الكلام وسيلة للتعبير عما يجيش في صدر الإنسان من جهة , وللارتباط مع الآخرين والتواصل الاجتماعي معهم من جهة أخرى .
ومن الطبيعي أن التعبير عن المشاعر والاحاسيس والافكار وسماع آراء الآخرين يفتح الأبواب الكثيرة أمام المتحاورين لإيجاد وتكوين علاقات متنوعة في ما بينهم .
وعندما يُوظف اللسان للتعبير عن المشاعر الطيبة والحقائق بشكل مهذب وصحيح ؛ تُبنى العلاقات الاجتماعية عند ذاك على الإخلاص والصدق والتعاون والمحبة والالفة , أما إذا اتُخذ اللسان وسيلة للقيل والقال والنميمة والهمز واللمز واغتياب الناس والانتقاص منهم والاستهزاء بهم ؛ فمن الواضح عندها صيرورة العلاقات الاجتماعية إلى بؤرة من التوتر وحالة من الصراع والتنافر , اذ تسود الخلافات والخصومات وسوء الظن بين أفراد المجتمع الواحد .
فهذا اللسان إذا استخدم بصورة حضارية حقق المكاسب العظيمة , ولكن إذا كانت مطيته الألفاظ الجارحة والكلمات القاسية والعبارات المقززة أردى الإنسان في المشاكل والمهالك , وخرب العلاقات العامة , ودمر الوشائج الاجتماعية .
فما ينطق به اللسان يكشف عن مستوى ثقافة الإنسان , وأن شخصية كل فرد تكمن في قوله وسلوكه , وأن ما يجري على اللسان إنما هو انعكاس لما في القلب والعقل ؛ اذ يمكن قياس مدى رجاحة عقل أي شخص من خلال ما ينطق به من الكلام , لذا ورد عن حكيم العراق الإمام علي (ع) ما يؤكد ذلك : (( كلام الرجل ميزان عقله )) ؛ فالمتكلم العاقل يضع الكلام المناسب في المكان المناسب , ويفكر في الموضوع أولا ثم يتفوه باللفظ لاحقا .
وقد حذرت كافة الشرائع السماوية والفلسفات البشرية من الاستخفاف بأهمية الكلام وبينت الآثار التي تترتب عليه , فها هي الآيات القرآنية تؤكد على ان الأقوال تسجل في صحيفة الإنسان مثلما تسجل الأعمال , ولابد يوما من أن يُسأل عنها الإنسان : ((** ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ** )) كما حث القران اتباعه في آيات كثيرة على حسن الكلام مع الناس واجتناب الكلام الجارح والكلمات اللاذعة والمؤلمة ؛ لأن هذه الأساليب عتيقة وهمجية ومن حيل الشيطان التي يتبعها لإثارة البغضاء والعداوة بين الناس , وتكدير صفو المحبة والاخاء والتعايش السلمي بين بني البشر .. .
وأيضا حث الاسلام بصورته الحضارية ونسخته العراقية على هذا الخلق الرفيع ؛ فقد جاء في التراث : (( الكلمة الطيبة صدقة )) , واعتبر الإمام علي لين الكلام ضربا من العبادة حيث قال : (( ان من العبادة لين الكلام ... )) .
ومع كل هذا التراث المجيد الزاخر بالحكم والمقولات الراقية التي توصي الناس بصون اللسان عن الخطل والخطأ والفحش والسباب , واحترام الكلمة ؛ انتشرت هذه الظاهرة السلبية في مجتمعنا بسبب سيادة ثقافة الخط المنكوس ؛ فأينما تتوجه وحيثما تذهب ؛ تسمع الكلمات الجارحة , كأنك تعيش وسط قبائل وحشية من القرون المنصرمة , الموظف , المسؤول , العامل , العاطل , الكاسب , المثقف , الرجل , المرأة , الطفل , الشاب , الشيخ , رجل الدين... !!
