يفكِّر ماركيز كثيرًا في المسار الذي يسلكه القرصان هذه الأيَّام، يدخن كثيرا، يداعب كبرياءه محاولا تأمُّل مسار رُسِم منذ زمن بعيد، لا يعرف أحد مَن رسمه ولماذا تمَّ رسمه، لكنَّ الجميع ودون استثناء قد قام باتباعه وكأنَّه أقدس المقدَّسات، التي لا يجب تجاوزها مهما كان الثَّمن.

مسارٌ يبدأ بالولادة التي تتم في بناية تشبه المستشفى، على يد أحد الأفراد الذين يسمونهم بالقابلات، اللائي يحرسن أجساد الصبيان والصبايا كما يحرس الموج الشواطئ عبر العصور، ثمَّ تتم عملية تسجيل الاسم الخاص بالمولود الجديد في سجلات تسمى بالمدنية لكنها في الأصل هي عبارة عن مادة خام لحشو السجلات العسكرية فيما بعد، وبمرور الأيَّام يكبر الطفل جسميا فيتمكن من المشي والجري، يعاني من دورات التلقيح الذي لا يفهم معناه سوى أنَّه أمر مليح، قبل أن يتم إرساله إلى البقال أين يتعلَّم دفع أثمان المواد الاستهلاكية مهما كان نوعها أو حجمها، حتى ولو كانت قطعا صغيرة من الحلوى، يتعلَّم الجلوس إلى جماعات أفرادها في مثل سنه وتجنب الجماعات التي أفرادها أكبر منه سنا، لأنها ببساطة "جماعة الكبار"، فالكبار على هذه الأرض يفعلون ما يحلوا لهم، لا يكذبون وإن كذبوا، ولا يخطئون وإن ارتكبوا الخطايا والأخطاء، وما على الصغار سوى السمع والطاعة وتقبل ما يصدر عن الكبار دون نقاش أو طرح للأسئلة، مهما كان السؤال تافها فهو ممنوع من الطرح والإفصاح عنه أمام المخملية هذه.

بعدها يدخل الطفل المدرسة، هذه البناية التي يوجد فيها المعلمون والمعلمات، المدير الذي يُعتبر كبير الكهنة والموظفون الذين يؤدون واجباتهم بشكل يبدو مثاليا للوهلة الأولى، مجتمع جديد يعد بمستقبل مزدهر حتى وإن لم يفهم هذا الطفل ما معنى كلمة مستقبل فضلا عن كلمة مزدهر، ويحرس المدرسة حارس يلوِّح بعصا طويلة تمكنه من إنزال العقاب بمختلف الأطفال مهما كان سنهم، وهناك يتعلَّم الطفل الذي يصبح تلميذا كيف يسكت تماما في حضرة المعلِّم، المدير وكلُّ موظف ينتمي إلى ذلك المعبد، فأوَّل الدروس وآخرها التي يتعلمها التلميذ هو الطاعة، طاعة الكبار بشكل أعمى.

يتدرَّج التلميذ بمرور الزمن بين المستويات التعليمية، ويكبر معه حسه الأساسي الذي يجعل منه من زمرة العبيد، فالطاعة هي الشرط الذي يجعله يفوز بالدرجات العالية أو المتوسطة ليخترق الأقسام التعليمية على اختلافها، حتى يصل إلى الجامعة أين عليه أن يحوِّل تلك الطاعة التي صارت في ثوب الخنوع إلى رهاب بعباءة خوف شديد يسكنه، قبل أن يجد مستقرا في احدى الثكنات، أين عليه أن يؤدي واجبه العبودي بشكل متمرِّس ودون نقاش.

بعد نجاح "المواطع" الذي يسمى على بطاقات التعريف والوثائق الرسمية بالمواطن في اجتياز اختبارات الخضوع للكاسكيطة – السلطة العسكرية، ينتقل إلى الاختبار التالي، ألا وهو تشكيل "عائلة" بعدما يكون قد نقل الطاعة من العسكرية إلى الحالة المدنية أين صار موظفا في احدى المؤسسات العمومية، وبهذا تتمُّ دورة الحياة لهذا الكائن الذي نسميه مجازا بالقرصان على "أرض الجنة ما وراء البحر"، إذ عليه أن يتزوج وينجب طفلا مطيعا قبل أن يولد أصلا، بل قبل أن يتعرف على أمه قَبْلاً.

هذا المسار يحاول ماركيز بكلِّ ما له مِن قوى عقلية، وجدانية وبدنية التمرد عليه، لقد ولد ماركيز حرا، وهنا مفهوم الحرية لا يتعدى طرح الأسئلة حول ما يبدو بديهيا لهؤلاء القوم، قبل أن يتمادى في تمرده فيحاول الإجابة عن تلك الأسئلة الممنوعة من النشر والتداول علنا؛ يعلم الأستاذ ماركيز مدى خطورة الموقف، ويعلم حساسية ما هو مقبل عليه، لهذا هو يعتبر نفسه كاميكاز على أرض لم تعترف بالأحرار يوما، بل حاربتهم بكل ما تمتلك مِن عتاد بروبغندي وعدَّة ترهيبية.