كفي بكفها، كفها الذي تفوح منه رائحة الحناء واللين. نظرت إليّ طويلًا  وبابتسامة لطيفة قالت لي: تشبهين نوف! إنها جدتي التي ضيع ألزهايمر ذاكرتها. وأنا نوف التي تُحبها كثيرًا.

مرت  سنوات منذ بدأت أعراض ألزهايمر تظهر على جدتي. لقد نقض ألزهايمر غزل الحكايات، و قصص خيوط الشعر، ومحى الأسماء، وطمس وجوه الأحبة.

 في السنوات الأولى كنت أشعر بأنني أتشبث داخل ذاكرتها. أدس نفسي في زاوية، أتمسك بقوة، حتى لا يبتلعني ألزهايمر. لكنه خصمٌ لا يُغلب! هزمني قبل أن يهزمها، ومحاني من ذاكرتها الطيبة.

الآن، جدتي لا تعرفني. وأشعر بأن جزءًا من حياتي تلاشى. صورتي التي تراني بها، والقابي التي تناديني بها، وذكرياتي معها عندما ترويها بصوتها. افتقدها بشدة، وافتقد مكاني في ذاكرتها.

لا أعلم كيف تشعر جدتي حيال ذلك. لكن أتمنى بأن تكون أكثر خفة. وأن يمحو ألزهايمر كل لحظات الأسى التي عبرتها. أتمنى أن تنام نومًا هانئًا، وتحيا يوميًا طيبًا.

أما نحن فأنا أعلم جيدًا حجم الأسى الذي نشعر به، والشوق الذي يملأ قلوبنا، والصدمة التي تتجدد في كل مرة لا تتعرف علينا بها. لكن لا نملك سوى الرضا والتسليم والتصالح.

إن الرضا بألزهايمز والتصالح معه رحلة طويلة جدًا، ليست لها طرقًا معبدة، ولم يضع أحدًا لها خرائط واضحة، ولا يمكن لأحد أن يسلكها عني. رحلة لا أعلم يقينًا ماذا أحتاج فيها، وكيف سأسلكها، وإلى أين ستأخذني، ومتى ستنتهي؟

رحلة بدأت دون أن أستعد لها، وأخذتني فجأة إلى محطتها الأولى "الإنكار". المحطة الأكثر ألمًا وصخبًا. كنت أُكذب ما يحدث، وأمني نفسي بأن جدتي ستتعافى، وأن هذا كله سينتهي. مضت الأيام ولم ينته كان واقعًا فرض نفسه، لم يؤثر عليه رفضنا و إنكارنا له. إنها المحطة الأصعب، وتجاوزها كان فضلًا من الله ورحمة.

ثم أخذتني الرحلة إلى المحطة التي تقتات على المشاعر، وتعكر صفو إي سعادة عابرة. محطة "الشعور بالتقصير والذنب"، بأصواتها المزعجة وكلماتها القاسية، التي تسمم كل لحظة جميلة أو مريحة، بسؤال واحد"كيف تستطيع أن أضحك وأرتاح وحبيبة قلبي هذا حالها؟" وكانت طريقتي بالخروج من هذه المرحلة، هي يقيني بأن جدتي تتمنى لي السعادة من كل قلبها. فبدلًا من الشعور بالذنب لأنها ليست معي كنت أعيش اللحظة عني وعنها. فكما كنت أذهب لحفل زفاف ابن صديقتها نيابة عنها، هذا أنا أدخل سعادتي نيابةً عنها.

أما الشعور بالتقصير، فأحاول أن أواجهه بالأفعال. فاستبدل الشعور السيئ بالتقصير، بفعل جيّد مثل الدعاء، الصدقة، الزيارة، الحديث عنها،....الخ.

وأخيرًا، ربما، كان "القبول". الذي بدأ بقصة لطيفة للأطفال بعنوان

"the remember balloons ”

يشبّه الطفل في هذه القصة الذكريات بالبالونات، وكل بالون يحمل ذكرى محددة ويتلون بلونها. كان الجد يمسك بيده الكثير من بالونات الذكريات، وفِي كل مرة يسترجع هذه الذكريات مع حفيده. ذكرياته السعيدة، ذكرياته الحزينة، وذكرياته المربكة أيضًا. مع مرور الأيام بدأت البالونات تفلت من يد الجد. إنه ألزهايمر تقول الأم لطفلها، وبالونات جدك الآن أصبحت ملكك، حان دورك لتتحدث أنت عنها. ابتسمت لهذه الفكرة، وتخيلت "بالونات" جدتي بألوانها الكثيرة وهي في يدي وفِي قلبي. وأن ذكرياتها التي تقاسمتها معي ومع أحبتها، لها نسخة احتياطية في قلبي وقلوب أحبتها جميعًا.

 الحدث الثاني الذي ساعدني على التقبل، هو ولادة "ابنة أخي"، الحفيدة الجديدة. "مدخل السرور" كما تسميها أمي، و "جبر الخاطر" كما أسميها أنا. ففرحتي بتعرفها عليَ وتمييزها ملامحي، تقابل حزني حينما لم تستطع جدتي التعرف علي. وسعادتي بنطقها لاسمي، تقابل وجعي حينما توقفت جدتي عن نطقه. والذكريات الجميلة التي نصنعها معًا كانت العوض عن الذكريات التي خُطفت من ذاكرة جدتي. وكأن صورتنا تُمحى من مكان وتنتقل إلى مكان آخر، وعلاقتنا تتحول من جيلٍ  يكبرنا إلى جيلٍ يصغرنا.

حقيقة.. إن المصاب جلل، والفقد يتجدد كل يوم، ووطأة الشوق للحاضر الغائب أشد على القلب من الشوق للغائب. فقد غرقت ذاكرة جدتي في طوفان النسيان، بعد أن حاكت لنا الحكايات، و أسقتنا الشِعر، و حصنتنا بالدعوات، وسمعتنا "آخر النكت"، وأخبرتنا أسرار الأطباق و أسماء الأعشاب و خلطات التداوي. غرقت الذاكرة الطيبة بعد أن تركت لنا كل ما تملك من ستر نجاة.

حدثوني أنتم، هل أصيب أحد من أحبتكم بالزهايمر؟ أخبروني قصصكم وشاركوني مشاعركم وتجاربكم.