إن سير الأمور بوتيرة واحدة , وبقاء الحياة على صورة واحدة وهيئة فاردة ؛ يؤدي إلى الملل والسأم والضجر , فلو أصبحت حياة البشر حياة بلا موت , وصحة بلا مرض , وغنى بلا فقر , و سلام بلا خوف , وفرح بلا حزن .. ؛ لفقدت لذتها ومعناها وبهجتها ؛ وهذا بخلاف ما إذا تراوحت بين الحلو والمر , والجميل والقبيح , والترح والفرح , والسعادة والشقاوة , والفشل والنجاح .. ؛ فلا يمكن معرفة السلامة إلا بالوقوف على الخطر والعطب , ولا الصحة إلا بالاصابة المرضية , ولا العافية إلا عند نزول البلاء , ولا تدرك لذة الحلاوة إلا بتذوق المرارة .. .
فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشأن من التنوع والانتقال من حال إلى حال ومن تجربة إلى أخرى , ولأجل ذلك جعل الخالق الحكيم الوديان بقرب الجبال , والأشواك إلى جانب الورود , والزواحف جانب الطيور الجميلة , والثمار المرة جنب الحلوة الطيبة , والماء المالح الأجاج بقرب العذب الفرات , إلى غير ذلك من مظاهر التضاد والتباين والاختلاف التي تضفي على الطبيعة والحياة بهاء وجمالا وكمالا وجلالا .. .
وقد جاء في أحد الأمثال العالمية : (( أستفد حتى من مصائبك )) ؛ إذ ان البلايا والمصائب والمشاكل خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدم العلوم و رقي الحياة البشرية , ودفع المسيرة الإنسانية نحو الأمام , فها هم علماء الحضارة يصرحون بأن أكثر الحضارات لم تزدهر الا في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع في مواجهة الأعداء المهاجمين , أو إصلاح ما خربته الحروب من دمار وهلاك ؛ ففي مثل هذه الظروف تتحرك القابليات البشرية بجبران ما كسر , وتعويض ما فات , وتتميم ما نقص , وتهيئة ما يلزم .. ؛ وقد قيل : (( الحاجة أم الاختراع )) .
وبعبارة واضحة : إذا لم يتعرض الإنسان للمشاكل في حياته فان طاقاته ستبقى جامدة وخامدة لا تنمو ولا تتفتح , بل نمو تلك المواهب وخروج الطاقات والإبداعات البشرية من الإنسان إلى الواقع الخارجي ؛ رهن وقوع الإنسان في مهب المصائب والمشاكل والأزمات والشدائد والتحديات ؛ فهي تهيء أرضية صالحة للإنسان للخروج عن الكسل والجمود ؛ ولأجل ذلك , نرى أن الوالدين الذين يعمدان إلى إبعاد أولادهما عن الصعوبات الطبيعية والمشاكل الاعتيادية , لا يدفعان إلى المجتمع الا أطفالا ضعافا يهتزون لكل ريح كالنبتة الغضة أمام كل عاصفة .
وأما اللذان ينشئان أولادهما في أجواء الحياة المحفوفة بالمشاكل والصعاب الطبيعية فيدفعان إلى المجتمع أولادا أرسخ من الجبال الراسية في مهب العواصف العاتية ؛ وقد جاء عن حكيم العراق الامام علي ما يؤكد ذلك : ((ألا إن الشجرة البرية أصلب عودا , والروائع الخضرة أرق جلودا , والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا )) .
هكذا تكون الحياة سببا للموت , والموت سببا للحياة , والبلايا والمصائب دافعا لحركة ويقظة الإنسان من اجل تعمير الأرض .
الصعاب والمشاكل والأحداث المؤلمة لم ولن تنتهي من حياة البشر , ولقد أشار القران إلى ذلك : (( ولقد خلقنا الإنسان في كبد )) ؛ فطريق الحياة ليس سهلا دائما ولا معبدا بالورود دوما , ولا خاليا من الأشواك والاكدار والمنغصات , فلكي تحصل الشهد لابد من وخز النحل , وقد نسب للإمام علي :
يا طالب الصفو في الدنيا بلا كدر ......... طلبت معدومةٌٌ فإياس من الظفر
والإنسان الناجح الواعي يتخذ من الصعاب والتحديات وسيلة للانطلاق والنجاح , ويتخذها سلما للرقي إلى مدارج الكمال الروحي والعلمي , فهكذا هي طبيعة الحياة ولن تجد للقوانين الكون ونواميس الطبيعة تبديلا ... .
