كانت امرأة عادية، بأحزان عادية، بهموم يومية، بتصورات بسيطة عن الحياة، وذكريات يسيرة عن الطفولة، وقدرة ارتجالية على النسيان، حيث تنسى أسماء الرفيقات أحيانًا، وتترك النار مشتعلة طويلًا على قدر العشاء حتى يحترق.
اجتاح المرأة العادية حزن غير عادي، تتذكر سببه لكنها تمتنع عن ذكره، لم يكن حزنها هو الحدث الذي يستحق أن يُروى، كان مجرد طريق انحرف بحياتها عن المسار، ربض على قلبها بكل أثقاله يسحقها في محلها في حين كانت الأيام تتقدم دون أن تلتفت لصراعها، شلّ قدرتها على الحركة وظل يجرّ قدمها في متاهاته حتى هوى بها ذات يوم في ثقب الذاكرة، فابتلعها الثقب، لم يكن أحد قبلها قد وطأ هذا المكان، فالذكريات تتسرب من هذا الثقب نحو الناس، لكنها سقطت حيث تقطن الذكريات، فلم يعد لها ذاكرة مشوشة كذاكرتها القديمة، صارت تعيش في الذاكرة، تتذكر كل شيء، كل شيء، تتذكر كل مايخصها وما يخص الناس، كل الناس... سقطت حيث تتراكم ذكريات البشر منذ الأزل، هالها الحزن الذي كدسوه في هذا المكان، خنقتها الرطوبة العالية في ذكريات الأطفال، أفزعها العفن المنبعث من ذاكرة المسنين، علق في ثيابها الشوك الذي يتطاول من ذكريات المكتئبين، تلطخت يداها بالدم الذي ينضح من ذكريات المجرمين، تذكرت كيف كانت فكرة جميلة في رأس أمها، وكيف صارت طفلة مذعورة في يدي أبيها، تذكرت المهاد الأول الذي ضمها بألوانه الزاهية، والأحاديث التي تبادلتها زائرات أمها بعد أن أنجبتها، تذكرت الأسماء التي اقترحوها لها، تذكرت كل الأصوات التي سمعتها في أحلامها القديمة، وتذكرت كل الذعر الذي اصطخب في قلوب الأمهات الشابات حين انخرط المواليد في نوبات بكاء صاخبة وغير مفهومة، تذكرت أين فقدت علبة الألوان الأولى التي امتلكتها، وتذكرت الخطط الشريرة التي دبرتها لها رفيقة الصف، تذكرت كل ما مر بها وما مرَّ بغيرها. في البدء حاولت استثمار هذه الملكة المرعبة، فكانت تفتح بيتها للجارات لتتذكر بدلًا عنهن في أي درج خبأن كيس البهارات، وتحت أي أريكة يخبئن مبلغًا من المال، وأين فقدت الصبية خاتمها، وعند أي رفيق ترك الشاب مفتاح سيارته... لكن الأمر لم يستمر طويلًا، كانت ثقيلة بذكريات هؤلاء الذين يفتشون عن مفقودات يومية بسيطة، غافلين أو متغافلين عن كم من الأحزان والخيبات التي تتذكرها كلها... كانت تختنق أمام طوفان الأحزان المحبوسة في الذاكرة، وفي الوقت ذاته تتذكر أن ثمة ألف طبخة في ألف بيت ينبغي إطفاء النار المشتعلة تحتها، كانت منكفئة أمام المد الطاغي لذكريات الخطائين، وتتذكر في الوقت ذاته أن على مليون منهم في مليون مكان أن يتذكروا أوان وقت الصلاة. كانت مذعورة من كم الشر المتصاعد من ذكريات القتلة وتتذكر في الوقت نفسه التفاصيل الدقيقة التي فاتهم أن يتذكروها ساعة تمثيل الجريمة. وكانت تتذكر الملامح المندثرة في وجوه الموتى الذين ابتلعهم التراب والنسيان، وتتذكر في الوقت ذاته الصورة التي يتذكرهم بها ذووهم... وكانت مع كل هذا تتذكر كيف كانت قادرة من قبل على النسيان، تتذكر جيدًا الطريقة المباغتة التي كان يصفع بها النسيان الباب في وجه الذاكرة، وكانت تحرضه على صفع الباب دائمًا، كانت تصفع الباب أحيانًا، لكنها ظلّت دائمًا تتذكر ماوراء الباب، ظلت كذلك حتى صفع الوقت في وجهها الباب، وتركها وراءه لا يتذكرها أحد...