بينما كان الأستاذ ماركيز جالسا يشاهد أحد البرامج الوثائقية عن الجفاف الذي أصاب مناطق واسعة مِن العالَم بسبب جشع الإنسان وعدم مبالاته بالطبيعة التي تُعتبَر الوطن الأكبر لكل البشر، خطرت بباله مِن وحي فكرة الجفاف، جفاف الأرواح، أشعل سيجارة وراح يتساءل: كيف يصبح الإنسانُ جافا روحيا؟
يولدُ الإنسانُ وهو في قمَّة الحماس، خلال سنواته الأولى تكون مشاعره وعواطفه هي التي تسير به أينما أرادت، لهذا نشاهد الرضيع ومِن بعده الطفل يقوم بحركات خاضعة لانفعالات بشكل خالص، تراه يبكي بشكل مستمر عندما يحتاج إلى شيء ما، أو يقع تحت طائلة ظروف غير متوقعة أو غير مألوفة لديْه.
بعدها يسير الإنسان نحو نوع من التحكم بما يتدفق بداخله من مشاعر وأحاسيس، فتراه يسلِّطُ عليها العمليات المنطقية والعقلية لأجل الوصول إلى نحو مِن فرض سيطرته على هذه الأمواج الروحية العالية التي لابد من التحكم بها قبل أن تقوم بجرف كلِّ الوقائع المتناثرة أمامها.
عند دخول العقل على الخط، يبدأ صراع العقل والقلب في جوف الفرد، فيسير الإنسانُ عبر هذه العملية نحو اتخاذ القرار الحاسم في حياته: إلى أين يميل وكيف سيسيِّر حياته – أو ما تبقى منها إن جاز لنا ذلك – هل وفق القلب – المشاعر أو العقل – المنطق؟
بهذه الطريقة يحاول الفرد الإنساني أن يقوم بنوع مِن محاولة التوفيق بين الجانبيْن، لكنَّ إنسانيته أحيانا وفي غفلة منه ترغمه على الوصول إلى أحد الحلَّيْن دون الخضوع لذلك التطابق بين الصورة الذهنية الخاصة وما يحيط بها من حيثيات المعيش العامة، وبذلك يقع الفرد في المحظور – أو كما يبدو له ذلك، فتجده يقترف الأخطاء، وفي معظم الأوقات، لا يعترف بها أصلا، فنجده يحاول تبرير ما هو غير خاضع للتبرير – فهو واضح وضوح شمس أحد أيام أغسطس وقت الظهيرة.
"أن يسير الفرد حسب ما يراه" ليس أمرا يثير الاشمئزاز، ولا هو من الممنوعات أو المحرمات، بل إنَّه الأصل الذي يتطابق مع الطبيعة البشرية مِن جهة وما هو قادر على التعريف بالكيان الإنساني كجوهر يحرِّك باقي أجزاء الحياة مِن جهة مخالفة، لكنَّ المادَّة والبيولوجيا، التقاليد المثقوبة والعادات البالية، التديُّن المغلوط والمنافق، الطمع الذي يختفي خلف الطموح، كلها عوامل تجعل الإنسان خاضعا للطبيعة وأذرعها مهما كان مصمما على التحدي.
أطفأ ماركيز جهاز التلفزيون، وراح يدخن بينما هو مستغرق في تفكير عميق: بما أنَّ الإنسان بحدِّ ذاته كتلة انفعالية أقوى عند انفجارها بكثير بالمقارنة بالقنبلة التي انفجرت في رقان – الجزائرية، فلما يسقط بين الحين والآخر في حفر الضياع وسيطرة الجفاف الروحي على باقي مكوناته العاطفية؟ كيف للإنسان أن يستطيع خنق كرامته، ويقبل على إيذاء المحيطين به تحت مظلة الذرائع المختلفة؟ إنها الرغبة في التميُّز والتشبث بوهم التفوّق، هذا المبدأ الذي يحاول كلُّ أميركي الاستمتاع بتصديره لكلِّ الشعوب التي لا تتحدث الإنجليزية وبخاصة الشعوب التي تقطن الشرق، إذْ أنَّ هناك نوع من البشر – وهُم يمثلون الأغلبية – منذ نهاية القرن العشرين في عالَمنا، يحاول بكل ما يملكه من وسائل إبراز نفسه في موقع المثير للانتباه، وقد انعكست هذه الرغبة على أشرس عملية دعائية/نفسية موجهة ضد العقل البشري عبر التاريخ، تلك التي سخَّرت كافة مصادر المعلومات خدمة لهدف واحد، ألا وهو إفقاد العقول معانيها، وحصرها في تفاهات لأجل إِلهائها عن وظائفها السامية.
"أليس فيكم رجُلٌ رشيد!" هذه العبارة هي التي رأى فيها ماركيز تلخيصا لمبررات ظهور الجفاف العاطفي، وقد فكَّر فيها بعمق أيضا، بينما هو متجه نحو غرفته، هو تعميق للمأساة التي يعيش فيها الفرد مهما كان انتماؤه، لقد نجحت الأقلية الساحقة في اقتياد الأغلبية المسحوقة نحو انهيارها، فالعدو الأساسي للفرد اليوم ليس خارجيا ولا داخليا، بل هو الفرد عينه.