الكثير منا يعرف هذا الكلام , بل بعضنا له القدرة على تأليف المطولات في هذا الجانب , الا ان التنظير والواقع الاجتماعي شيءٌ والتطبيق شيءٌ آخر مختلف ..
كلنا متذمرون و دائمو الشكوى ؛ نتذمر من كل شيء , ونشتكي من كل أحد , اذ ان تذمرنا أبديٌ سرمديٌ ؛ فنحن تذمرنا من كل الحكومات تقريبا – بغض النظر عن سلبيات وايجابيات بعضها - ونقمنا على كل الظروف وبلا استثناء , وتذمرنا من الانواء الجوية , وانتفضنا ضد الحكومات الظالمة والعادلة على حد سواء احيانا ...!!
الوزير يتذمر , المدير يشتكي , العامل والفلاح والشرطي والجندي والكاسب ورجل الدين و و و .. كلهم يتذمرون ويشكون ؛ الفقير يشكو فقره فما بال الغني دائم الشكوى ؟ المريض يشتكي ألمه فما بال الصحيح المعافى يتأوه ؟!
الأرامل تشتكي من العوز والفقد ؛ الموظفات والمترفات و المتزوجات ما بالهن ؟!
ما من مجلس الا ويتذمر , ما من مدينة الا وتشتكي , ما من عشيرة الا وهي ناقمة , الكل ملئ الغيظ قلوبهم , وأعمى التذمر عيونهم , و سودت الشكاية وجوههم , في كل عهد هم معذبون , ومن كل فرصة سعادة جديدة هم مفلسون ..
صغيرا يطلب الكبرا ......................... وشيخ ود لو صغرا
وخال يشتهي عملا ......................... و ذو عمل به ضجرا
و رب المال في تعب ....................... وفي تعب من افتقرا
و ذو الأولاد مهموم ....................... وطالبهم قد انفطرا
ومن فقد الجمال شكى .................... وقد يشكو الذي بهرا
ويشقى المرء منهزما ..................... ولا يرتاح منتصرا
ويبغي المجد في لهف .................... فان يظفر به فترا
شكاة ما لهم حكم .......................... سوى الخصمين إن حضرا
اعتادوا الشكوى وأصبح التذمر لهم عادة حتى صاروا يتذمرون من النعم والأشياء الجميلة والأمور العظيمة والفرص الذهبية ..!
أمرنا عجيب – البعض - اذ في استطاعتنا بث الشكوى والصراخ بأعلى أصواتنا متذمرين من الوضع الكذائي والحاكم الفلاني ونقد الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. والبقاء على هذه الحالة – حالة التذمر – عقودا من الزمن وأياما طويلة ؛ من دون ان نحرك ساكنا أو نوقف متحركا , كأننا لا نحسن الا التذمر والكلام أما المبادرة وصنع الأحداث الجسام والأفعال العظيمة فهذا أمرٌ صعب علينا فرفضناه !
الأفراد الأصحاء العقلاء الواعون أفعالهم أكثر من أقوالهم , والشعوب المتحضرة وقتها كله مكرس للعمل والإبداع والإنتاج والتغيير والتطوير ؛ اذ لا وقت لديها تضيعه في التذمر والشكوى والقيل والقال ... .
الموظف في العراق يتذمر من أسئلة المواطنين المراجعين , ومن كثرة زيارات المسؤولين والمفتشين وعندما يحال على التقاعد أو يفصل من الوظيفة يبدأ بالشكوى والتذمر ؛ فموظفنا الفاشل – مع احترامنا للموظف النزيه الناجح - يقضي معظم وقته الثمين في الشكوى والتذمر والقيل والقال ؛ اما مصلحة البلد ومعاملات المواطنين فإلى الجحيم ...
