عندما كنت طالباً يافعاً ، كنت قد تعلمت في المدرسة قانون "نيوتن الثالث" (لكل فعل ردُ فعل) ، وبينما كانت هذه القاعدة مبنية في علم الفيزياء ، إلا أنني استحضرُها بين الحين والآخر ، وأحاول تطبيقها في كل موقف أواجهه سواءً كان ذلك الموقف سلبياً أم إيجابياً ، ولا أبالغ إن قلت بأن أثر هذه القاعدة بقي في طبيعة التعامل العام بيني وبين مجتمعي أو قل بيني وبين بيئتي ؛ ذلك الأثر وللأسف قد طالت معي عشرته وزادت عليَّ حمولته ، فلابد من أن أتغير و "الحكمة ضالة المؤمن" ؛ لأن الحياة لا تستقيم طول الأبد على الصدام ، ولا تستقيم طبيعة العلاقات بردة فعل مبنية على الشكوك وسوء الظن ، فصادفت في إحدى قراءتي قول الله سبحانه وتعالى :{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ  وَأَعْرِضْ   عَنِ الْجَاهِلِينَ}.

فتبددت غلظتي ، وخفت صوتي ، و وقفت خجلاً من قول الله -عز وجل- في حديثه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ذلك بعد ماكانت تلك الهمجية تسابق تفكيري ، وتلك الأفعال تسابق قولي.

هدأْت نفسي قليلاً وشعرت أن الحياة قائمة ، سواءً كانت النفس (ثائرة أم هادئه) وآثرت أن "أُعرض" عن بعض القول ، وأن "أتغافل" عن بعض الأعمال ، فالحر يكفيه إشارة كي يفهم ويعتدل.

وما إن بدأتُ  في تطبيق هذا المذهب الجديد ، إلا وقد صادفت إختباراً وأي إختبار ! ذلك الإختبار جاء مفاجئاً ولم يُعّد له من استعداد ..

كنت جالساً بمقاعد الانتظار في أحد المستشفيات الكبيرة ، وكان الوقت طويلاً والمرضى كُثر ، فعكفت على قراءة بعض النصوص الشعرية كي أستفيد من الوقت الممل ، وما إن بدأت في اعتكافي وأطلت النظر في الأبيات المرصوصة أمامي على "هاتف الجوال" إلا وقد جاءنا "شيخٌ" كبير السن ومعه ابنه ، كان الشيخ (رث اللباس عالي الصوت) ، كأن مظهره ينبئك أنه قَدِم من البادية ، قال بصوت جهوري :

-السلام عليكم .

رددنا عليه :

-وعليكم السلام.

فعُدت إلى ماكان يشغلني ، وعدت إلى القراءة من جديد في هاتفي ، ومر علينا وقتٌ  ليس بطويل ، والشيخ يلتفت يميناً وشمالاً ، لم يجد من المرضى من رفع رأسه عن جواله ! فقال بكل قوة وبئس :

-في هذا الزمان أندثر الرجال ! فالكل عاكفٌ   على هاتفه وكأن الرجال أصبحوا كالنساء في اهتمامهم بالآلات الجديدة ، الحمدلله أنني لست من هذا الجيل !

فرد عليه أحد الحضور بشيءٍ  من المجاملة :

-ها نحن تركنا هذه الهواتف ، قل لنا ماذا لديك من أخبارٍ ونوادر ، وبماذا يتميز جيلك عنا ؟

رد الشيخ :

-أنا في عمري وحالتي هذه أطيب منكم حالاً وأخشن جلدا ، فأنتم تضيعون وقتكم في توافه الأمور وأنا أحب أن أتحدث وأستمع ويُستمع إليّ ، فلا أعتقد أن أحداً منكم استطاع أن يقتل ذئباً وهو شاب يافع صغير السن ؟

*فأردت أن أرد عليه وكأن صفة الجاهلية قد عادت لي وتذكرت قوله سبحانه وتعالى :( وأعرض عن الجاهلين) ، فلزمت الصمت وفي لساني بيت شعرٍ أردده بصوت خفي ، وعيناي لم تبتعد عن متابعة هذا الشيخ ، فقال لي بماذا تهمس ؟

فقلت :

-قول الشاعر : (الصمت أجدر بالفتى من منطقٍ  في غير حينه) ، فأنت رجل شيخ ولشيبتك الوقار والاحترام ، ولكن قولك فيه تهكم ، فلكل زمان رجالُ.

فقال لي وكأني قد أصبته في موضعٍ لا يريده :

-يابني لو جلبت لك دجاجةً لن تستطيع أن تقتلها !

فبتسمت ابتسامةً ساخرة من حجة هذا الشيخ وقلت له :

-العلم تطور والزمان تغير ، فالذي يسكن أمريكا يستطيع أن يحادث الذي يسكن في المملكة مرئياً .. إذا استطعت أن تحادث رجلاً في أمريكا تعرفه ويعرفك بجهاز جوالك فسوف أستطيع أن أقتل دجاجة ، فضحك الحضور قليلاً وأكملت حديثي وقلت : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، فنحن أمسكنا ألسنتنا وأيدينا عن الأذية ولم نتدخل في خصوصية أحد ، وأنت أتيت ولم تترك ما لا يعنيك وهذا ليس من حسن الإسلام.

فرد عليَّ  بشيءٍ  من الهدوء والوقار :

-صدقت .. فأنا تدخلت في خصوصيتكم ، ولكن في مثل هذه الأماكن نحتاج إلى التسلية والحديث الممتع.

فقلت بيني وبين نفسي :

-لا أحد يهتم بحديث الآخر ، فالكل عاكفٌ   فيما يشغله من همومٍ  وأعمال.

فأتى صوت من بعيد ينادي اسمه ، فقام مودعاً وهو يقول :

-جمعنا الله وإياكم في جناته جنات النعيم.

ورددنا عليه كلنا :

-آمين.