كلهم يتفوهون بالكلام الجارح واللاذع .. تعددت الأسباب والكلام الجارح هو السائد فيما بيننا .
فالمتكلم السيئ يذكر الإنسان بما يغمه ويحزنه , اذ يتفوه بما يستنقص منه , او يقوم بتوبيخه , اويذكر أمورا لا تروق للسامع حتى يكدر الاجواء ويوتر العلاقات .. .
الكلام الجارح والبذيء من المؤشرات التي تدل على ما يعانيه المتكلم السيئ من مرض واضطراب نفسي ؛ فالشخص البذيء الذي يقرع بكلامه الآخرين ويؤذيهم انما يشعر بنقصه ويريد تداركه بهذه التصرفات الشاذة .
وبطبيعة الحال أن الكلام الجارح والمؤذي لا يصدر من جميع الأشخاص من منطلق واحد ؛ فالبعض قد يتكلم بسوء عن حقد وبقصد استصغار الآخرين والحط من قيمتهم الشخصية و وجاهتهم الاجتماعية , بينما يتفوه البعض الاخر بهذه الكلمات الهابطة بسبب الغفلة والجهل بالعواقب المترتبة على الكلام الجارح , وهناك من يدركون طبيعة الخطأ الفظيع الذي يرتكبونه , ولكنهم يحاولون بتبريرات واهية أن يُحلوا لأنفسهم ما حرمه الله ونبذه البشر الأصحاء ؛ لذلك فهم يرتكبون بدل الخطأ الواحد عدة أخطاء ؛ فقد يقولون – مثلا - : (( هذا يستأهل اكثر من هذا الحجي , لان يعمل وي الجهة الفلانية )) او(( هذا احن نحجي عليه لان مو خوش انسان )) او (( هذا من الطائفة الفلانية او المنطقة الكذائية )) ؛ فهؤلاء يذمون الناس ثم يتذرعون بمسوغات واعذار واهية تضفي الشرعية على افعالهم المنكرة ... .
الكلام الجارح يستبيح وحدة النسيج الأسري والاجتماعي , ويغرس في القلوب الحقد والعداء والنفور والتدابر , ويقطع الطريق أمام السعادة الاجتماعية والوئام والتعايش السلمي و المدني ؛ لأنه يهدر كرامة الإنسان ويشوه سمعته , والجروح ممكن أن تندمل الا جرح الكرامة اذ انه يبقى عصيٌ على الشفاء .
نعم هنالك حالة استثنائية تبرر تلك الظاهرة الا وهي نقد الظالمين وفضح جرائر المجرمين وكشف عورة الجلادين وتسليط الاضواء على مخططات ومؤامرات المنكوسين .
الآثار المترتبة على الكلام الجارح :
1- يؤدي إلى القطيعة والتنافر والتقاتل بين أبناء المجتمع الواحد ؛ فالكثير من الجرائم والجنايات التي حدثت في مجتمعنا ؛ كان منشأها الكلام الجارح .
2- يشوه العلاقات الاجتماعية ؛ بحيث تسود الحالة السلبية المقيتة .
3- يقضي على السعادة والاستقرار الشخصي والاجتماعي .
4- أكدت الأبحاث العلمية الواردة من الدنمارك ؛ ضرر الكلام الجارح والتوبيخ الكلامي , فهو لا يقل ضررا عن الضرب والعنف , لأنه يحدث نفس الآثار التي يحدثها الضرب في نفسية الطفل .
5- أكدت دراسات علمية ضرر الكلام الجارح ؛ أذ ان احترام الذات يتضرر كثيرا عند التعرض للكلام المؤذي والمؤلم والقاسي , ويشعر المراهقين والأطفال بأنهم عديمو القيمة ؛ لذا تنصح هذه الدراسات الآباء والأمهات الذين يرغبون في إقامة علاقات ودية و قوية مع أبنائهم ألا يكثروا من تعنيفهم و توبيخهم , اذ ان الاستمرار بالتوبيخ واستخدام الألفاظ المغلظة يساهم في إثارة الألم النفسي , مما يؤدي إلى شعور المراهق والطفل بالتدني .
