وردني قبل عامين، في الرابع عشر من أغسطس لعام 2014، على شبكة الآسك سؤال من طالب كلية ألسن مِصري ينوي تغيير مجال دراسته من الترجمة إلى تخصص آخر. ولأن هذه الفكرة غالباً ما ترد على أذهان طلبة الترجمة عند مواجهتهم صعوبات دراسية، خاصة إن كانت الدعوة من أهدافهم الرئيسية، أحببت توثيق ردّي عليه هنا.

السؤال:

أدرس اللغات والترجمة قسم اللغة الاسبانية والانجليزية ،،ولا احب تخصصى واكره رغم انى من اخترته ،،فهل يمكن ان ترشدينى وتدلينى على اسباب تعينى على حبه ،لانى افكر فى تغيير التخصص وتائه للاسف ! أنصحينى من فضلك ،،واسالك الدعاء لى. ندرس لغتين بالإضافة للغة العربية،هكذا كليات اللغات والترجمة بمصر،يفصلنى ثلاث سنوات،اخترته بداية لهدف دينى ورغبة فى انى اريد ان اتعرف على تاريخ وثقافة اسبانيا،وسبب كرهى له أسلوب الدراسة بالكلية حيث بداوا معنا وكأننا درسنا الأسبانية من قبل! فدرسنا من أول ترم النصوص "نثر وشعر " ودكتور المادة أسلوبها وطريقتها جعلنى اكره اللغة !ودرسنا بدون ما نعرف قواعد اللغة ولما نسأل الدكتور كيف نستخدم الازمنة يخبرنا بان نحفظها كما هى وشرحها فى العام المقبل ! كل ذلك جعلنى ما احب الكلية وما اخترته بداية !

الإجابة:

السلام عليكم،
أرجأت كتابة الرد لأجيب على مهل وتقرأه بذهن صاف.
-
يعني تدرس الآن 3 لغات: العربية [تستزيد فيها] الإنجليزية [تستزيد فيها] الإلمانية [تدرسها من أول وجديد]
كونك ما زلت في السنة الأولى يعني أن لديك خيارين كلاهما مناسب:
1/ فرصة التحويل لقسم آخر أسهل، لا تواجه فيه صعوبة من أي نوع، اللهم وقت الاختبارات.
2/ فرصة الاستمرار في القسم وتحدي ما يواجهك من عقبات.
-
وأنت اخترت الأسبانية لغرضين [غرض ديني وغرض ثقافي].
لنفرض أنك ستحوّل لقسم شرعي = القسم الموافق لغايتك الأولى.
قالوا لك أن عليك حفظ 5 أجزاء و100 حديث مع تخريجها كل فصل. وأنت أصلا حافظ للقرآن والحديث، سيكون هذا سهل عليك جداً.
ماذا لو لم تكن حافظاً أصلاً؟ سيكون صعباً جداً وقد يزيد أحد الدكاترة المعروفين بتزمتهم الطين بلّه بقوله أن الذي لا يستطيع سرد سورة البقرة عن ظهر قلب فليس أهلاً أن يتعلم دين الله [فرضاً]. هل ستترك له القسم وتحول لآخر لأنك وجدت صعوبة في المنهج واستفزازاً من "أحدهم"؟ .. وماذا ستعمل إن تخرجت مع إتقانك للغة واحدة هي لغتك الأم اصلاً؟

لنفرض أيضاً أنك حوّلت لقسم يلبي الغاية الثانية = تاريخ إسبانيا وثقافتها
ليكن قسم التاريخ،
خلفيتك التاريخية واسعة، دراستك هذه أبحرت بك عبر كافة العصور التاريخية قبل نزول آدم إلى الآرض لمدة عامين ونصف، بعدها دخلت بك إلى تاريخ أسبانيا. درستها في مادتين. ثم استكملت رحلتها نحو بقية العصور. لن يصعب عليك شيء لأن أصلاً لديك معرفة سابقة عنها. لذا ستسير بسلاسة.
واجهت صعوبة في الأسماء والشعوب واللغات الناطقة والأحفورات والجغرافيا والكثير من هرطقات المؤرخين [بيزعلون علينا]، هل ستحول أيضاً لقسم آخر؟
-
أرى في سؤالك أنك لا تريد الهروب، إنما رغبة في مواجهة الواقع وتجاوز ما فيه لأن لديك يقين أن ذلك ممكن، المشكلة فقط في أسلوب دكتور أو اثنين، وأثره عليك معنوي = استفزازي وقد يكون إهمالاً منهم. ولن يكونا آخر من سيستفزك : )

فكّر بالموضوع من زاوية أخرى:
الذي تواجهه من أسلوب الكلية يُعد بلاءاً، والله لا ينزل البلاء على العبد إلا إن كان مستعداً حقاً له، وإن لم يظن في نفسه ذلك.
ودور العبد المؤمن أن يصبر عليه فـ يزداد قوّة ويقيناً بمعية الله ثم قدراته لأن الله علِم ما بنفسه فـ يُعده لمرحلة أصعب وأسمى وإما أن ينهزم في أول جولة، وسيبتلى مرة أخرى وثالثة ورابعة، أو ربما لا يُبتلى أبداً لأن الجولة الأولى ألقته صريعاً وبينت ضعفه. وأعيذك من أن تكون هذا الضعيف.

فكّر ببُعد آخر:
كيف تأتى لـ العلماء الأجانب، اليهود خاصة،التمكن العلمي؟ وماذا فعلوا بعد هذا التمكن؟ ألم يخدموا به دياناتهم وشعوبهم؟ أليس الأولى أن يكون هذا التمكن لي ولك؟ فنحن من المسلمين، ولنا سابقة في ذلك: أجدادنا الأندلسيين!

