يركضُ ماركيز حافيا على رمال شاطئ "مرسى بن مهيدي" الساخنة، صيفٌ حار للغاية، حتى الأفكار التي تجتاحُ الأستاذ ماركيز ساخنة أيضا، الأمر كله يبعث على التأمُّل، رغم علم الجميع بأنَّ هذه العملية في حد ذاتها لم تعد لها قيمة في عصر صار إلهه الوحيد هو المال ولغات الأرقام.
لم يعد ماركيز مهتما بما يدور حوله، لقد ركَّز كلَّ قواه العقلية، المالية والبدنية على ما هو آتٍ، الأمر يجري وفق ما يخطط له، أمَّا البقية ليست مهمة على الإطلاق، هذا ما وصل إليه مِن عملية مركزة جعلته يحاول الوصول إلى أغلى ما يملكه في تلك اللحظة، قارورة الماء التي علقها على أحد أكتافه، فبعد لسعة شمس لفحت جبهته، توقف الأستاذ ماركيز عن الركض، أخذ نَفَسًا عميقا وهو يحدق إلى الأمواج أمامه، الساعة لم تتجاوز الثامنة صباحا، والساحل فارغ من المصطافين والقراصنة تقريبا، وهذا ما أبهج ماركيز وجعله يعود أدراجه إلى سيارته الفرنسية، حتى يتملك مِن المغادرة.
ليس مِن السهل على ماركيز مفارقة الشاطئ الذي احتضن جنونه لسنوات طويلة منها سنين المراهقة، لكن كان عليه أخذ حمام ساخن، قبل الاتجاه نحو أقرب مقهى، أين جلس لفينة من الزمن، وَأين قام بقراءة جريدته المفضلة "الجمهورية" وهذا ما جعله ينتقل إلى الساحل مرة أخرى، هناك اتخذ لنفسه مكانا تحت مضلة قام باستئجارها من أحد القراصنة، هي والطاولة وبعض الكراسي، مكث يحدق إلى الأمواج ويدخن بكل ما يمكنه إحراقه من روحه وأفكاره.
لقد نما ماركيز كثيرا من الناحية العقلية، لهذا كلَّما قدِّر له وجلس مع أحد أفراد القراصنة إلاَّ واجتاحه نوع من العذاب الممزوج بالأسى، فهو سرعان ما يكتشف الفرق الشاسع بين نمط حياته على الطريقة الغربية وأسلوب حياة القراصنة التي تسيطر عليها الوحشية الخرافية، هذه المقارنة تجعل ماركيز يزداد نفورا ممَّن هُم حوله، ليغمره نوع من الشعور بالذنب كونه يعتبر هذه الحالة الاجتماعية/الثقافية-النفسية نتيجة لما هو يشغله في الوقت الحالي، أستاذ التعليم الابتدائي – مربي الشعب.
مِن الصعب أن تجتاز زمنكَ بمسافات ضوئية عقليا، هو شعور لابد وقد مرَّ من خلال غرباله الكثير عبر العصور، سقراط، الأنبياء على اختلافهم، غاليلي، نيوتن، ابن خلدون عبد الرحمان، أحمد زويل، باسكال، هيزنبورغ، تيسلا نيكولاس.... وغيرهم؛ هي هوَّة تجعل المفكِّر في معاني الحياة والجدوى منها يشعر بالغربة المتواصلة عندما يقع في خانة التوغل في تصرفات السائد العام مِن حوله.
إن لم تتغيَّر ذهنيات القراصنة فلا فائدة من تغيير ألسنتهم، إنَّ هذه العملية الأخيرة لن تزيد سوى في الضياع اللغوي/الشعوري الذي يسجن القرصان على "أرض الجنة ما وراء البحر" طيلة حياته، وهذا ما يجعل بالأساس العملية التفكيرية غريبة عنه، اللغة ليست وسيلة تواصل فقط كما يدعي السذج، بل هي وعاء وجودي يعبِّر عن العمق العاطفي لصاحبه، فالإنسان والقرصان ليس استثناء، هو يعبِّر عن خلجاته، من عواطف، مشاعر وأحاسيس عبر الكلمات، فإن لم تتفق هذه الأخيرة مع ما يدور بداخله، سيصبح كائنا أجوف، وهذا بالذات ما يجعل القرصان كائنا ضعيفا، فهو يفتقر إلى سلطان المعنى بافتقاره إلى الانتماء اللغوي، وافتقاره للانتماء اللساني هو في الأصل بسبب الحرمان من تبني مرجعيات أصيلة نابعة من الهُوية التاريخية، أين سقط القرصان في ثنائية الوطنية/الخيانة، فتسللت من الظاهرة الاجتماعية لتصبح ظاهرة ثقافية بامتياز.
بعض كُتَّابِ الْقراصنة يكتبون بأكثر من لغة، وهذا حسب ماركيز – بالمناسبة الأستاذ ماركيز واحد من هؤلاء، هو يكتب بثلاث لغات – هو جُبن ومحاولة لإمساك المشكلة من الوسط دون اقتراح حلول عملية لها.