القراءة غذاء العقل والروح ، تنمي المدارك وتثير التساؤل وتدفعك لقراءات أخرى في مجالات شتى ، وقد تؤخذ كوسيلة من وسائل التطور والرقي بالمعرفة والحياة ، فالطريقة الوحيدة في فهم الأمم السابقة هو "قراءة" ما نُقل عنهم ومادوّن ، وهنالك فرق بين عقل وعقل بالإدراك والفهم.
يقول أنيس منصور : الإنسان القارئ لا يُهزم.
وهذا قولٌ فيه نظر من أحد الجوانب ..! والسؤال الذي أطرحه على السادة الأجلاء هو :
هل القُراء على مستوى واحد في الوعي والنقد ؟
الجواب هو "لا" ، ذلك أن الإنسان بعقله وطبعه يختلفُ كل الإختلاف عن الآخر ، "بميوله ونفوره ، وحبه وكرهه ، وقبوله ورفضه" ، فإذا أردنا أن نقيس العقول في إدراكها ونبوغها ، فسوف نقسو قليلاً على بعض القُراء وقد نقسو على بعض الأعلام من الخالدين في أذهاننا من "الأدباء ، والفلاسفة ، والمفكرين" ، مهما كانت إسهاماتهم وإثراءاتهم الفكرية قد ملئت المكتبه ، فلابد لنا من بيان من هو : "الكاتب" ومن هو "التابع" أو قُل من هو "الآسر" ومن هو "المأسور" ؟
فالقارئ سوف "يُهزم" إن كان تابعاً لكاتبٍ معين ، أو مأسوراً في زوبعة منّظرٍ آخر ، فالقارئ الجيد والذي لا يُهزم هو :
(من سلك طريقين متوازيين ، الطريق الأول هو الوعي والإدراك فيما يقرأ ، والطريق الآخر هو النقد الذي يكمل ويقوم ويُعزز النقصان فيما يقرأ أو ينسف الحجة إن كانت ضعيفة وركيكة) ، ذلك مسلك القارئ الجيد هو الإلمام والوعي بالمادة المقروءة ، والتقويم والتعديل بالنقد الصحيح البناء ، فالقارئ الجيد هو المكمل للكاتب الجيد في نقده وتقويمه ، فقد كان توفيق الحكيم لا يرد على نقد ناقد بل كان يؤْثر الصمت على الحديث .. لماذا؟
لأنه يرى أن لدى الناقد الجزء المكمل لرأيه ، ويرى الناقد هو المُتم والمرمم لبناءه الفكري في نقده.
أما القارئ الذي يقرأ لأجل المطالعة والحفظ ، ذلك من يُرثى له ، لأنه أصبح أسيراً أو تابعاً بغير شعور لأفكار ذلك "الكاتب" أو قل ذلك "الآسر" ، ينقل عنه بغير شعور ما حفظه دون فحص أو محص.
وإلى هنا فقد بيّنا الفرق بين القُراء ، "الجيد منهم والرديء" ، فلا يوجد قارئ لم يتأثر بأحد الكُتاب ، وحتى لو أصبح هذا القارئ كاتباً فيما بعد ، فاللذة تكمن في التحرر من قيود ذلك الكاتب أو تلك النظرية وأن تصوب سهام النقد البناءه لتعديل الإعوجاج إن وُجد أو إكمال النقص إذا نُقص، فسمحوا لي أن أذيع لكم بعضاً من هذه الأسماء الرنانه والتي قد تتوافق مع بعض الآراء منكم وقد يخالفني أكثركم :
*طه حسين : تأثر بأستاذه "المرصفي" في مراحله الأولى بالكتابه ، وخاصة في الدروس الأدبية ، وحفظه للشعر ، ومن بعده تأثر بالمستشرق "نالينو" وأخذ كثيراً من آراءه الخاطئه في كتابه مستقبل الثقافة في مصر وغيره ، وعندما كان أستاذاً في الجامعة تأثر بنظرية المستشرق الإنجليزي "مرجليوث" في نقض الأدب الجاهلي ، ولكن بعد ذلك صرّح طه عندما توسعت مداركه وحكّم عقله بأن كتابه مستقبل الثقافة في مصر يجب أن يعيد النظر فيه وهو القائل : يجب علينا أن نأخذ من الحضارة الغربية كل مافيها من محاسن ومساوئ لكي ننافسهم.
وهذا قولٌ تراجع عنه في آخر أيامه ، وحذف من كتابه في الشعر الجاهلي ما يمس الدين وبدل اسمه إلى "في الأدب الجاهلي" ، وكان متأثراً بنظرية "الشك" لديكارت ولكن سرعان ما عدل عنها وتحول إلى نظرية ابن خلدون "مرآتية الأدب".
*عمرو بن عبيدالله : أعتزل حلقة الشيخ الحسن البصري تأثُراً بواصل بن عطاء ، فتبعه بآراءه وأفكاره ، ومما جاء في الإتباع قوله : أن صاحب الكبيرة في منزلة بين منزلتين "الجنة و النار" فإذا تاب قبل أن يتوفى فسوف يدخل الجنة وإذا مات ولم يتب فإنه في النار خالداً فيها ! واستمر على هذا الرأي والتأثر إلى أن لاقى ربه.
طرحت نموذجين في الإتباع والتأثر ، فالأول تأثر ثم تراجع عندما سلك طريق الوعي والنقد ، وأما الآخر فمكث متعصباً لما رأى من "واصل بن عطاء" وأضاف عليها حتى وافته المنية.
والخلاصة : (أن الفكر والتفكر يوّلد اليقظة بالعقل ومنها إلى النقد ، والقراءة الغير واعية توّلد التبعية).
وأسمح لي أن أغيّر ماقاله أنيس منصور من أن :"الإنسان القارئ لا يُهزم" إلى أن : "القارئ الجيد والناقد لا يُهزم".