صباح جديد ... صباح ممطر ... الشجرة امام البيت بدأت تنسج ثوبها الأخضر ... فسبحان مغير الأحوال ؛ فجأة أصبحت الأغصان الجرداء الميتة - ظاهريا على الأقل -  أصبحت حية مخضرة .

   و الطبيعة في حركة دائمة و تبدل مستمر ؛ يتعاقب الليل و النهار ، النور و الظلمة ، الصيف و الشتاء ، الحر و البرد ، حركة لا تنتهي ، تنقلنا من الشيء الى نقيضه ... 

  هذا التبدل المفاجيء المستمر قد يثير الرعب و الفزع خاصة انه لا يقتصر على الطبيعة بل هو أظهر في عالم الإنسان  ؛ فعالمنا سريع الحركة ؛ دائم التغيير ؛ لا ثبات و لا استقرار فيه ، يمسي الانسان حزينا ، و يصبح مسرورا ، و يبيت هانئا راضيا ، و ربما منتشيا ، و يقوم متبرما ساخطا ، لا ثبات ، بل  مفاجآت تتلوها مفاجآت هي الحياة ، و هذا شيء مرعب ... مرعب جدا ، و لكنه أيضا ، من زاوية أخرى للنظر ، شيء يمنحك بصيصا من الأمل ، و اسألوا ان شئتم الأغصان اليابسة الجرداء بعدما لبست ثوبها الأخضر ، اسألوها ستخبركم أنها سعيدة مقبلة على الحياة ، فقد انتهى فصل الرقاد و الخمول ؛ فصل الشتاء ،و جاء (الربيع الطلق يختال ضاحكا ) ... 

   و في كل الأحوال ، يشعر الإنسان أنه فقير ضعيف عاجز ، يشعر أنه محتاج الى (ركن شديد) يأوي اليه ، الى صدر حنون يضمه اليه ، في لحظات الخوف من المجهول ، في خضم السعي المحموم من أجل غد أفضل ، يحس الإنسان انه بحاجة الى (قوة مفارقة ) - و التعبير من كتابات المسيري - قوة مفارقة عابرة للطبيعة و الانسان ، قوة تتحكم هي في الأشياء و لا يتحكم فيها شيء ، انه بحاجة الى الله ، الله الدائم ، الله الذي بيده مقاليد السموات و الارض:

 ( ان الله يمسك السموات و الارض ان تزولا )                 ( ان الله يمسك السماء ان تقع على الأرض

   و يصيغ (النفري) الصوفي هذه الفكرة بطريقته الغريبة المثيرة المشوقة ؛ فهو يطرح أفكاره على شكل خطابات من الله الى أوليائه الصالحين ، الذين أخلوا قلوبهم من كل شيء ( التخلية بلغة الصوفية ) و عمروها بالله ( و هو ما يسمونه التحلية )  و رغم الاعتراضات على أفكار الرجل و أسلوبه ،  الا أن جوهر و مضمون كلامه صحيح ، دعونا نقرأ و نتأمل :

( يا عبد إذا رأيتني فأقمت في رؤيتي بلوتك بالبلاء كله و حملتك بالعزم كله ، فلم تزل في مقامك ... و ان لم تقم في رؤيتي بلوتك ببعض البلاء ، و أعجزتك عن العزم ، فذقت طعم البعد ، فاستخرجت منك بالعجز لرحمتي استغاثة ، فحملتك الإستغاثة الى الرؤية ) .

   و (رؤية الله) هنا رؤية قلبية ، أساسها أن يرى العارف الله في كل شيء ، فيراه عاجزا بدون الله ، و هذا الإنسان العارف لا تستخفه النعم فيفرح ، و لا تزلزله المحن فيخاف و يجزع ، اما الانسان العادي  فهو ، بحكم العادة و التجربة  ، عبد للأشياء ، أسير للحسيات  ، فهو يرى الشفاء في الدواء ، و الترقي بتملق مديره ، و النجاة بتجنب الخوض في الشأن العام و السير بجانب الحائط ، فتشتته الأشياء ، و تمزقه ، فيغيب عنه الله ، مسبب الأسباب ، و واضع القوانين ، و هذه هي( الغفلة)  ، فيتدخل الله فيبتليه ، يبتليه ليدله على طريقه ، ليعرفه اليه ، و ذلك لغيرة الله على الانسان ، فالانسان مخلوق لله ، لعبادته ، لا للأشياء ، و هذا كله بحسب النفري.

   و في سورة يونس نص قرآني يفيض بالحياة ، يصور الأنسان المبتلى و هو يلجأ ، تحت ضغط الحاجة و الخوف  و الشعور بالعجز ، يلجأ الى الله ، داعيا طالبا النجاة ، في تلك اللحظات الرهيبة التي جرد الله الانسان فيها  من قوته ، يصبح الانسان عاريا خائفا عاجزا فيحس بفطرته أن هناك واحد ، واحد فقط ، يستطيع أن يوصله الى بر النجاة ، انه الله الذي لا تغفل عينه ، و لا تزول قوته ، و لا ينقطع مدده ، و لا تنضب ينابيع رحمته... اقرأوا خاشعين هذا النص الرهيب :

﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)﴾

   و هذه (الرؤية الصوفية العرفانية القرآنية ) تساعدنا على التغلب على مرارة واقعنا العربي ؛ ففي السنوات الماضية غابت عنا وجوه ألفناها طويلا ، و فرضت وجوه جديدة نفسها علينا ، و ماعت حدودنا، و تغيرت خرائطنا ، و هجرت عائلات ، و طردت طوائف، طوائف لها في أعماق أعماق تاريخنا و جغرافيتنا جذور راسخة ، فغامت الصورة ، و صعب الفهم ، و ضاق الأفق ، و انتشر الخوف ، و اليأس ، بل و الاحباط ... أقول لعل هذه الرؤية تساعدنا على تجاوز هذه المرحلة ، فالدوام لله ، و (دوام الحال من المحال )، و لعل هذه المرحلة تكون خيرا ؛ نعم خير ؛ فلولاها لما سقطت أقنعة ، و لما اختبرت جماعات و أفكار ، و لعل هذه المرحلة هي مرحلة المخاض ، و لعل آلامها هي آلامه التي ستنتهي عندما تطرح الأيام مولودها الجديد :  انسان عربي مسلم مستنير ، عربي بوصلته الانسان،  بغض النظر عن دينه و طائفته و انتمائه ، و لعل هذا العربي يؤسس لمجتمع مدني ، يؤسس بدوره لنهضة عربية قد طال انتظارنا لفجرها.. عسى أن يكون ذلك قريبا .

    تقولون هذا حلم ، نعم هو حلم ، و لكن الرداء الأخضر الغض الذي ترتديه الشجرة  أمام نافذتنا كان بالأمس ، و بالأمس فقط ، كان حلما ، كان حلما كامنا فيى الأغصان الجرداء القاسية ... علمينا ايتها الشجرة التفاؤل ... علمنا أيها الربيع الأمل ...  علمونا أيها الفلاسفة و الحكماء و العارفون كيف نرى النظام في الفوضى ، و الحكمة في الجنون ، و الرحمة في القسوة ، علمنا يا نفري كيف نرى الله في كل شيء ، و من وراء كل شيء ...