Image title

 د. علي بانافع      

    في خضم احتفالات المملكة الأردنية الهاشمية في العاشر من يونيو ٢٠١٦م بالذكرى المئوية لما سُمي بالثورة العربية الكبرى -وقد اتخذت هذا اليوم في كل عام عيداً رسمياً لها- وهو اليوم الذي أعلن فيه شريف مكة الحسين بن علي رحمه الله الثورة على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ومن سخرية التاريخ أنه رغم اللقب الشريف وما يعنيه من الناحية الدينية، ورغم خلفية الشريف العثمانية ومفاهيمه الدينية التي ظل يتشبث بها حتى منفاه في قبرص إلى وفاته في عمّان؛ إلا أن الرجل نُصب قائداً للقومية العربية -رُغماً عنه- ورمزاً للحركة التي أرادت فصل الدين عن تلك القومية، وهو الذي قاد ثورة العرب المتعاونين مع الغرب النصراني ضد الخلافة العثمانية المسلمة؟! فحارب في صفوف الجيوش الإنجليزية في سبيل تمزيق وتفتيت الدولة الإسلامية الأولى العثمانية؟! وهذا يتطلب تبريراً مقنعاً وقوياً ..

     بادىء ذي بدء يجب أن نعلم أن الشريف الحسين بصفته النَسبِيِّة الدينية لا يجوز له أن يثور باسم القومية، ولا أن يخرج على دولة إسلامية جائرة إلا بعد دعوتها إلى العدل، فإن أبتْ جاز له أن يخرج عليها لا باسم القومية العربية بل باسم الدين الإسلامي الذي يمت هو بِنَسبِه إلى رسول الإسلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ولكنه لم يفعل ذلك بل خرج عليها باسم القومية العربية من دون أن يدعوها إلى ما يريد، ومثل هذا الخروج يجوز على شرط انسلاخه من دعوى شرافته النَسبِيِّة التي هي ودعوى القومية على طرفي نقيض، لأن دعوى القومية في الدين الإسلامي تُسمى بدعوى الجاهلية التي قال عنها جده رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْضُوهُ بِهِنِّ أَبِيهِ، وَلا تُكَنُّوا) "رواه البخاري، وصححه الألباني وغيره"، وكما يجوز له مثل هذا الخروج كذلك يجوز لكل قادر عليه من رجال العرب، وكان أولى به منه الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله الذي كان عدو الدولة العثمانية وطريدها المشرّد، فيحق له أن ينتهز فرصة دخولها الحرب ويثور عليها باسم القومية العربية مطالباً بحقوق آبائه الذين ملكوا الحجاز مدة من الزمن حتى أخرجتهم منه الدولة العثمانية، ولكنه لم يفعل بل قال قولته المشهورة: (ما من أحد يحق له أن يكره الترك أكثر مني، ولكن لن يُقال إني طعنت دولة تحمل اسم الخلافة في محنتها). لأن الثائرين باسم القومية العربية إذا انتزعوا الإسلام من قلوبهم جاز لهم أن يقاتلوا باسم القومية المسلمين في صفوف جيش الكافرين؟!

    هل يشك عاقل في أن منصب الشريف الحسين في الحجاز وشرفه النَسَبِيِّ ومجده القومي وماضي قومه الإسلامي، كل ذلك لم يقم إلا بالإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن مبادئ الإسلام الذي هو دين الوحدة المؤيدة بالأُخوّة الإسلامية تناقض قتال المسلمين باسم القومية العربية كل المناقضة، لأن قتالهم بهذا الاسم تفريق للمسلمين وتمزيق لوحدتهم الإسلامية، ودعوة إلى الجاهلية التي أخمدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقرآنه وبسيفه، ولا يُنكر هذا إلا جاهل بالإسلام أو مُعاند يُماري ومُرواغ يُداجي، فلو أن الشريف الحسين خرج على الدولة العثمانية باسم شرافته النَسَبِيِّة الدينية مطالباً بحقوقه الذاتية التي يستحقها بهذه الصفة لكان له في خروجه عذر؟! وما عليه حينئذ إلا أن يُطالبها بما يريده قبل كل شيء، ولكنه لم يُطالبها ولم يُفاوضها في شيء؟!

