كانت طفولتي قاسية ولم تترك في مخيلتي غير الصور المؤلمة التي يتعذر علي محوها أو نسيانها ؛ انني لأذكرها الآن وأنا في عقدي الخامس , فتكويني بنارها وتلفحني الحسرة ويحتويني الألم ؛ اذ جاء صاحب الملك الى أبي وأخبره بضرورة إخلاء الشقة التي كنا نسكن فيها فورا وبلا تأخير ..
احتار أبي في أمره وضاقت عليه الدنيا بما رحبت , وأجهشت أمي بالبكاء , وعلا الوجوم وجوه أخوتي وأخواتي ..
بدأ الكل بنقل الأثاث والحاجيات من الشقة الى الشارع العام لاستئجار سيارة نقل .. وانا أوكلوا لي مهمة تغذية وإسكات أخي الرضيع , وبما ان صاحب الشقة قد وقف على رؤوسنا ولم يبرح مكانه وهو ينظر الينا كيف نخلي الشقة .. لم أجد مكان يرتاح فيه الرضيع ويهدأ غير سلالم العمارة فقعدت عليها و أجلسته في حضني و في فمه (( الممه )) ..
أخي الرضيع أخذ النوم منه مأخذه وانا سرحت في هذا المنظر الرهيب الذي تعيشه عائلتي , كأنها وحدة عسكرية تقهقرت امام ضربات الاعداء فأنهزمت لا تلوي على شيء ..
ان الأقدار تفننت في ايذاء عائلتي وخصوصا أبي الذي قضى عمره متنقلا من دار الى دار ومن شقة الى أخرى .. وعندما حضرته المنية , جئنا بالشيخ كي يلقنه العديلة , الا ان أبي لم يأبه بها ! وأخر كلمة تفوه بها : أدفعوا الايجار !!
كنت انظر الى أصحاب الدور كأن على رؤوسهم تيجان من العز لا يبصرها الا المؤجرون !!
حتى الطيور تؤوي مساءا الى أوكارها الآمنة المستقرة الا انا وامثالي من البؤساء ؛ لعلنا لسنا من فصيلة المخلوقات ..!!
علاقة الزمان بالمكان جوهرية وكذلك علاقة المكان بالانسان ؛ فمن الصعب تصور انسان بلا بيت ولا مكان يؤيه , وان حدث ذلك له فهذا يعني انه ادنى مرتبة من طيور البراري و وحوش البرية , وهل يستطيع الانسان العيش بلا مكان ولا زمان ؟ !
الى متى ابقى كالمهجر أنتقل من مكان الى مكان ..؟
والى متى ابقى كالمقامر أخسر رهانا تلو رهان ..؟
لم اعد اتحمل استفزازات صاحب الدار , وحقارة ونذالة ( ابو الملك ) الذي طالما فتح باب الدار بلا استئذان كأننا عبيدٌ ونسائنا اماءٌ ..
انا عطشان ولا يرويني الا ماء السكن , انا ظمأن و لا أشرب الا من ماء الوطن ..
اصبحت ارى اصحاب الاملاك والدور والشقق كأنهم سجانين او جباة ضرائب .. يلعبون بنا كما يلعب القدر بالبشر , يمتصون دمائنا كالبعوض , تكبر كروشهم على حساب عظامنا , يضحكون ومادة ضحكهم آلامنا !!
هم لا يرحمون ضعف النساء ولا براءة الاطفال ولا مسكنة الكبار.. لاسيما في مجتمعنا الذي يفتقر لابسط قوانين العدالة الاجتماعية ..!!
حقا المؤجر كالمهجر , وكالمقامر , وفوق كل هذا هو متهم حتى يملك عقار ..!!
كلما حدث أمر سيء أو وقعت جريمة سرقة ؛ انبرى أهل الحي باتهام المؤجر فلان ؛ كأن اهل الدور منزهون من كل عيب ومبرئون من كل خطأ , فالقاعدة عندهم : (( المؤجر متهم حتى تثبت برائته )) .
المؤجر يُريد التحرير ولكن ليس من الاحتلال بل من ربقة الإيجار, هو يُريد الثورة ولكن ليس على الاستعمار انما على صاحب الدار ..!!
بعض المؤجرين تقمصوا سلوكيات الجرذان فهم ينتقلون من حفرة الى اخرى ؛ اذ كلما حلوا في حفرة خربوها ثم طردوا منها الى اخرى وهكذا دواليك ؛ فحياتهمُ عبارة عن : سلسلة خرابات ومجموعة انتكاسات ..
والذي يُزيد النار سعيرا, والطين بلة ؛ حكم المجتمع القاسي على الانسان بالفشل في حال تلبسهُ بالإيجار وحرمانهُ من نعمة الدار؛ فطالما سمعنا هذه العبارة : (( خطيه ذولي ايجار , نزل )) !!
أحتار اصدقائي في أمر تعزيتي عندما توفت زوجتي .. الى اين يذهبون , وكيف يلتقون بي .. فأنا لا أملك مكانا معينا وأعيش بلا عنوانا ثابتا .. فانا شبه مواطن او نصف انسان ؛ واجزم صادقا ان نصف المواطنة والانسانية الاخر لا يكتمل الا بالسكن الامن .
رحلتي في غياهب الإيجارات
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين