عبارة شهيرة تُنسب لآينشتاين يقول فيها: "يُمكن لأي أحمق أن يعرف، لكن المهم -والنادر- هو أن تفهم".


عالم القراءة والمعرفة عالمٌ سحري، ولطالما ارتبط هذا العالم بالرُقي والادعاءات الضخمة. ومنه نرى الفعاليات الثقافية -مثل معرض الكتاب- محاطة بهالة مثيرة وجميلة، إذ فيها تلتقي بحور وتتلاطم أمواج، ويرتادها أناس ذو مشارب شتّى، وأنا هنا أكتب لك -أعزّك الله- عمّا عرفته من أنواع القرّاء الذين يملؤون تلك القاعات والممرات.


أكتب هنا عن خمسة أنواع من القراء تجمعهم صفات مشتركة، منها: أنهم لايستفيدون من قراءاتهم ولا يستمتعون، ففائدتهم -إن كان هنالك فائدة- تأتي من شيء آخر ليس هو فعل القراءة والفهم، وإنما -مثلاً- من تكبير مركزهم بين جماعة ما، أو وصولهم لمكانة يريدونها. ومتعتهم -إن كان هنالك متعة- لا تأتي من فعل القراءة نفسه والفهم، وإنما تأتي -مثلاً- من شعورهم بالنصر بعد سحق خصومهم.


وهاهي الفئات الخمس:


  • الباحثون عن الحقيقة

تهتم هذه الفئة بكل شائك وغريب من الأفكار، وهي في سعي دائم نحو الكشف عن حقيقة ما، حقيقة مختبئة، وهم يتصورون -بوعي أم بلاوعي- أنه ثمة من يتعمد إخفاء تلك الحقيقة عن الناس، الذين هم سدنة الحقيقة، الخبثاء الذين لا يريدوننا أن نعرف الحقيقة وأن نواجهها عارية.

مواضيعهم: نقد الدين – هل كان البخاري يهوديًا؟ - حفريات في النقوش الثمودية المنسوخة في القران – ساعي السماء: جبرائيل الذي نزل على محمد.. من هو؟ - ابن رشد والاعتراض على الشريعة (نصوص تنويرية مخفية).

ويقود هذه المواضيع ثلة من الكتّاب العرب والدكاترة والمستشرقين، وبعضهم تعرض للسجن والظلم، وبعضهم هرب لاجئًا، وهذه القصص تمنح الحبكة الدرامية معاني كبيرة، وتعطي هذه العناوين هيبة وقيمة باعتبارها أسرارًا قد تودي بك للقتل. مع أنك لو تتبعت الأمر لوجدت القاتل ليس إلا معتوهًا متعصّبًا كان يمكن أن يقتلك على تغريدة تكتب فيها "ويلهامسون أسرع من ابن عباس".


هيئاتهم: قليل من الشباب وكثير من الكهول. مظاهر غير متدينة، وأحيانًا ترى الرجل فتعرف أنه كان بلحية قبل زمن قريب. صامتون، مرتابون، غاضبون، لكن إن وجدوا المجال للكلام فإنهم يبهرونك بثرثراتهم، ولديهم قدرة على سرد مئات الإستشكالات خلال دقائق يسيرة. أغلبية رجالية، نسبة ضئيلة من النساء.



  • المحاربون

لدى هذه الفئة معارك تخوضها بشراسة، ولديهم ميادين للقتال لا يعرفها كثير من الناس، ساحات (واقعية وافتراضية) يجتمعون فيها مع خصومهم ويتلاعنون سرًّا وجهرا. وهم محارِبون محترفون، وقرّاء متخصصون في مجالهم الذي يحبونه، لأنهم يحبون القتال فيه. وهم -بطبيعة الحال- يجعلون لأنفسهم أهدافًا سامية من تلك المعارك، فهم يريدون إحقاق الحق ونبذ الباطل.


مواضيعهم: الأنساب والبلدانيات – تواريخ المدن والأمارات والمشيخات – تواريخ القبائل – علم العقيدة وعلوم الكلام – الرد على الأشاعرة الملاعين – تفنيد أقوال المجسمة عيال الكلب.


هيئاتهم: أغلبية رجالية ساحقة. معظمهم بين سن الشباب والكهول. يغلب عليهم الرزانة والحضور الذهني العالي، متأهبون ومتحفزون، يعرفون مالذي يريدونه. نسبة غير قليلة منهم متدينة، وبعضهم يعملون في مناصب حساسة وكبيرة.


