1. المسألة التاسعة: بعد نظر النبي القائد

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله، لأرعدت له آنف، أمرتها اليوم بقتله لقتلته. [1]. وذلك حين آخذ آل ابن سلول عليه.

على أن هكذا كانت قيادة نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته، وحين يتلقاه أمرا من آحادهم إليه! ويكأن هذا الذي قد راح هكذا بعيدا، سحيقا، مديدا، عميقا، وحين يأمر آحاد الرعية راعيهم! وحين قد تلقاه هكذا! ومن نفس راضية، مرضية، وتلفاه حنونا، لطيفا، رقيقا، مع هكذا عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، وهو يقول له قوله هذا: أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله!

ولسنا نبرر ألا يكون القائد موقرا، بل ونعارضه، ونسوئه، ونمقته؛ ولأن القائد هو عنوان أمته، ويوم أن يبجلوه، ويحترموه، ويكبروه؛ وليكون هكذا، في نواظر الأغيار، مكرما، مهابا، ومن داخل، ومن خارج أيضا.

ولكن هذا الموقف، وإذ قد حدث، وإنما نطوعه لديننا، لا أن نطوع ديننا له، ولنأخذه على هكذا قرائح، كانت سنية، هنية، وحين كان عمر الفاروق هذا، ومن أعظم من يقدر رسوله، ويحترمه، ويوقره، ويكبره، ويهابه!

وها هو ويوم أن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، والنساء عنده، يستفتينه، ويسألنه، ويتعلمن منه الهدى، والدين، والصراط المستقيم، أمة تستفتي من كان أهلا للعلم، ويخاف فيه مولاه، ويرجوه فيه رضاه، وهداه وسناه، سداد رأي، وقوة بصيرة، ولا تسل! وإن هو إلا وحي كريم!

وليخفن أولاء النسوة عمر أكثر! وليرهبنه أوفر، وحين دخل، وهن هكذا عاليات أصواتهن! ويكأن هنالك فارقا بين هذا وهذا، وحين لا يتعارضان، ولا يتنافران، بل ينسجمان، ويأتلفان، وحين وضع كلٍّ موضعَه!

فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: استأذن عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب! قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يهبن، ثم قال: أي عدوات أنفسهن؛ أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قلن: نعم، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك. []. [صحيح البخاري: 3294].

ولكن هكذا هو النبي! وبوصف بالغ بليغ، عن إلفه، ورحمته، وحلمه، وكن نطقن قد بذلك نطقهن عنه عفويا، وليعرف الناس أن تاريخا هكذا قد سجل لهذا النبي، أنه ليس فظا، ولا غليظ القلب! قائدا هذا وصفه، ورائدا هذا نعته، وحتى طمع فيه، وفيما عنده الأقارب والأباعد سواءً!

وعلى نسق كهذا، يحمل أمر عمر الفاروق للنبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا اعتبار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمصلحة العامة للأمة، ومحافظة على سلمها الاجتماعي، وبحكمته وحنكته المعروفتين.

إن السلطان الأعلى للأمة، ليتأبى أن يسير عكس تيارها الاجتماعي! وإذ يمكن أن يكون يوما جارفا! ويكأنه؛ ومن هذه الحكمة، والتأني، وافتراض عمل الجماهير، ليأخذ في اعتباره، ولو من باب الاحتمال، أن يكون عمل ما، وكقتل عبد الله بن أبي بن سلول، هو بمثابة إطلاق الشرارة الأول لضجيج، وأخذ ورد، وفوران، وثوران بركاني هادر، كان الصف الاجتماعي في غنى عنهما، وكيما لا تهدر طاقات الأمة، بينها البين، وإنما لتدخر هكذا من طاقات خلابة؛ ولبذلها، وفي إنكاء عدو الله تعالى وعدوها.

وهذا ملمح إداري عبقري، ولطالما كان قد تميز به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهكذا يبين بعد نظر قائد خبير، ورائد نحرير، وحين عجلة رعيته. وإذ يغض عنها طرفا، ولما يحين وقت تأويل رؤياه! وحين كانت على قدر فلق الصباح! تأويلا ممهورا بصحة هكذا بعد نظر، وتحمل، وصبر، وتقدير الأمور قدرها.

