تُبنى العلاقات البشرية على الإنسانية، تُنسَجُ هذه العلاقات بأيادي المعاملات، التنازلات والأخذ في البال كافة الاعتبارات، سواء كانت واقعية أم ظرفية، إلاَّ أنَّ كلَّ هذه المحددات هي التي ترسم النمط العام الذي يسيِّرُ العامة، وبهذا يسير ماركيز وكافة القراصنة، عبر ما تم وضعه منذ سالف الأزمان، ليكونوا أحياء يقودهم الأموات – الأسلاف – بجدارة وفخر.
هناك مَن يدمن الشراب – المشروبات الروحية "الكحولية" – وهناك مَن يدمن المخدرات، المهلوسات أو الكافيين، لكن أستاذنا ماركيز قد أدمن التفكير، وهذا ما سبب له الكثير مِن التعقيدات له ولمَن هُم حوله، فهو بحكم حياته التي تدور كلها في الجنة ما وراء البحر، أين يسترسل القراصنة في جهلهم، معتبرين التفكير عارا وجريمة، خطأ وخطيئة، فإنَّ التفكير هو أخطر الذنوب التي قد تلتصق بأحد أفرادها، فما بال الفرد الإنساني إن كان ماركيز – هذا القرصان المتمرد على كافة مبادئ القراصنة وتداعياتها – إنَّها حالة نتيجة لمقدمات كثيرة، أهمها منطق طرح السؤال، الجموح والتمسك بالطموح، وهي كلها تجتمع في النبلاء، كما تجتمع في الأستاذ ماركيز.
معروف على الأستاذ ماركيز مدى اشمئزازه مِن تصرفات القراصنة التي تعود منابعها إلى القرن الوسطى الأوربية، فرغم الإنكار الشديد الذي يحاول كل قرصان إثباته، إلاَّ أنَّ الخيانة، الكذب، القدرة التدميرية المفعَّلَة والغطرسة كلها صفات وتصرفات لم يعد لها حضور سافر في القرن الواحد والعشرين سوى على أرض الجنة ما وراء البحر، لقد اجتهدت كافة الثقافات – حتى الهمجية منها – والفلسفات – حتى المتشددة والمتطرفة منها – على تهذيب سلوكها العدواني/الأناني، إلاَّ سخافة/ثقافة القراصنة التي لا تزال تتمسك بمبدأ "البقاء للأقوى" بلا مواد تجميل لتخفي المضامين مقززة.
إنَّها بداية الخريف، يطل الأستاذ ماركيز مِن شرفة بيت أبيه، يشعل سيجارة، قبل أن يلقي بنظره إلى الطريق مباشرة، وإذ به يشاهد معركة بالأيدي والعصيّ بين مجموعتيْن مِن المراهقين، فعادت إلى ذهنه صور تلك المعارك الدموية التي كانت تدور بين القبائل والقوميات خلال فترة القرون الوسطى الأوربية، طبعا كانت الأسباب تافهة وقتها، حيث كان يكفي اختلاف فرديْن مِن السكارى في حانة حول الفتاة التي تسقيهما البيرة حتى يدخلان في شجار ينتهي بقتال بين قوميتيْن لسنوات تراق فيها الدماء بلا توقف.
لا يزال يشاهد الأستاذ ماركيز هذا المنطق على أرض الجنة ما وراء البحر، هناك تسيُّبٌ واضح، أين قانون – الهمج – قد صار هو السيِّد على الحياة العامة في بلاد القراصنة، وَقد يسأل أحدهم الأستاذ ماركيز عن دور أعوان زعيم القراصنة في حفظ السلام بين بقية الأتباع، وجواب ماركيز عن هذه القضايا واضح وبسيط: "زعيم القراصنة هو المستفيد الأوَّل مِن وضعية الحرب القومية التي تغرق فيها شوارع وأحياء الجنة ما وراء البحر"، إنها ثقافة العنف في محاولة استدعاء جلية لغريزة النجاة لدى البسطاء مِن القراصنة، فالقرصان حين تُحصر حياته ومتطلباتها في دائرة الغرائز الحيوانية قصد توفير رفاهية البقاء فقط، لن يجرؤ على التفكير في المبادئ الكلية/الأساسية للحياة الكريمة مثل: الحرية، العدالة والسعي خلف الحقيقة، هو انحدار مقصود ومدروس، هدفه إبقاء القطيع تحت السيطرة.
بعد مشاهدته لموجة الصراخ والصخب التي دارت في احدى شوارع أرض القراصنة، يعود ماركيز إلى غرفته بعد إلقائه بعقب السيجارة عبر الشرفة، يجلس وحيدا مستأنسا بكتبه، يتمدد على سريره الواسع، فتقع عيونه على تلك الزخرفة العربية التي تزيِّنُ المصحف الكريم، ولشدة انبهاره بها وجد نفسه يفتح هذا الكتاب المقدس، محاولا لمس آخر خيوط الوصال بين السماء والأرض، أين تمَّ تلخيص الكون بجانبيْه الروحي والمادي بشكل متقن على لوحة رملية بعيدة لا تهدأ الرياح مِن حولها، لقد انبهر ماركيز بالقرآن انبهارا عظيما، وأشدُّ ما أثار عجبه وزاد مِن وتيرة تفكيره هي سورة يوسف – عليه السلام، وعلاقته بإخوته بشكل أساسيّ، فراح ماركيز يعيد قراءة هذه السورة لعله يعثر بين كلماتها على أمله التائه.