" محمد بن حمد بن لعبون " .

أمير شعراء النبط ، وأوسعهم مفردة ، وأطربهم قصيد !

صاحب قصيدة " يا علي صحت بالصوت الرفيع " وقصيدة " سقى غيث الحيا " ذائعة الصيت ، وغيرها من اللعبونيات التي يصعب تكرارها .

شبّ هذا الشاعر آناء اشتداد أمر الدعوة السلفيّة المُباركة ، فيما هو آنئذ الشاعر المرهف ، وصاحب الهوى المُدنف ... الأمر الذي عجّل برحيله إلى " الزبير " كما يعتقد ذلك كثير من النقّاد .

والزبير مدينة عراقية تقع في الجنوب ، وهي أحد أقاليم أهل السنة فيها ، بله إنها قد سميّت بهذا الاسم نسبةً إلى "الزبر بن العوام " الصحابي الجليل .

على أية حال ؛ فقد كانت " الزبير " موئلاً لكثير من الأسر النجدية في سني العوز والحاجة ؛ إذْ هاجرت هذه الأسر الكريمة إليها في القرنين الماضيين ؛ بحثاً في ذلك عن فرص حياة أفضل ، فيما أنها بقيت منغلقةً عن الاحتكاك بالمجتمع العراقي ؛ حفاظاً في ذلك على هويتها الأم .

وقد كانت " الزبير " بعاداتها ولهجتها " جيباً " نجدياً في طرَف العراق ؛ ولذا يسميهم العراقيون بـ " النجادة " . وفي المقابل يوجد مسمى " الزبيراوية " في الرياض اليوم ؛ نسبةً وعنواناً للأسر النجدية التي قد عادت إلى موطنها الأصلي ( هجرة عكسيّة ) بعد مضايقات حزب البعث لهم في السبعينيات ، أو بعد ظهور البترول ، وأخيراً بعد قيام الحرب الإيرانية العراقية ، ومن أشهر هؤلاء : محمد أبا الخيل وزير المالية الأسبق ، وطبيب القلب المعروف محمد بن راشد الفقيه ، وعضو مجلس الشورى السعودي عبدالرحمن السويلم ... ومن مشاهيرهم في الكويت سعود البابطين .

إذا ما أسعفك الحظ بالتعرف على أحد " الزبيراوية " فإنّك ستجد متعةً موسيقية في اللهجة قلّما تتكرر ؛ إذ ستجد لهجةً نجديّة مخلوطة بنكهة عراقية وكويتيّة ؛ بالإضافة إلى الأخلاق العالية المتمثلة برقّة المعشر ، ورقي التعامل ، وجديّة الحياة ... بالإضافة إلى الأناقة العالية ، والذوق الرفيع ، والطبخ " السنع " .

كما يُعرف عنهم اهتمامهم الشديد بتعليم أبنائهم ؛ فقلّما تجد بيتا " زبيراويا " لا يكون أحد أفراده طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً جامعياً ... وفي بعض الأحيان وزيراً أو وكيل وزارة .

نعود بعد هذا الإسهاب - غير المتعمد - إلى شاعرنا الرقيق / العظيم ..

تميز شعره بثراء المفردة ، وسلاسة اللغة ، وحرقة الشوق ولسعته .

وقد انفردَ عن غيره من شعراء عصره : بمَزجه بين الفصيح والعامي في شعره ؛ مما جعل قصائده موضع دراسة للنقّاد إلى يومنا هذا - بالرغم من مدة وفاته القديمة نسبياً ( ت 1247 هـ ) .

ولهذه اللغة الفريدة أسباب عدّة عند ابن لعبون ؛ لعلّ من أهمها أنه ابن مؤرخ نجد الكبير " حمد بن لعبون " الذي لا شكّ بأنّ ابنه قد استفاد لا محالة من علمه ومكتبته ( آلمني وأحزنني حين ترجمَ له والدُه فقال أنه مات وليس له عقب ) ، وأيضاً فإنّ تنقل ابن لعبون ( الشاعر ) بين بيئات مختلفة ( نجد – البحرين – الزبير – الهند – الكويت ) قد مكنه من الإلمام بكثير من اللهجات ، والطبائع والعادات .

استطاع هذا الشاعر الشاب أن يُضيف لطروق الشعر فنّا جديداً نُسبَ إليه ، سميَ بـ " اللعبونيات " والتي لا زال كثير من شعراء الخليج يجري إليها ، وقلّما يصل إلى جوفِها .

كان ابن لعبون يسير على طريقة القدماء في ترتيب قصيدته ؛ إذْ يبدؤها بالنسيب وذكر الظعائن والأماكن والوسوم ، ثم بعدها يدخل في غرضه من قصيدته ، ليُنهيها بالصلاة على الرسول – صلى الله عليه وسلم - .

وبالرغم من أنّ ابن لعبون قد طرق كثيراً من أبواب الشعر ؛ إلاّ أنّ أول ما يرد على الذهن حين ذِكر اسمه هو باب " الغزل " الذي أرسله بطريقةٍ دافئة ، وموسيقى حزينة ، وشجن صادق ، وأسلوب سهل ممتنع .

كان ابن لعبون – وأسميه أنا " عمر بن أبي ربيعة " عصره - يوري عن اسم محبوبته باسم آخر هو " مي " التي قد حضرَ اسمها كثيراً في قصائده ؛ إلاّ أن هذا الكتمان قد انفجر في أحد أبياته ؛ ليُعلن اسمها صراحة :

والله لولا الحيا واللوم /// لا اصيح واقول يا هيـــله

إلاّ أنّ قصيدته التي قالها في محبوبته التي ماتت أثناء تأديتها فريضة الحج تُعدُّ من أشهر قصائده الحَنون ، والتي مطلعها :

سقى غيث الحيا مزنٍ تهامى /// على قبرٍ بتلعات الحجازي

يعط به البختري والخزامى /// وترتع فيه طفلات الجوازي

ومنها هذا البيت الغريب في وصف علاقته بمحبوبته :

سلينا لا حلال ولا حراما /// عليهن الطلاق بلا جوازي

قيل أنّه لم يتزوج ، وقيل أنّه تزوج ولم يعقب ؛ إلاّ أن والده قد ذكر ترجمته في اقتضاب شديد لم يتضح معه أقد تزوج الابن أم لا ( ! ) ولعلّه الحزن هو الذي منَع والده الاسترسالَ في سرد ترجمته ، أو لعله الحياد .

على أية حال ؛ توفي الشاعر " ابن لعبون " وله من العمر اثنتان وأربعون سنة ... فرحمه الله ورحمنا !

آيدن .