وليضمد جراح أمة ليست بأحوج إلى شيء من ذلك، بل بأغنى عنه، وعن أمثاله أيضا! وحين كانت، وهكذا أمة، منشأة على الصبر، والتحمل، وغض الطرف، والتغاضي؛ لا من ضعف، بل من بعد نظر، ولما يحين عمل القضاء الرباني المحكم، ولما يتأتى قدر السماء الإلهي المبرم أيضا، وحين ليس يترك ربنا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وإلى أن تتدخل السماء، فتقضي قضاءها، العادل، المنجز، البات، وعلى ما عودتنا السماء كل مرة!

وها هو تدخل السماء، ولينهي تمردا، خفية مرة، وجهرة كرة، كان قد حكاه هذا الدعي عبد الله بن سلول، تاريخا مرا، صبرا، علقما، وأن هكذا كان صنيع قوم، وهم ينخرون السلم الاجتماعي نخرا، وإذ هم يثلمون وحدة الأمة ثلما! وهذا مع النبي! وما بالك، وماذا كانوا هم فاعلين ومع غير النبي؟!

ويكأن تدخل السماء هذا واقع لا محالة، وإن طالت الأزمان، ولئن تباعد الزمان والمكان أيضا! وليأخذ الله تعالى هذا الدعي ابن سلول أخذه العزيز المقتدر، ولما كان به طهارة البلاد، وراحة العباد، وحين كان ذلك ردا على موقف عمر الفاروق، وليتصبر الرعية، واثقين من تدخل السماء؛ عونا لقائدها، ورعاية لرائدها، ولما كان يعمل عن بصيرة، وحكمة، وتوفيق، وإلهام رباني محكم أيضا!

وهذا ملمح جد مهم، وحين كان هذا القائد المعزز من السماء، وإذ ليس يعمل، وإلا على نور وهدي السماء معا!

ومنه كانت هذه من نعوت قائد، لأمة عريقة، قادت العالم إلى أمانه، وصلاحه، وتوحيده خالقَها تعالى، وعلى وجهه الذي شرع، وحين تأبت، وألا تأخذ إلا عن ربها ونبيها، وحين أبطلت ما يخالفهما، ولو شيئا!

وقال عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. [2]. هذا نزول كريم، على هدي نبوة، كان أكرم، ويبين عن وحدة صف خلف نبيها صلى الله عليه وسلم القائد، الماهر، العبقري، الخبير.

المسألة العاشرة: القائد يستمد بركته من تحسس رعيته!

إنه ينظر في بركة قرار القائد، وثمرته، وحين تتحسس بشاشته قلوبا مؤمنة.

إنه حين تتلمس قرارات القائد مشاعر أمته، فتكون ههنا مباركة، مثمرة خيرا، وطاعة، وبركة.

إنه حين تكون قرارات القائد غير متلمسة مشاعر الجماهير فتنعدم بركتها، ويندر طاعتها، وإلا من سوق، وقيد، وخبط عشواء!

إن قائدا لا يحسب حساب جماهيره لقراره! يكون قراره عدما! تذروه الرياح! ولأنه ليس يملك مخابرة كل واحد على حده! ليؤدبه! وليحمله! وليبكته! ويهينه!

إنه حين يكون قرار القائد معبرا عن نبض الجماهير، فإنها تكون حاملة لواء تنفيذه، والدعوة إليه، والحث عليه، وهو متكئ على أريكته!

إنه وحين تكون قرارات القائد في جهة، ومشاعر أمته في جهة أخرى، ليحدث فصام نكد حيالها! ولو جيشت من أجله الجيوش الجرارة!

إن القرار، وحين يتخذه القائد على هدي من السماء، فإنما تحل بركته، وتحمل الأمة نفسها على التسليم به؛ أجرا، وطاعة، ورحبا، وسعة!

إن قرارا يصدره القائد، وهو في معزل عن هدي السماء، فإنما ضمن فواته! وإنما حكم عليه بالبطلان المطلق! وفور إمهاره بتوقيعه! قولا فصلا واحدا.

