طائفية ساسة العراق وعنصريتهم
الحلقة الاولى
((جذور العفن الفكري))
ان الحدث التاريخي لا يطفو على السطح فجأة ومن دون تمهيدات , فلا يوجد حدث يتيم منقطع وشاذ على وفق السنن التاريخية , اذ كل حدث يرتبط ارتباطا عضويا وثيقا بما قبله و ما بعده مكونا بذلك حركة ديناميكية مستمرة لإنتاج الاحداث وتتابعها , فما هذه الاحداث الانية المعاصرة الا نتائج طبيعية لمقدمات سابقة تاريخية .
ومن المعلوم ان الاحتلال التركي استمر جاثما على صدور العراقيين طوال قرون من الزمن , زارعا في العراق بذور الطائفية والعنصرية والتخلف والامية ؛ قد اتى ثماره فيما بعد , فقد قطف الطائفيون المنكوسون تلك الثمار معلنين بذلك بداية مسيرة الحكومات الطائفية والعنصرية في عام 1921 , و التي ضمت بين طياتها الكثير الكثير من الشخصيات الطارئة ذات الاصول التركية والشركسية والشيشانية والداغستانية والقرجية و الايرانية والعربية ... الخ (1) ؛ اذ احتضنت هذه الحكومات كل الاعراق الاجنبية والشخصيات الوافدة حديثا الا انها خلت تماما من العناصر العراقية الاصيلة الفاعلة , اذ تم رفض الامير العراقي خزعل الكعبي بينما توج فيصل الهاشمي الحجازي ملكا على العراق (2) , فكانت من اغرب التشكيلات السياسية في التاريخ المعاصر , فمن أعلى الهرم ( الملك ) الى ادناه : خدم القصر ( الهنود ) كلهم غرباء دخلاء على الواقع العراقي او لا اقل هم من اخر المهاجرين اليه , نعم تم تطعيم بعض هذه الحكومات الطائفية العنصرية العميلة بالشخصيات الهزيلة او المرتبطة بالمخططات الطائفية والعنصرية والاستعمارية المحسوبة على الاغلبية العراقية او من الذين ينطبق عليهم القول المشهور : لاحول ولا قوة ؛ لذر الرماد في العيون (3).
ومن هذه السقيفة البريطانية اللئيمة بدأت رحلة العذاب والتيه العراقي التي استمرت ثمانية عقود كل عقد منها كأنه ألف سنة مما يعدون , فقد زرعت بريطانيا هذه الشجرة الخبيثة في بلاد السواد , و سارت السنوات العجاف بطيئة رتيبة مملة مليئة بالاضطرابات والانقلابات والازمات والتخلف والانتكاسات حتى القت اوزارها وتمخضت عن وليد لقيط كان من أمر واخبث ثمار تلك الشجرة الاستعمارية اللعينة الا وهو النظام الصدامي الاجرامي المقيت , فلو وضعت كل الحكومات الطائفية السابقة في كفة و وضع النظام الصدامي في كفة اخرى لرجحت كفة نظام صدام وزبانيته المجرمين ؛ ومن الواضح ان سياسة بريطانيا في القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين كانت تهدف الى انشاء نظام الاقليات في المستعمرات ؛ لان نظام الاقلية يتميز بالمواصفات التي يحتاجون اليها في ادارة مستعمراتهم , والسبب الذي دعاهم لذلك هو افتقادهم للشرعية والقاعدة الشعبية والتأييد الجماهيري , وكي تبقى الاقلية الحاكمة معتمدة اعتمادا كليا على المستعمر البريطاني والدعم والاسناد الخارجي لمواجهة الثورات الشعبية والازمات والعواصف السياسية والمشاكل الداخلية ؛ و لان بقاءها في سدة الحكم مرهون بالخارج .
و قد تفوق الصانع على الاستاذ ولا غرو في ذلك , فقد جاء في المثل الشعبي العراقي ما يؤكد ذلك : ((صانع الاستاذ استاذ ونص )) ؛ اذ طبق النظام الصدامي المبدأ الاستعماري الهدام : (( فرق تسد )) بكل حذافيره , وتجلت هذه الاستراتيجية الصدامية الطائفية بسلسلة من الاجراءات الحكومية الهادفة الى تمزيق وحدة الصف الوطني واقصاء الاغلبية العراقية الاصيلة وتهميشهم وابعادهم عن مصدر القرار التشريعي والتنفيذي , وتقريب الفئات الطارئة والدخيلة والشخصيات الاجرامية المريضة , بل انه سلط شذاذ الافاق من الاجانب والعرب والاعراب ومجهولي الاصل والهوية والمرتزقة على ابناء العراق الاصلاء وفضلهم عليهم ؛ فصيرهم مواطنين من الدرجة العاشرة وبالمقابل اعطى امتيازات لا عد لها ولا حصر لكل الغرباء والدخلاء في العراق (4) .
