هو يومُ استلام الأستاذ ماركيز لراتبه الشَّهري، إنَّ أرض القراصنة هي الأرض الوحيدة في العالَم عبر العصور التي تعمل على إذلال العلماء، الأدباء، الشعراء وبالخصوص المعلمين مِن أبنائها المخلصين، لا لشيءٍ سوى إرضاء لنقطة ضعف غريزيٍّ، متغلغلة في عمق كلِّ قرصان، تجعله على دين غوبلز: كلَّما سمعتُ كلمة مثقف، تحسستُ مسدسي.

عاد ماركيز إلى سيارته الفرنسية وهو خاضع لِمشاعر متناقضة، هي بين الفرح والألم، فرحٌ بامتلاء جيبه مؤقتا، وألم بسبب علمه المسبق بأنَّ ما تقاضاه لن يكفيه لتسديد حتى أثمان المشروبات الروحية والسجائر التي يقبل عليها بنهم، يدير المحرِّك، ثمَّ ينطلق نحو منزل يشبه الكنيسة المهجورة، يشغل جدرانه البائسة أحد القراصنة، محوِّلاً تلك البناية إلى ما يشبه متجر كحوليات، أين يقتني منها الأستاذ ماركيز ما يشتهي من الويسكي الفاخر الذي يحبُّ احتساءه أثناء خلواته الكثيرة في فصل الصيف.

القرصان بالطبيعة والغريزة ظالِمٌ لنفسه قبل أن يكون مستمتعًا بظلمه لمَن يستطيع إليهم سبيلا، وبالتالي حتى الأستاذ ماركيز يقع في هذه الدائرة التي أحكِمَ إغلاقها منذ زمنٍ بعيد، لهذا تجده أحيانا يتوقف تاركا كلَّ مشاغله التي لا تنتهي، ليجلس مفكِّرًا في سبيل للهروب مِن ضربات تلك المطرقة التي أجاد الرومان صناعتها، واجتهد الفرنسيون مسخرين كلَّ ما يملكون مِن وسائل حتى يبقون عليها تعمل دون توقف، فهي التي تجعل القرصان عبْدًا ذليلا على أرضه، يتطلَّع للأفق ثمَّ يعمد إلى خنق كافة طموحاته وتطلُّعاته عند أوَّل امتحان جدِّي له أمام تلك المطرقة المقدَّسة.

بعد شرائه لكلَّ ما يجعله يَحْلُمُ بشراهة مِن سجائر وويسكي، قصد الأستاذ ماركيز حديقة عامة، لينزوي تحت احدى الأشجار الكبيرة ويجلس على أحد المقاعد القديمة، أشعل سيجارة كعادته وراح يتأمَّل مَن هُم حوله، جماعة مِن القراصنة الصغار يلعبون بين الأوساخ المتناثرة هنا وهناك، بعضهم يقفز وسط مساحة صغيرة مغطاة بالرمل الممزوج بفضلات البشر، هناك ما يشبه العائلات يجلسون على عشب تمت سقايته ببول القراصنة على اختلاف أعمارهم، التفت خلفه فشاهد بعض الأشجار التي كُسرت أغصانها القريبة من الأرض، يحاول بعض المراهقين مِن صبيان وصبايا عبثا الاختباء خلفها ليحضوا ببعض الأوقات الرومانسية – أو ما يشبهها – معًا، قبل أن ينظر إلى حاله فيجد نفسه وحيدًا وسط هذا الجمع الغريب عنه رغم أنَّه لم يفارقه منذ صغره.

في بلاد القراصنة يرى الأستاذ ماركيز بأنَّ المؤسسات لا تحمل مِن عناوينها سوى نفخة الاوهام لا غير، فعلى سبيل المثال: مؤسسة دار العجزة، تجدها تهتم بكل الفئات العمرية مِن السكان إلاَّ العجزة وكبار السِّن، وقياسا على هذا ستجد أنَّ الجامعة مؤسسة تشجع الجهلة على البقاء في جهلهم وتعمل على تحطيم طلاَّب العلوم والآداب على اختلاف مشاربهم، هي طريقة القراصنة في العيش وتأسيس المعيش، وهو أسلوب لطالما صنع كائنات متناقضة حدَّ الهوس والوسواس، إلى درجة الضياع والتضييع.

ماركيز حاول التأقلم مع القراصنة على أرضهم لسنوات، وها هو يصل إلى نقطة أدرك مِن خلالها بأنَّه يضيِّعُ حياته مع حفنة مِن التَّائهين، الفاشلين، وَالذين لا يهمُّهم من يومياتهم سوى نشر الحقد والأشواك في كافة الاتجاهات ولدى كلِّ الجهات؛ يقول الحكماء بأنَّ المجتمعات المتخلفة هي مجتمعات غارقة في الجهل، لكنَّ ماركيز ولكيْ يصف القراصنة يضيف إلى ما قاله هؤلاء الحكماء أنفسهم بالقول: القراصنة كائنات مؤذية، دينها الكذب، رعونتها العنف وطموحها نشر الخراب في الأرواح أينما ثُقِفَت.

حمل الأستاذ ماركيز نفسه وراح يخطو خطواته الأولى باتجاه باب تلك "الحديقة العامة"، رمى عقب سيجارته في أحد مكبات القمامة الفارغة منذ الأزل، ركب سيارته الفرنسية، وراح يقودها نحو المجهول وَإلى ضياع تام.