إن قرارا اتخذ، وفي معزل عن هدي السماء، إن هو إلا عدم، وبطلان مطلق، وليس يلحقه تصحيح، وإلا رجوعا إلى معين الكتاب الكريم، والسنة، الهاديين الناس سواء السبيل! فلا يأمر إلا بهما، ولا ينهى إلا منهما! ولأنه عالم قول ربه، وحين كان عاملا بأمره وحده، لا مفاصلة، ولا مخاصمة، ولا مصادمة، ولا نفرة، ولا خروج قيد شيء! ولأنه خليف مستخلف، مستأمن!

وقال الله تعالى ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص:26].

إن نداء أبويا حانيا، ألا يصدر قائد قرارا، إلا على نور من ربه، ولتأخذ الأمة على عاتقها حراسته، والقيام على إنفاذه طواعية، ومحبة، وتسليما. بل والذود دونه، مجابهة كل معتد أثيم!

إن السلطان والقرآن لا يتنافران، بل يأتلفان، وحين كان إلف على أساس التسليم، والانقياد؛ تلمس البركة والنماء، لا القحط ولا الجدباء! وتحسس الطاعة والانقياد، لا النفرة والابتعاد.

إن قائدا، وحين يعزم قراره، وهو إذ يكون خليفته تعالى في أرضه، فإنما تلفه رعدة، ألا يقرر إلا هدى، وألا يصدر إلا نورا، يمشي به في الناس!

إن الجماهير أمانة في أعناق آمريها، وحين كانت متأهبة للتلقي عن الله تعالى، آمنة، مطمئنة، راضية، مرضية، وإنما حال بينها وبين أمره تعالى حائل!

قال عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه: قد والله علمت لأمرُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري. وهذا قول الفاروق عمر! فما بال قول غير الفاروق عمر، رضي الله تعالى عنه؟!

إن بركة قول نبينا صلى الله عليه وسلم، لأعظم بركة، من قول كل أحد؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم ينطق وحيا، ويقول عدلا، ويتكلم قسطا، وينبو عن هوى، ويميل إليه الحق كله! ميلا ميلا! ويميل نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الحق كله، ميلا ميلا أيضا!

إنك لتأخذك شفقة، ولتغمرك جيمعك دهشة! وحين تعرض قول آحادهم على القرآن المجيد، أو قول خاتم النبيين، وليزداد عجبك! إذ كيف نطقوا كذلكم؟! أو قالوا قولهم هذا؟!

إننا لنشتم زكاء قول عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، وإننا لتدركنا بركة قوله أيضا؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم أمرنا بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، من بعده؛ ولأن معينهم واحد.

يحدو الجماهير أمل يوم، ترفرف فيه أنوار وحي السماء، وحين قد أمروا به، لا بغيره! وحينها لن تمنع قطر السماء! بل تجود به علينا مدرارا مدرارا!

المسألة الحادية عشرة: فقه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول!

ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عبد الله بن سلول قول أبيه ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ قال: صدق! فأنت الأعز، وهو الأذل! وهذا تأويل للقرآن مدهش! وفي حضرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ينطق فقها عظيما، ويجود علما حكيما!

وفيه قلب للقول على قائله! ورد الباطل على مبطله! واستنفاذ الحق منه! فقها، وقولا حسنا، وتأويلا أعجب! ولا تسل كيف؟! ولأنهم أبناء تربية المائدة المحمدية!

إن موقفا لعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول تجاه والده، مؤذن أن هذه أمة صدقت، فأوفت! وحين كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما! بالغا ما بلغ! ولو كان أبا أو أما! أو قريبا أو بعيدا! وحين علموا أن الحق لله!

إن تأويل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول للقرآن، أن والده هو الأذل، وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو الأعز، هو ما يتفق تماما وقوله تعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون:8]. بيد أنه فقه عال!

إن قدرة الصحابة الكرام على الاستنباط، من قرآنهم، كان ملكة مباركة، أعلمتنا أبعاد هكذا كتاب، أدهشتنا بلاغته! وأشدهنا إعجازه! لأنه قول مليك مقتدر!

المسألة الثانية عشرة: احترام الملكية الشخصية في هذا الدين!