  • المستفخمون

هذه الفئة تعتبر القراءة كجواز عبور للعالم الآخر، للعالم الراقي، العالم المتحضر الذي يتذوق الكلمات والحروف والهمسات. ينشدون الفخامة في كل الأحوال، يريدون من هذه الأوراق أن تنقلهم من وحلهم الطيني هذا الذي يحتقرونه، إلى عالمٍ بعيد مخضرم ومبدع. في الغالب لا يخاصمون أحدًا، وإنما يريدون أن يُتركوا وشأنهم مع هذه القصاصات الفخمة والعبارات الغامضة والكتب ذات العناوين الرمزية الرنانة. ينفخون الكلمة العادية فتصبح قصيدة، ويطرّزون السطر الركيك الغامض ليصير أنشودة، وهم منغمسون هذا الجو ويعشقونه، لأنه يمنحهم ذلك الشعور بالفخامة.


مواضيعهم: التوت يسقط في عيني (نصوص كتبها هيرمان فارغاس أثناء السجن) – الضحك بوصفه ترنيمة الكون - وأنت جاي.


هيئاتهم: التميّز في المظهر دائمًا. أعلى الرتب عندهم: الشعر الطويل المربوط في مؤخرة الرأس. نسبة متقاربة بين النساء والرجال، والرجال أكثر. قلة من فئة الشباب، أكثرية كهول وشيبان.


  • المحترمون

فئة طيبة محترمة، لديها نزعة نحو الكتب التي تحمل طابعًا علمويًّا (تستخدم آخر الدراسات)، بينما هي تناقش مواضيع اعتيادية (مثل النوم، أو استخدام الجوال). هذه الفئة تنشد مواضيع اعتيادية عامة مبسطة، وهي في ذات الوقت لا تقبل الكلام التافه السخيف كالذي ينتشر في قروبات الواتساب. إنما تريد كلامًا عاديّا في قالب غير عادي، أيّ: في قالب علمي منهجي منظّم ومفصّل وفيه أسماء لعلماء غربيين ودراسات أجنبية ورسوم وجداول.


مواضيعهم: النميمة في أماكن العمل (كيف تجعلنا النمائم نحسّن أداءنا) – النوم واليقظة (دراسات ميدانية في لغز النوم واليقظة على 4500 حالة) – قهوة الصباح (هل حقًّا تجعلك قهوة الصباح مصحصحًا؟).


هيئاتهم: ناس منضبطة هادئة نظيفة، موظف مثالي محترم، ما يقول: عطنا خصم. ياخذ الكتاب الي يبيه ويدفع حسابه مع ابتسامة. الله يجمعنا وإياهم في جناته مع الأنبياء والصدّيقين.

نصفهم نساء والنصف الثاني رجال. (أقترح استحداث هيئة لتزويجهم من بعض للمصلحة العامة).



  • المستجدون:

يحدث أن تصدمك الحياة بموقف يغربلك، فترى حينها أنه ربما كان الحلّ في القراءة، بل قد يتراءى لك أن الإجابات كلها ستجدها هناك بين الصفحات، ثم يحدث حينها ما يسمى بـ "نزعة البدايات المتوثبة"، وهي حالة تشبه حالة الفتى الذي قرر ممارسة الصياعة، وتراه في المطار يقف أمام أرفف زجاجات الكحول لا يعرف من من أين يبدأ، فهذه كلها صياعة، ولكن من أين أصيع؟ وفي هذه المنطقة الابتدائية تكثر الأغاليط، ويظهر فيها قادة مزيفون يدّعون الخبرة أمام هؤلاء المستجدين.


مواضيعهم: الكتب الأكثر مبيعًا، وهم لكثرتهم يضاعفون أعداد البيع للكتب الأكثر مبيعًا. فن اللامبالاة – لو سمحت عندك "مهزلة العقل البشري"؟ - لو سمحت عندك كتاب "أريد أن أكون أنا ولا أريد أن أكون كما تريدون أنتم أيها الحمقى"؟ (عنوان غير حقيقي من اختراعي الشخصي).


هيئاتهم: أكثرية شباب في مقتبل العمر. أغلبية من الإناث. منفتحون منشكحون حالمون، ينفقون 90% من اللذة في اقتناء الكتاب، و10% في قراءة العشر صفحات الأولى (لأنهم لا يتجاوزن قراءة الصفحات العشر). لا يمانعون خوض محادثات جانبية مع الباعة والمشترين، يتقبلون التوصيات والنصائح، يستمعون للقرّاء الأكبر سنًّا، وهم أيضًا يعرضون آراءهم بجرأة ويعبرون عن ذواتهم بلا خجل.