رجل الدين عندنا يشكو من الناس الذين افترسوا وقته , واستنفدوا طاقته , وألحوا في الطلب , ما بين سائل ومعجب , وصديق ومريد وقريب , هذا جاء لخيرة , وذاك لمسألة فقهية , وثالث لنصيحة , ورابع لإجراء عقد الزواج .. ؛ حتى اذا هدأت عنه الرجل وخف الزحام وتفرق عنه الناس ؛ بدا عليه القلق والضيق والتبرم وصار يتذمر ويشكو جور الزمان وفساد الأخوان وخراب الدين و ارتداد الناس عن ملة الإسلام وخروجهم من ربقة الايمان .. !! .
نتذمر من جور الظلمة وفساد المسؤولين , ولا نعمل بجد وحزم على استئصالهم وإبعادهم عن إدارة شؤون الوطن والمواطن ومن وراءهم المستعمر الغاشم والمحتل الظالم ..
نتذمر من حر الصيف ونحن نعلم ان الشتاء يأتي بعده , فعلام التذمر من أمر طبيعي ...؟!
نتذمر من الوساخة وانتشار القمامة , و باستطاعتنا إزالتها وتنظيف مدننا بقليل من العزم والعمل فقط ...
لا تتذمروا فالدنيا لا تصغي للمتذمرين ولا تسمع شكوى العاطلين , الحياة تعطي ثمارها والطبيعة تعطي خياراتها للعاملين المجدين ...
لا تتذمروا من المصائب والمشاكل ؛ اذ ان المشكلة يأتي حلها معها فقط تأمل قليلا , حيث ان مع العسر يسرا ومع الشدة فرج ومع الحزن فرح ؛ هكذا هو حال الحياة فعش متفائلا نشطا عاملا متكيفا مع ظروف الطبيعة والحياة , فالحياة صعبة وقاسية وتافهة مع التذمر والشكوى واليأس والقنوط والكسل والثرثرة ... .
السعادة تكمن في التكيف مع علاتنا وسلبياتنا ونقاط القوة فينا , والاستمتاع بالموجود من متع الحياة حتى لو كانت بسيطة , وتسخير المصائب والمشاكل لصالحنا , والتمتع بجمال الطبيعة وملذات الحياة , ركز على الأشياء التي انعم الله بها عليك وحاول الاستفادة منها والتمتع بها , ولا تنظر الى أملاك الآخرين وأشيائهم فتعيش العمر حسرات وتذمر وآهات ... .
ومن النتائج المترتبة على التذمر وكثرة الشكوى – على سبيل المثال وليس الحصر - :
1- توصلت دراسة حديثة إلى ان التذمر أو الانزعاج من الشريك و و .. يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بالذبحة الصدرية وهو ما يعتبر مقدمة لمرض الشريان التاجي , وكانت دراسات بحثية سابقة أشارت الى ان الحياة الهادئة والعلاقات الاجتماعية الناجحة تمثل دعما لصحة القلب .
2- الناس تنفر من الأشخاص المتذمرين ومن الشعب المتذمر, وتكره عشرتهم وتتجنب مخالطتهم ؛ فهم يسببون الضيق والحرج والتعاسة لغيرهم .
3- كثرة التذمر والشكوى يضر بسمعتنا الدولية ويخدش هويتنا الوطنية .
4- التذمر يؤدي إلى تحطيم العلاقات الزوجية وتخريب العلاقات الاجتماعية العامة ويزيد حدة الخلافات فهو فايروس ينخر في جسد الأسرة والجماعة والمجتمع , وطالما تسلل الأعداء إلى وطننا عن طريق شكوى المتذمرين .
5- الإدمان على التذمر يضعف الإرادة عن العمل والتغيير , ويشوه معالم الشخصية , ويزعزع الاتزان والاستقرار النفسي .
نعم للتذمر أسباب ومنها :
1- سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. .
2- سوء الأوضاع الصحية , خصوصا الأمراض النفسية التي يتعرض له المواطن وتبقى من غير علاج .
3- الضغوطات والمضايقات الكثيرة التي قد تفوق طاقة الفرد .