قال عبد الله بن أبي بن سلول ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾، فمنعه ابنه دخول مسكنه إلا بوحي! فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إليه، فقولوا له خله ومسكنه. وهذا دين يقر ملك صاحبه.

ولكن فعل هكذا ابن! ومع أبيه! ومن مقتضيات هذا البراء في الله تعالى! دينا قيما ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:123].

وهذا تأويل لجامع الجمع بينه وقوله تعالى ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة:8].

ولأن عبد الله بن أبي بن سلول كان محاربا، عتيدا، عنيدا، فظا، غليظا، صنديدا!

ويكأنه قوله كان عمدة محاربته، ولما أضحى موجب عداوته! وحين قال قوله هذا ﴿لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾!

المسألة الثالثة عشرة: سمعنا وأطعنا!

قال نبينا صلى الله عليه وسلم: اذهبوا إليه، فقولوا له خله ومسكنه. وقال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم. [3]. وهؤلاء قوم كانوا وقافين عند النص.

إن قول عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول: أما إذا جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم. برهان أن منقبة أمتنا هي: سمعنا وأطعنا. ولا تعمل عقولها كثيرا؛ فتحرم بركة الانقياد.

 المسألة الرابعة عشرة: الرزق المدرار من بركة طاعة الجبار القهار

إن أمتنا، وحين ترسمت قرآن ربها، ووحي نبيها، وحين أظلتها سحابة، ليناديها هارون الرشيد يوما أن: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك!

إن إسلاس القياد لله تعالى، مؤذن بهطول الأمطار، سحا، غدقا، مجللا؛ ولكي تفيض خزائن المال، فلا نجد مسكينا تؤدى له الزكاة!

وقال الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ المائدة:65-66].

وقال الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف:96]!

وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط؛ حتى يعلنوا بها ؛ إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم، فأخذوا بعض ما كان في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم. [4].

المسألة الخامسة عشرة: النصر والعزة والتمكين من بركات طاعة رب العالمين

إن أمة ترسمت هدي قرآنها، كانت تقول يوما: من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. أما بعد فالجواب ما تراه لا ما تسمعه! [5].

إن امة كان فيها من أمثال عمر الفاروق ولما عزم امره على الهجرة من مكة إلى المدينة وليواجه مجتمع الكفر كله وهو فرد أعزل! ولكن هذا الدين ولكن هذا فعله في القلوب وحين يقف مواجها قومه سائرهم قائلا: شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف من أراد أن تثكله أمه أي تفقده أو يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه. [6].

إن الكلام حول هذه الرواية لا يخرجنا عن فحواها، وليس يحيد بنا عن معناها، وحين كان صحيحا هذا المعنى؛ ولتأييده من سجل تاريخي، ولموافقته من فعل محمد النبي، ويوم غزوة المريسيع، وحين غالب يهود امرأة مسلمة على كشف وجهها؛ دناءة، وتعديا، وخيبة، وإذ وما لهم ووجهها؟! وإذ وما لهم وامرأة؟! وإنما يكيد الرجال للرجال، وإن كانوا ولابد فاعلين! ولكنه الكيد، والجهل، والجهالة، وحينها قد ارتدى نبينا لأمته، وقد تقلد سيفه، وأشهر رمحه، ورمى نبله، ولتكون كلمة الله تعالى هي العليا.

إن أمة قادها الخير، والهدى، والفرقان، والقرآن، الحكيم، المبين، الذكر الحسن الجميل، هو الذي أمكنها به، وأن تجابه كفرا بواحا، وعنادا كان قد أنفث فاه! وانتفخ وريداه! وامتطى قفاه! وحين كان قد أذله فرد واحد! من أفراد هذه الأمة! نعم هذه الأمة! ليدخل بفرسه على بساط حكمه! ويدوس كرامته! وقبل أن قد داس بساطه وسجادته!

وهذا ربعي بن عامر، مثلا يحتذى، وتاريخا يقتدى، وحين جابه -وحده- كسرى وبقوله هذا: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. [7].

المسألة السادسة عشرة: هذه نظرة قومية محلية مقتها الإسلام

لا زال عبد الله بن سلول يقول: أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير بلادكم. [8]. هذه نظرة قومية محلية مقتها الإسلام؛ وليكشف سوأة قصور قول، حثا الإسلام عليه التراب.