لم تخلو بلاد الرافدين من الاختلاف في كل شيء ؛ فالاختلافات بين سكان العراق قائمة على قدم وساق منذ القدم , وقد تشكلت فيها عدة شرائح اجتماعية على شكل ديانات او طوائف مذهبية او قوميات او مجموعات عرقية ولغوية متنوعة ؛ وقد تتشكل هذه المجموعات على هيئة قبائل وعشائر لكل منها لهجتها الخاصة واعرافها وتقاليدها , بالإضافة الى نشوء فئات اجتماعية تجمع شتات بعض الحرفيين او اصحاب المهن والاعمال يعرفون بها دون غيرهم , او على شكل احزاب او نقابات او تجمعات قائمة على اساس الثقافة او الفكر او السياسة او الاقتصاد ... الخ ؛ وهذه التقسيمات مهما كثرت وتنوعت لا تعني امرا خطيرا ينذر بالخراب والدمار , فهذا التنوع وهذه الفسيفساء لابد منها في عالمنا المتنوع والمتعدد والعراق لا يختلف عن غيره من بعض بلدان العالم المتنوعة الاعراق والطوائف والاتجاهات والتوجهات , فهذا التنوع في حد ذاته لا يشكل خطرا على السلم والامن المجتمعي ما دام موجودا بشكل موضوعيا وقانونيا و طبيعيا في المجتمع ؛ ولكن الذي حدث وما زال يحدث في كثير من الاحيان ان بعض الحكام الذين حكموا العراق لاسيما الدكتاتوريين والظالمين والعملاء منهم ؛ يخترعون الف وسيلة او يقومون بما يأمرهم به أسيادهم الاجانب والغرباء كأنهم حمير لهم ؛ في تنفيذ الف مخطط شيطاني خبيث لإبراز ما بين هذه الشرائح والفئات من اختلافات في العقيدة والمصالح واللغة والقومية واللهجة والتوجه والثقافة ... الخ ؛ بشكل مبالغ فيه ويوحي بالعداوة والتقاطع والتدابر ؛ ولعل النظام الصدامي كان من ابرز تلك المصاديق ؛ ولو كان نظاما وطنيا شريفا لعمل على توحيد العراقيين , وتضييق الهوة الطائفية والقومية المؤدية الى التشتت والتفرق , وتحقيق العدالة الاجتماعية بين فئات وشرائح المجتمع العراقي ؛
ولكن كما قيل : اسمعت لو ناديت حيا ... لكن لا حياة لمن تنادي .
ومن الوسائل التي يتبعها النظام الدكتاتوري الظالم الفاشل للوصول الى اثارة القلائل والعنف بين ابناء الوطن الواحد الذين قد ينتمون الى طائفتين – مثلا - ؛ انه يجند اتباعه وعملائه ومريديه ويأمرهم أن يدعوا بأنهم من الطائفة (ش ) ثم يأخذ هؤلاء المرتزقة بالهجوم على الطائفة (س) اما بالألفاظ او الكتابات – كما يحصل الان من قبل الجيوش الالكترونية في صفحاتهم الوهمية – او بالاعتداء على بعض المقدسات او الشخصيات والافراد والجماعات ؛ فيرد اتباع الطائفة (س) وبصورة ديناميكية وسريعة على اتباع الطائفة (ش) , وينجم عن ذلك معركة او مجزرة محدودة ثم تتطور بسرعة خاطفة الى عنف طائفي يحرق الاخضر واليابس ؛ ومثاله ما حدث في العراق من مناوشات واقتتال بين الاخوان العراقيين من كلتا الطائفتين المسلمتين عام 2006 وبرعاية مباشرة من راعية الشر الاكبر والشرر الاخطر الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول لاسيما الاقليمية والمجاورة منها .

ومن المعلوم ان الحكومات الطائفية المتعاقبة التي حكمت العراق عملت جاهدة على تقريب الشخصيات والامعات والجماعات التي كانت على اتم الاستعداد للتعاون معها وممالأتها في ارتكاب الجرائم بحق الاغلبية العراقية , فيحتكر هؤلاء وأولئك السلطة والحكومة ومقدرات الدولة , ويستولون على كل ما يستطيعون من وسائل القوة وثروات البلاد ؛ فهم يعتقدون ان استمرارهم في الحكم رهين هذه الاجراءات التعسفية الظالمة , وطالما قرب حكام العراق العملاء الطائفيون العنصريون - وبالأخص النظام الصدامي - سكان منطقة معينة , واقصوا مناطق عراقية بل اقصوا العراق كل العراق ؛ ولم يكتف هؤلاء الساسة القذرون بهذا القدر من الجور بل زرعوا العداوة والبغضاء فيما بين المناطق العراقية , او يقربوا عشيرة او مجموعة من العشائر او طائفة , ويوحوا اليهم بأن العشائر العراقية او الطائفة الاخرى من ألد الخصام والمنافسين ؛ لكي يستقر في اذهانهم تضارب المصالح بينهم وبين العشائر المقصودة او الطائفة الاخرى , وبذلك يدقون اسفين الخراب والاقتتال والتقسيم والفرقة فيما بين العراقيين , وتقوم الكراهية والعداوة التي يتولد منها العنف عند أدنى درجات الاحتكاك بين الطرفين (5) .
عودا على ذي بدء : حولت الاجراءات التعسفية الطائفية الصدامية حياة الاغلبية العراقية الى جحيم لا يطاق , وكأن الحياة نفسها أصبحت عقابا لهم , فكل شيء كان يغضيهم , فهم اينما حلوا وذهبوا لا يسمعون الا العبارات المشحونة بالحقد الاعمى والضغينة الطائفية والعنصرية المقيتة والترهات والقذف والافتراءات من امعات الحكومة الصدامية واذنابها الطائفيين ؛ بل وصل الانحدار الاخلاقي والتخبط السياسي برأس النظام العفن آنذاك الى ان ينشر عدة مقالات طائفية وعنصرية في جريدة الثورة يهاجم فيها العراقيين الجنوبيين الاصلاء وينعتهم بأوصاف هم منها براء , وكما قال المثل : (( رمتني بدائها وانسلت )) ؛ وما عشت اراك الدهر عجبا , اذ صار الدخيل العميل يعير العراقي الاصيل ولعلي لا اجد ردا عليه وعلى امثاله من المنكوسين ابلغ من قول الشاعر :
سل مضجعيك يا ابن الزنا ... أأنت العراقي أم أنــــــــا ؟؟!!

الهوامش
.........................................................................
1- اليك بعض الامثلة على ذلك : رئيس الوزراء في العهد الملكي نوري السعيد ؛ اذ اختلف الكتاب في بيان حقيقة اصله فقيل عنه : كردي – شركسي – تركي ... الخ , وقد اعترفت حفيدته في احدى اللقاءات التلفزيونية انهم لا يمتلكون اي وثيقة رسمية تثبت كونهم عراقيين . وقد تولى المنصب نفسه اثنان اخران هما : ناجي شوكت من اصول عثمانية شركسية , وحكمت سليمان من جذور شيشانية . وقد تولى هذا المنصب ايضا ياسين الهاشمي وقيل هو من اصول داغستانية وقيل شركسية وقيل كردية وقد تلقب بالهاشمي تملقا للملك المستورد للعراق من الحجاز فيصل الهاشمي وللعلم تعد هذه الشخصية من اشد الساسة تعصبا وطائفية , وهو احد اقرباء السياسي المعاصر طارق الهاشمي ؛ ناهيك عن الدور السلبي الذي قام به السوري ساطع الحصري والسوري ميشيل عفلق في العراق .
2- من المعروف تاريخيا ان المحمرة هي امتداد للسهل الرسوبي الجنوبي العراقي – راجع معجم البلدان للحموي - ؛ وان قبيلة كعب من القبائل التي وجدت منذ القدم في هذه البقعة ؛ الا انها قد تم التنازل عنها كما تم التنازل عن الكثير من الاراضي العراقية من قبل حكومات الاحتلال والطائفية والعنصرية ؛ والاسباب معروفة انها الطائفية النتنة .
3- كالمجرم محمد حمزة الزبيدي وغيره من سقط المتاع .
4- كان الوافدون العرب كالفلسطينيين والمصريين ... لهم من الحقوق والحصانة والامتيازات ما يحلم به سائر العراقيين ؛ وما زلت اذكر - في صباي - ان احد اقربائي قد زارنا في احدى المرات ممتعضا وغاضبا من سلوك احد الضباط التكارتة المنكوسين الذي قال له بالحرف الواحد : (( ان مصريا واحدا يساوي خمسين جنوبي )) وكان يتحسر على تجرؤ هذا الراعي التكريتي الجبان الذي يتمترس بالسلطة امام عراقي اعزل ؛ بل وصل الامر بهذا النظام الحقير ان يوكل مهمة تعذيب العراقيين في بعض دهاليز الامن لبعض الجلادين الفلسطينيين .
5- وشهد شاهد من اهلها ؛ فقد شهد رئيس ديوان الرقابة المالية السابق المدعو دحام عبد الرشيد في لقائه مع الدكتور حميد عبدالله في برنامجه (( شهادات خاصة )) في قناة الفلوجة عام 2016 ؛ اذ قال ما معناه : (( ان التكارتة قد امروا او وصوا احمد حسن البكر وصدام حسين بأن يقربوا ابناء تكريت ويحتموا بهم ويوزعوا عليهم المناصب ؛ اذ كانت مناصب الجيش من حصة التكارتة والمصلاوة , ومناصب الشرطة من حصة اهل سامراء .. )) .