6- الكلام الجارح يترك آثارا سيئة في النفس البشرية , ويجرح مشاعر الناس.
أسباب الكلام الجارح :
1- يعيش صاحب الكلام الجارح حالة نفسية يشعر فيها بالأفضلية والرجحان والمزية على غيره – كأن يكون مسؤولا كبيرا أو ضابطا برتبة عالية .. - ؛ مما يجعله ينظر إلى الناس نظرة استخفاف وازدراء , فهذه الحالة تبعث على مخاطبة الآخرين بكلام سيء ؛ ولعل حكام وموظفو الدولة العراقية التي تأسست عام 1920 الى سقوط الصنم 203 من الفئة الهجينة اكبر مصداق لما قلناه انفا .. .
2- من دواعي التفوه بالكلام الجارح ؛ المرض النفسي ,اذ أن الأمراض النفسية إذا لم تُعالج وتُضبط في حدودها ؛ تؤدي بالمرء إلى الحقد والانتقام والتنازع واللجاجة وسوء المنطق وبذاءة اللسان .. .
3- التعود على الكلام الجارح والقول المؤذي ؛ لان العادات مستحكمات في النفس البشرية – ( كما جاء المثل العامي : ابو طبع ما ايغير طبعه )) - .
4- الهياج العاطفي والانفعال النفسي والمزاج العصبي ؛ كلها تؤدي بالمرء الى التفوه بالكلام الجارح .
الحلول المقترحة :
1- إشغال أنفسنا بقراءة الكتب , و ممارسة الهوايات النافعة , والاستماع إلى الكلمات الجميلة المهذبة , والتعود عليها , وإشغال مجالسنا بالمسابقات العلمية المفيدة , والمناقشات الفكرية النافعة التي تدعو لاحترام حقوق الإنسان وحفظ كرامته .
2- مراجعة العيادات النفسية لعلاج الأمراض النفسية , كي نعيش الاستقرار ونحصل على التوازن النفسي ونهجر الكلام السيئ .
3- تجنب سوء الظن بالناس , ومحاولة تفهم ظروفهم قبل التهجم عليهم .
4- الابتعاد عن الأشخاص الذين يتفوهون بالكلمات النابية والألفاظ المؤذية , وترك مخالطتهم ؛ لان بذاءة اللسان تنتقل كالعدوى , كما يقول المثل العربي : ( الصاحب ساحب ) .
عزيزي أن من البيان لسحر , كن مثل خلية النحل مليئة بالشهد والكل يعشقها ويشتهيها ؛ فالكلام الطيب والجميل والمنمق تعشقه النفوس وترنو إليه الأرواح , أما صاحب الكلام الجارح ؛ منبوذ ومكروه والكل تنفر منه ولا تحب مجالسته , اذ أن النفوس البشرية مجبولة على حب الجمال وبغض القبح , فلا تكن قبيحا , ولا تكن إناء ينضح بالألفاظ البذيئة والكلمات الجارحة .
أتعلم أن الكثير من الوفيات والخصومات والأمراض والانتكاسات والصدمات حدثت بسبب اللسان القذر والكلام الجارح ؟؟
لماذا تجعل من لسانك وسيلة لكل هذه المآسي ؟!
تستطيع أن تخلق لك ألف صديق ومعجب عن طريق المنطق المهذب والكلام الحلو الجميل والألفاظ الراقية , وكذا تستطيع الابتلاء بألف عدو وحاقد بسبب لسانك البذيء وكلامك الجارح !
أي الطريقين سوف تختار ؟؟ الأمر موكول إليك ...
ظاهرة الكلام الجارح في مجتمعنا
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين