تركيبتنا المعجزة -إنسانيا- تقتحم فيها ممارسات معقدة لتخرج في النهاية كسلوك واحد، وليس بوحيد. فأقل الأنشطة الحيوية اليومية يتطلب ضخما من العمل يقوم به كل جزء في فسيولوجيا الجسد، وسيكولوجيا النفس، وحتى الغيب في عالم الروح. وإذا تعطلت إحدى هذه الإشغاليات فإن النتيجة ستكون مهولة، أي عبثا واضطرابا ليس له نهاية!

     على مثل هذا، وأكثر، يحدث عندما نود "التعبير" بكل مهارات التعبير التي أودعت في خلقنا. فالكلمة التي تقال أو تكتب، هي النتاج لعسر متردد ما بين المادة والعقل والنفس لتصبح كيانا محسوسا، بنوع من الحس، عند الطرف الآخر الذي يستقبلها، ولو كانت جهة الاستقبال هي الفراغ الذي نملأه بكلماتنا حين لا نجد من يسمعنا، وهذه نعمة الإيمان بوجود الفراغ في الحياة والكون، أي مساحة ما تزال متاحة لنضع فيها شيئا من أنفسنا. 

والعراقيل التي توضع في سبيل منعنا من ممارسة مهارة التحدث، شفهيا أو كتابيا، هي شرعة قائمة منذ الأزل، حتى في حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومع هذا فإن الكلمة قد انطلقت ورست في الأرض نافعة وأبدية. وأحيانا، تقول لنفسك: لماذا ينصتون لفلان ولا ينصتون لي؟ لماذا يقرأون لهذا أو ذاك ولا يقرأون لي؟ هذه معضلة الذي يحملون واجبا بلاغيا، أي يفترض وجود مستمعين أو بمصطلح اليوم جماهير، لأن قيمة حياة الكلمة تترسخ بحفاوة استقبالها والاشتقاق منها وفيها أو عليها. 

إني كثيرا ما أتأمل هذا الإهمال الذي يعيشه اصحاب الكلمة الحقيقية، أو الاجتهاد الجاد ممن يحملون مسؤولية ما ينشرون، وكيف أن الكثير من هذا الجيد يخبأ في عقد الشبكة العنكبوتية في صورة تحاكي أدراج دور النشر ومؤسسات الصحافة بالأمس الورقي. وهي ثنائية فريدة تتضخم باتساق مقيت: فلا الكاتب توقف عن الكتابة، ولا الطرف الآخر - أيا كان - توقف عن التغافل! وفي هذا المفترق لا نعود أدراجنا، أصحاب الكلمة الجيدة، ولكن يتبدى لنا "الفناء" كعامل وجود: فنحن عما قريب نرحل، فماذا نخلف وراءنا؟! ولجمالية انتقام الزمن، أننا نتابع كل يوم وتاليه، خروج كتابات قديمة لم يسبق أن نشرت لتحتل اعتبارها المنسي في زمانها، في حين قد خفتت الأصوات العالية لذلك الزمن ذاته. 

أكثر ما نعزي به أنفسنا، أصحاب الكلمة الجيدة كما نحسب، أن ما ينفع الناس سيمكث في الأرض، وأن الزبد سيذهب جفاء مهما علا على السطح وأزاغ الأبصار، وكل ما يمنع الكلمة الجيدة من أن تنتشر هو من الزبد الذائب، لأن حقيقة الوجود كله، بما فيه الإنسان، هو الكلمات، الكلمة الصادقة والجيدة، إنها وحدها التي ستتبدى وراء طبقات الطاقة التي نتشكل منها.