطع الفرار مِن أزمة العمل/البطالة، وإن خطف ساعة نوم هادئ وجد نفسه محاصرا بالضجيج مِن كافة النواحي، هي حياة كَتبها الأشرار على الأخيار فوق أرض القراصنة، حتى صار الكثير منهم يعتبرها عادية لطول مدتها؛ بل إنَّ الكثير مِن القراصنة لم يعرفوا غير هذه المشقات حتى صاروا يعتقدون بأنَّها هي صعوبات الحياة بشكل عام.
مِن أجمل هدايا الحياة أنها تسير وفق وحدات، صحيح أنَّ كلَّ وحدة متصلة بالأخرى، وهي متأثرة بها بشكل مباشر، لكنها وبالمقابل تحمل بين تفاصيلها فتات القطيعة التي يمكن تطبيقها على لحظة معينة بقرار حاسِم، وبهذا المضمون، يتمكن الفرد بجرَّة قسوة مِن حِبر الشجاعة، أن يتقدَّم في حياته، دافعا ثمن هذا الانتقال روحيا قبل أن يدفعه مِن جهده وطاقته فيما بعد. الآن نجد الأستاذ ماركيز وَاقِفًا على جسر الشجاعة، وهو مدرك تمام الإدراك لما عليه القيام به، مسجلا تكاليف خطوته التالية على دفتر روحه، تشتعل نار تمرده في عقله المستتر، وحاملا للمجهول الذي سيقف في مواجهته دون تردد كما هي عادته بين ستائر ضميره، إنَّها اللحظة الحاسمة، تلك التي جعلت "محمد الغزالي" يصفها بلحظة "التحوُّل" وجعلت الكبير شكسبير يصفها بـ: "أكون أو لا أكون"، ودفعت سقراط للقول: "اعرف نفسك بنفسك"، كما حتَّمت على ديكارت التصريح بها قائلا: "أنا أفكر، إذن أنا موجود".
لم يجد ماركيز رفيقا يحكي له همومه وما يجول في خاطره ويكون موثوقا فيه كما وجد سجائره، هو لا يدخن حبا في التدخين، بل لأنه مدرك بأنَّ السيجارة تملك حواس السَّمع والزوال، تسمع ما يدور في خلد المدخِّن قبل أن تحترق وتزول، لا تعيش مدَّة أطول لتحكي لغير مدخنها ما أسر به مدخنُها نفسه، لهذا وجد الأستاذ ماركيز أنسه وراحته في تدخينه لتلك السيجارة، في كلِّ الأوقات وتحت كلِّ الظروف. أن تفقد الثقة، أن تحمل الأمل وأنتَ تعرف قبل غيرك بأنَّك تستطيع، هذه معادلة مرهقة لقرصان يعيش حياة البؤس والشقاء على أرضٍ لا تعترف سوى بالجبناء، ملقية بأبناء النبلاء على قارعة الطرقات، إنَّها تراجيديا بلا حدود ولا نهايات، قَدَرٌ يتم تداوله محاولين إقناع ماركيز ومشتقاته بأنَّ العبيد يولدون كذلك، لكن! وما تؤكده كافة الشرائع والتشريعات، وما تدلُّ عليه الطبيعة ذاتها هو أنَّ الحرية هي أساس الحياة، وهي الهبة الوحيدة التي يرثها الإنسان لمجرَّد كونه إنسان.
وُجِدَ القتال لأجل انتزاع الحقوق والدفاع عنها، واكتسابها لن يكون إلاَّ بدفع الثَّمن عندما يكون القرصان مِثل الأستاذ ماركيز يعيش على أرض تستقي مشروعية ومبررات وجودها مِن الظلم والظالمين، لهذا ما هو عادي وبسيط ولا يحتاج إلى كثيرٍ مِن الجهد للتخمين، هو أنَّ ماركيز – حفيد النبلاء – لن يستسلم! لقد خاض عبر العصور الإنسان الصراع لأجل ضمان بقائه، نجاته وصيانة حياته، ولا يمكن بحُكم سريان التاريخ والطبيعة أن يكون الأستاذ ماركيز استثناءً عن هذه القاعدة، هي طبول الحرب تُدق، ولكنَّ القليل منا يتمكن مِن سماعها.