إن النظرة المحلية القومية، وحين تدب في مفاصل قوم، فقد أذنوا بعيبة جاهلية، نحاها الإسلام جانبا؛ وكيما يبقى الحب في الله، وإن شرق امرئ أو غرب.

ولا زال عبد الله بن سلول يهذي قائلا: سمّن كلبك يأكلك. إشارة إلى مهاجرين، شرفاء، كرماء، أتقياء، أنقياء، أمضوا كمضاء السيف نبلا! وحين خرجوا من كل شيء؛ حسبة، ودينا، عز على ابن سلول عليه صنعه! أو شيء منه!

إن ترك الزمام، أمام نفس تهوى، مؤد بها أن تطلق عنان هذيانها، تغوى حينا من بعد حين آخر، وكما كان من ابن سلول، فأخرج سما ناقعا، لا قولا نافعا.

إن الإسلام يهذب، وإن الإيمان يؤدب، وحين أوقف كلا عند حده، وبقوله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. فإن خطم نفس دواؤها.

فعن أبي هريرة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا، أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. [9].

المسألة السابعة عشرة: المسلمون على قلب رجل واحد

قال عبد الله بن عبد الله بن سلول: صدق والله يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل، وقال أسيد بن حضير: هو والله الذليل وأنت العزيز. [10]. وهذه أمة قلبها قلب رجل واحد.

إنه كم من مناسبة، ظهر منها قول الحق، ومن قوم كانوا به يقولون، ويعدلون، وحين قد تواتر قول غير مرة هكذا: لقد حكت فيهم بحكم الله!

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا من المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم، أو خيركم، ثم قال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قضيت بحكم الله، وربما قال: قضيت بحكم الملك. ولم يذكر ابن المثنى وربما قال: قضيت بحكم الملك. وفي رواية: لقد حكمت فيهم بحكم الله، وقال مرة: لقد حكمت بحكم الملك. [11].

وهذا الإمام الحبر الترجمان، وهذا أخوه الفاروق عمر رضي الله تعالى عنهما، وحين قد توافق قولاهما حول سورة العصر!

فعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم قال: وما رئيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا حتى ختم السورة، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس، أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له: إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، فذاك علامة أجلك: فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. [12].

ولعل أكثر من هذا، وحين كان من إمكان اجتماع الخلائق كلها، ومن إنسها، ومن جنها، أن يجتمعوا جميعا، وعلى أتقى، أو أفجر رجل واحد!

وهذا ليس فرضا، بل صدقا، لا من خيال، بل من حقيقة ويقين معا! ولأنه من قول ربنا الجبار الغفار، القهار، الجبار سبحانه.

فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وفي رواية: إني حرمت على نفسي الظلم وعلى عبادي، فلا تظالموا. [13].

وشاهده قوله تعالى: يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا.

وتلك أمة، كان من سعادة كونه تعالى، وأن تتبوأ مقعد صدق فيه! لتترك لنا إرثا هكذا، ينز منه الصدق نزا، وينهمر منه الفيض والسكون والتقوى انهمارا، وما بلغ من محله هذا؛ وإلا لأنهم كانوا على صلة صدق بالله تعالى مولاهم الحق المبين!

[1] [تاريخ الطبري: ج ٢ / ٢٦٣].

[2] [تاريخ الطبري: ج ٢ / ٢٦٣].

[3] [جامع البيان، ابن جرير الطبري: ج ٢٨ / ١٤٦].

[4] [صحيح الجامع، الألباني: 7978].

[5] [صبح الأعشى في صناعة الإنشا، أحمد بن علي القلقشندي: ج1/ 232].

[6] [السيرة الحلبية، الحلبي/ ج ٢ / ١٨٤].

[7] [البداية والنهاية، ابن كثير: ج4 /39].

[8] [تاريخ الطبري، ج ٢ / ٢٦١].

[9] [صحيح مسلم: 47].

[10] [تاريخ الطبري: ج ٢ / ٢٦١].

[11] [صحيح مسلم: 1768].

[12] [صحيح البخاري: 4294].

[13] [صحيح مسلم: 2577].