4- سوء الأحوال البيئية , اذ ان البيئة الجميلة لها قدرة فعالة وعظيمة على امتصاص الشحنات السلبية من البشر .
5- القيود والأغلال الكثيرة التي تعترض طريق البشر وتمنعهم من التقدم والنجاح في الحياة .
6- التربية السيئة والتعليم السيئ ؛قد تنتج سلوكا مرضيا كالتذمر .
7- الحسد , والنظر إلى أملاك وامتيازات الآخرين بامتعاض وحنق وحقد , فالبعض يريد ان يعامل كما يعامل الآخرين , ويرزق كما يرزق الآخرين , بغض النظر عن الاستحقاق , والظروف .. !
8- الشخصية العراقية وقعت أسيرة تحت تأثير عوامل الإحباط والفشل والانتكاسات التاريخية المتلاحقة والمستمرة , الذي سببته ظروف متعددة ومعقدة , مضافا للتناقض الحاصل بين الأقوال والأفعال , وبين مثالية المعتقدات وقسوة الواقع ؛ مما أفقدها القدرة على تحقيق التوازن بين الشكل والمضمون في سلوكها اليومي العام , فوقعت في الازدواجية بين عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها وظروف الحروب والجور والمظالم والحرمان... .
وهذه بعض الحلول المقترحة لهذه الظاهرة السلبية المدمرة :
1- تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
2- الارتقاء بالمستوى الصحي العام , وتوفير عيادات الطب النفسي والطب النفسي الإرشادي .
3- تحسين الظروف البيئية والاعتناء بالطبيعة , وإنشاء المتنزهات والحدائق الكبيرة العامة , ومدن الألعاب الكبرى , وإنشاء النوادي والساحات الرياضية الواسعة .
4- الارتقاء بالمستوى التربوي والتعليمي للامة العراقية النبيلة , وتوفير كافة المستلزمات وتهيئة البنى التحتية للنهوض بالواقع التربوي والتعليمي والعلمي والحضاري .
5- توفير كافة وسائل الراحة والتسلية والاستجمام , خصوصا السياحة والسفر الى الدول المتحضرة وذات الطبيعة الخلابة .
واخيرا : عندما تشعر برغبة عارمة في التذمر ؛ توقف وفكر قليلا , هل التذمر سوف يحل المشاكل وينهي الأزمات , هل سيغير الظروف ويبدل الأحوال , ان كان التذمر يحل الأمور المعقدة والشكوى تغير الظروف نحو الأحسن ؛ فتذمر وتذمر واشتكي واصرخ حتى الصباح , اما اذا كان يزيد الأمور تعقيدا وينفر الناس منك ؛ فعلام تتذمر ولمن تشتكي ؟
التذمر عملية سلبية تملأك مرارة وتهدم كيانك من الداخل , قاوم رغبتك في التذمر واخرج من بؤرة الشكاية السوداء , وتعلم التفكير بهدوء والكلام بروية , واعمل فالعمل مفتاح النجاح .. ؛ وتذكر دائما نحن ابناء أمة عظيمة وقوية صنعت الحياة وعلمت البشرية القراءة والكتابة ؛ فلا تليق بنا العادات السلبية كالضعف والانكسار والشكاية .
وبما ان صلاح الامة العراقية قائم على صلاح ابنائها العراقيين , اذ ان امراض المواطنين تنعكس سلبا على الوطن , فالفرد المريض والمنكسر والذي لا يعمل على علاج نفسه وتطوير حاله يؤثر تأثيرا سلبيا وبالغ الخطورة على وطنه وامته ؛ فكل ما نرى في الوطن من ضعف وجهل وتخلف وانعدام للامن والامان ... يتحمل جزءا كبيرا منه المواطن , اذ يتوقف مصير كل أمة على ابنائها .
نعم إن المواطن الذليل والفرد المنكسر لا يمكنه ان يمثل أمة حرة لأنه يذلها ويشوه سمعتها وصورتها امام الاخرين , فإصلاح الأمة يبدأ من اصلاح المواطن لنفسه اولا ؛ فالأمة اشبه بالسلسلة، والأفراد كالحلقات ، ولا وجود لسلسلة من ذهب بحلقات من خشب!!