حكى الشيخ عبدالفتاح مورو في شهادته على العصر قصة أحد الأئمة الكبار قال عنه الإمام القرافي: (لو تقدم زمانه لكان من أئمة المذاهب)، وهو الشيخ محرز بن خلف من علماء القرن الرابع، كان هذا الرجل من باب سويقة في تونس يأخذ النساء المخطئات وبعد توبتهن يربيهن عنده في البيت حتى يتطهروا تماماً، وبعد ذلك يذهب للسوق العام ليتصيد الشباب فيقول لهم: أزوجكم بشرط ألا تعرفوا وتسألوا عن تاريخ الزوجة وأن تعيشوا معها بعيدا عن المدينة، فكان كذلك يعف الشباب والنساء المخطئات.

وكان محدث الشام الأكبر بدر الدين الحسني يرسل الحلويات لبيوت الدعارة ويوصي من أرسله بأن يطلب الدعاء من العاهرات، فما كن يتمالكن أنفسهن إلا ويتوبوا ويلتحقوا بالمسجد عنده فيزوجهم بعد ذلك لبعض طلابه.

كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد مر مع طلابه مرة على رجال من التتار يسكرون ويشربون الخمر، فجاء طلابه لينكروا عليهم فأوقفهم وقال: دعوهم فلو صحوا لقتلوا المسلمين.

فتركهم ولم ينكر عليهم مخالفا حديثا صحيحا في وجوب الإنكار طلبا لمصلحةٍ أعظم وهي الحفاظ على دماء المسلمين.

كما عُرف عنه وعن أغلب مجددي الإسلام موقفهم الشرس والصريح من النصيرية، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله حين أتاهم في جبالهم دعاهم وناقشهم بالتي هي أحسن حتى أسلم منهم الكثير.

يظهر من هذه القصص -وغيرها كثير- مدى معرفة العلماء الأجلاء دورهم في المجتمع، متى يكون دورا وعظيا إرشاديا دعويا ومتى يكون سلطويا، فمع الأسف صار المتدينون لا يدركوا هذه الفروقات، بل نصبوا أنفسهم دولةً وعلماءً ومفتين ووزراء وكل شيء دونما الأخذ بمقام كل جانب من جوانب الحياة وما الذي يتطلبه هذا الموضع عن ذاك من فقهٍ وسلوكيات، فلو كان الكثير من متديني زماننا هذا بدلا من أولئك الأعلام المذكورة قصصهم، لما أخذوا الناس بغير السيف تقتيلا وتكفيرا وتنكيلا ونسوا دورهم الدعوي والرسالي.

بعكس من ذكرناهم من العلماء ممن لم ينكر المنكر طلبا لمصلحة أعظم كإيقاف الدماء كما فعل شيخ الإسلام أو طمعا في هداية المخطئات كما فعل محدث الشام الأكبر.

علينا أن نعود للمنهج الدعوي وإحسان الظن بالناس ودعوتهم بالتي هي أحسن، فليس كل الإسلام أنظمة وقوانين وعقوبات وإنما هذا جزء يسير منها، والأصل فيه الدعوة والإقناع، وتأمل معي كلام الشهيد سيد قطب إذ يقول رحمه الله:

(إذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام ولكن يأتي من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم، وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقا مباشرا كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر، والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب).

أقول: تأمل هذا الكلام ففيه فقهٌ عظيم، وفيه تفريقٌ دقيق بين أمور النظام والدولة أو القانون والسلطة (المعاملات)، وبين أمور العبادة والفكر والعقيدة التي أساسها الإقناع والدعوة لا الإجبار، كما للسياسة أسلوبها وطريقها فلكل مقامٍ مقال.