استثمر مواهبك وقدراتك وسخّرها فيما تجد فيه هوى نفسك وميلها.
كونك اخترت أن تتعلم اللغة الاجنبية مباشرة، لا تخصص يُجبر طلابه عليها، يعني أن لديك مرونة فكرية: لديك استعداد لقبول الآخر، والتفاعل معه والانتفاع منه وبذل نفسك، بالإضافة إلى انفتاحك الذهني وانتقائيتك [ألم تحدد غايتك قبل دراستك؟]وثقتك بنفسك وطموحك العالي وإلا فإنك تستطيع بكل بساطة أن تختصر على نفسك العناء وتدرس في كلية لا تعلم إلا الإنجليزية فتتوظف معلما للغة العربية لغير الناطقين بها أو الإنجليزية وتحقق استقرار وظيفي، ومن ثم أسري وصلى الله وبارك!
ثم أنك تملك نادرة بشرية وهي الوعي اللغوي: اخترت هذه الكلية مع علمك السابق أنك ستتعلم 3 لغات في وقت واحد، ولولا أنك تجد في نفسك قدرات لغوية فريدة تعينك على تعلم أي لغة لما فكرت بتاتاً بـ ولا حتى تخصص اللغة العربية للابتدائي : )

-
ما زالت تجربتي قصيرة في مجال اللغات وإن كنت أحضر الماجستير في الترجمة [كنت أبكي كل أسبوع في المستوى الأول لأني لم أكن أعرف الفرق بين الـ verb و الـ noun! ]، لذا إليك تجربة د. سعدية الأمين من السودان، وهي دكتورة معروفة عالمياً تتقن 3 لغات [العربية والإنجليزية والفرنسية] درّست في عدة جامعات، منها الجامعة التي درستُ فيها. جاوزت الخمسين الآن. تقول:
" كُنت من الصفوة التي ابتعثتها حكومتنا للدراسة في فرنسا، أنا وزوجي. انتظمنا بداية في معهد يدرس الفرنسية والإنجليزية، وللطالب خيار اختيار احدهما لكن لالتزامهم بالبعثة يدرس الطلبة كلا اللغتين. الفرنسية كانت صعبة جداً علينا، بعد أول اختبار وقبل ظهور نتيجتها قررت كل البعثة أن تنحسب من هذا المسار والتسجيل في مسار الإنجليزية فقط، أليست تخصصهم الأول اصلاً؟ ظهرت النتيجة وأخذت 9 من 30." تقول " قلت بنفسي: أنا الشاطرة المُبتعثة آخذ 9 من 30؟! لازم أغير المسار، وأكمل بالإنجليزي. فـ ذهبت لمديرة المعهد، وقبل أن أتكلم قالت لها: أعلم، تريدين التحويل. واستفزتها ببعض الكلمات، ثم قالت: يا سعدية، لا تنساقي مع ما اختاره بقية زملائك. استمري وإن واجهتك صعوبة الدراسة، بعد عدة سنوات ستجدين أن لنفسك قيمة عالية بمعرفتك 3 لغات، وهذه الصعوبة مؤقتة بينما قيمتك ستستمر حتى آخر حياتك، وستأتين وتشكرينني على ذلك."
استمرت د. سعدية في مسار اللغتين، وفعلاً أصبح لها قيمة عالمية! تقول كنت في زيارة للسودان، وعندما عدت لفرنسا تفاجأت بوفد دبلوماسي ينتظرني في المطار! في ذلك الوقت كانت السودان تعقد اتفاقيات تجارية مع تجار فرنسا لتجارة القطن، وكانوا يريدون مواطن سوداني "يتقن" اللغات الثلاث، ولم يكن في قائمتهم سوى د. سعدية! ياه! تخيل يكون على عاتقك مصير بلد؟!
تدري وش صار بعدها؟ .. د. سعدية تلعثمت خلال الترجمة الشفهية بين الوفدين، تقول أحرجت حرج شديد.. دفعها هذا الحرج للاستغراق في دراسة الترجمة الشفهية لا الهروب منها! والشفهية تتطلب قدرات ذهنية أعلى من قدرات الترجمة التحريرية.
وستجد في سيرة شيخ المترجمين العرب عادل زعيتر إلهاماً آخر! [هنا http://bit.ly/1ocZyvC]

هل تذكر بداياتك في تعلم اللغة العربية؟ كيف كنت تخطئ؟ كيف كانت تنهرك أمك؟ كيف كان يوبخك معلمك؟ مع ذلك، بذلت جهدك وتعلم القراءة والكتابة والإعراب وربما البلاغة وتفوقت حتى غدوت شاباً ذا غاية كُبرى!
الآن وقد استشرت، بقي أن تستخير ربك في الاستمرار في هذه الكلية من عدمها، ومن يدري، لعلك ان استكملت دراستك فيها جاء الزمن الذي سأترجم فيه أنا كتاباً عن العربية للإنجليزية وتترجمه أنت للإسبانية فيقول النقاد: الترجمة الإسبانية أجود بمراحل من الترجمة الإنجليزية!
أياً كان ما سييسرك الله له، تعاهده بالنية الصالحة الصادقة وبالصبر، يقول ابن القيم "من تذكر حلاوة اللقاء، هانت عليه مرارة المجاهدة " ويقول ابن تيمية "من صَدَق في طلب شيء من الأشياء؛ أُعْطِيَ من الصبر في تحصيله بقَدر صدقه في طلبه، وهذا أمر معلوم عند الناس."
-
وفقك الله وأعانك وسخر لك عباده، ملائكة وإنساً.