    هم الآن يحتفلون بالذكرى المئوية لأن الشريف الحسين خرج على الدولة العثمانية لأجل تكوين مملكة عربية مكونة من الأقطار التالية: سوريا الكبرى بما فيها فلسطين ولبنان والأردن، والعراق، والحجاز، ولديه وثائق تضمن له تكوين هذه المملكة، والحقيقة أن هذه الوثائق تتضمن ما جرى بينه وبين الإنجليز من العهود والوعود بتكوين هذه المملكة، أما ماهية هذه الوثائق كما يعلمها المؤرخين عبارة عن المراسلات المشهورة بين الشريف الحسين والسير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في القاهرة، وهي التي عُرفت فيما بعد باسم مراسلات الحسين_مكماهون وكانت المراسلات تجري باللغة العربية وقد بلغ عددها عشر رسائل، خمس منها مرسلة من الشريف الحسين إلى السير هنري مكماهون والأخرى أجوبة عليها، والمُلاحظ أن الشريف الحسين كتب رسائله بأسلوب النثر الفني الذي اعتاد عليه العرب قديماً؛ فاستغلْ السير مكماهون ذلك فكان يرد على تلك الرسائل ويبدأها بعبارات التحية المليئة بالمدائح المُفرطة، ويذيلها بعبارات مطاطة يُخيل لقارئها أنها تتعهد بكل شيء بينما هي -في الحقيقة- لا تتعهد بشيء، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى جاءه لم يجده شيئاً.

     بمجرد النظر إلى الطرفين المتراسلين بهذه الرسائل نرى الطرف الأول منهما شخصاً ذا منصب رسمي عند الدولة العثمانية التي كانت هي والإنجليز في حالة حرب، ونرى هذا الشخص إذا جُرِّدْ من منصبه الرسمي ليس له من القوة والسيطرة ما يُلجىء الطرف الآخر إلى احترام عهوده ووعوده له، سوى أنه يمت بِنسبِّه إلى آل البيت، فله من هذه النِسبة صفة شريفة روحية دينية يجوز أن يكون بسببها ذا كلمة مسموعة وأمر مُطاع عند جموع المسلمين الذين هم يدينون بدين الإسلام الذي جاء به رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛  فقوته معنوية لا مادية؟!، وإذا أمعنا النظر جيداً غير منحازين في نظرتنا إلا إلى الحقيقة نرى هذه القوة المعنوية الدينية لا قيمة لها خصوصاً عند من لا يؤمن بها كالإنجليز، وإذا علمنا أن قيمة هذه القوة الدينية المعنوية التي يحملها شخص الشريف الحسين بِنسبِّه ليس إلاِّ صفراً عند العرب المؤمنين بها فماذا تكون قيمتها عند الإنجليز الكافرين بسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين لهم دولة -حينذاك- مُعظمة قَهارة جَبّارة كَذّابة غَدّارة خَدّاعة مَكّارة قد فاقت بمكرها وخداعها جميع دول العالم، حتى أصبحت بفضل ما آتاها الله من القدرة على المكر والخداع، ومن المهارة والتمويه والتغرير أعظم دولة تملك نصف الأرض ولا تغيب الشمس عن إمبراطوريتها الواسعة الأرجاء المترامية الأطراف.

     لا ريب أن كل عهدٍ أو وعدٍ يقع في الأمور السياسية بين متعاهدين أو متواعدين لا تكون قيمته إلاَّ بمقدار ما للطرفين من قُوة تُرجى أو تُخشى، هذا إذا وقع بين دولة وأخرى مثلها، فما تكون قيمته إذا وقع بين دولة هذه عظمتها وبين شخص هذه صفته، إن المعاهدات إذا لم تكن بين الأكفاء في القوة والمنعة لم تكن لها قيمة تستحق الحُرمة، فالمعاهدات التي تجري بمراسمها السياسية المعلومة والتي تكون مبنية على تبادل المنفعة، والتي تعقدها الدول المتكافئة في القوة نسبياً، أما هذه الوثائق والتي هي عبارة عن مراسلات بين شخصين خدع أحدهما الآخر بوعود خلاّبة ليحمله على الخروج على دولة هو أمير من أمرائها فلا قيمة لها إلا صفراً على اليسار، ولا بد أن الشريف الحسين كان يعلم ذلك؟! فكيف يَغُرُّه وعد الإنجليز بإنشاء مملكة عربية قد اتفقوا هم وحلفاؤهم على اقتسامها فيما بينهم؟! وهل يخفى كذب الإنجليز في هذا الوعد على أحدٍ مهما كان ضعيف العقل؟! أو هل من المعقول أن تُؤْثِرَ هذه الدول الاستعمارية الشريف الحسين على نفسها فتعطيه هذه المملكة التي ما صَلِّيَتْ نار الحرب إلا لأجلها؟!، قد يُعقل أن يكون الشريف الحسين صادقاً مخلصاً لقوميته العربية فيما يريده لها من إنشاء مملكة عربية كُبرى، ولكن لا يُعقل له وهو في منصب إمارة الحجاز أن يجهل السياسة الاستعمارية التيينزع إليها الإنجليز وحلفاؤهم من وراء تلك الحرب، فاغتراره بمجرد وعدهم الكاذب يدلّ دلالة قاطعة على أنه كان إما قليل الحيلة والحنكة بعيداً عن معرفة دسائس السياسة ومكائدها كل البعد، وإما تغلبت عليه نفسهومطامعه الشخصية في إنشاء مملكة عربية يكون المُلَكْ فيها له ولأولاده من بعده، فلذلك اعتبر بمواعيد الإنجليز التي هي أكذب من مواعيد عرقوب.