وهذا قسم أقسمه هذا التابعي عروة بن الزبير، وعلى أنهم كانوا يعرفون آثارهم! وإن دل هذا وإنما يدل على مدى معرفتهم بالآثار، وهذا الذي كانوا فيه بارعين، وأيما براعة، وهذا أبو بكر الصديق، وقد كان نسابة يومه!

ويكأنه وكيف عرف وكان تابعيا؟! ولعل هذا وصفا تلقوه، وكما هي سليقتهم آنذاك. ولا سيما هذا عروة بن الزبير، وحين كان قد أثنى عليه الخليفة عمر بن عبد العزيز، وبقوله: ما أحد أعلم من عروة بن الزبير وما أعلمه يعلم شيئا أجهله. [1]. [تهذيب الكمال، المزي: ج ٢٠ / ١٧].

ولعله وصفا آخر دقيقا عن أبيه الصحابي الزبير بن العوام رضي الله تعالى، وقد كان ذا صحبة وعلم وفضل، وحين قال المبارك بن فضالة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه كان يقول لنا ونحن شباب: ما لكم لا تعلمون إن تكونوا صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار قوم، وما خير الشيخ يكون شيخا وهو جاهل.. [2]. [تهذيب الكمال، المزي: ج ٢٠ / ١٧].

وعلى أن أمرا هاما، هو ذاك الذي نستشرفه، من هذه الرواية الصحيحة، وكما هي كذلك عن الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وحين دلت على أن أقدام أولاء الأصحاب الكرام البررة، وقد ظلت، وكما هي أقدامهم لم ترم، ولم تتحلل! وبرهان معرفته رضي الله تعالى عنه بها، وإلا لأحيل ذلك!

وهذه من كرامات القوم ولا ريب.

إن كرامات الناس لمعروفة وموثقة، والإيمان بها، ومن حيث كونها ثابتة صادقة، وعلى نحو ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى هكذا، وهذا باب واسع، وعلى كل حال، وهذا طرف منه.

وأما عن دفن الصحابيين الوزيرين أبي بكر وعمر مع نبينا محمد ﷺ، فإن هذا أيضا، وما نفقه عنه علما؛ وبرهان ما كان بينهم من إلف ومحبة، وقد كتب الله تعالى ذلك، وليبعثوا بين يديه تعالى عبادا، صالحين، متحابين، وكما كان هذا شأنهم في الدنيا!

وعلى أية حال، فإن ظهور قدم الميت، وعلى شاكلة كهذه؛ برهان أن اللحد لم يكن غريقا، ولا عمقا! والأمر في هذا واسع، وعلى كل حال؛ وكيما لا يكون جسد الميت عرضة لنهش الدواب!

فعن عروة بن الزبير: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا في بنائه فبدت لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ما هي قدم النبي صلى الله عليه وسلم، ما هي إلا قدم عمر رضي الله عنه. [3]. [صحيح البخاري: 1390].

وفيه صفة القبور يوم الناس هذا، وعلى ما أنف بيانه في حينه.

وأما هذا التاريخ، وحين كان من شأنه دخول الحجرة النبوية في مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولئن كان ليس حجة على الحق، وإنما الحق هو الحجة؛ ولما ثبت في أحاديثه صلى الله عليه وسلم، من النهي عن بناء القبور في المساجد، أو اتخاذ القبور مساجد، وكما مر بنا آنفا.

وقلت: ولعل الله تعالى يقيض من عباده من يعمل لتغيير هكذا وضع! وجعله موافقا لهدي هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، وفي هذا الباب.

والنظر في أصل العمل، وحين دفن النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في قبره، في حجرة عائشة، ولم تكن الحجرة من المسجد من شيء يومها ذاك.

وأما فعل الناس، فهذا الذي لا ينبغي الاحتجاج به، وحين كان للنصوص مخالفا.

وكان الوليد بن عبد الملك حين ولي الإمارة في سنة ست وثمانين قد شرع في بناء جامع دمشق، وكتب إلى نائبه بالمدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يوسع في مسجد المدينة فوسعه، حتى من ناحية الشرق، فدخلت الحجرة النبوية فيه. [4]. [السيرة النبوية، ابن كثير: ج ٤ / ٥٤٢].

فالواجب على المسلمين أينما كانوا أن يحذروا مما نهى رسول الله ﷺ عنه، وألا يغتروا بما فعله كثير من الناس، فإن الحق هو ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة لا بآراء الناس وأعمالهم، والرسول محمد ﷺ وصاحباه -رضي الله عنهما- لم يدفنوا في المسجد، وإنما دفنوا في بيت عائشة، ولكن لما وسع المسجد في عهد الوليد بن عبدالملك أدخل الحجرة في المسجد في آخر القرن الأول، ولا يعتبر عمله هنا في حكم الدفن في المسجد؛ لأن الرسول ﷺ وصاحبيه لم ينقلوا إلى أرض المسجد، وإنما أدخلت الحجرة التي هم بها في المسجد من أجل التوسعة، فلا يكون في ذلك حجة لأحد على جواز البناء على القبور أو اتخاذ المساجد عليها أو الدفن فيها لما ذكرته آنفا من الأحاديث الصحيحة المانعة من ذلك، وعمل الوليد ليس فيه حجة على ما يخالف السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ، والله ولي التوفيق. [5]. [كتاب الدعوة: (1/ 24-26)، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز: 4/ 337)].