تلعب البيئة الاجتماعية دورا مهما واساسيا في تكوين وبلورة شخصية الفرد، وبما ان المجتمعات المأزومة تنتج افرازات سلبية وبديمومة مستمرة ومتشابكة ؛ بل وتغلف تلك الافرازات والانحرافات السلوكية احيانا بالحجج الدينية والمبررات الاخلاقية والشواهد العرفية وتجملها بشتى الادعاءات الطوباوية والميتافيزيقية ...!!
ولذا تتشكل الشخصيات تبعا لثقافة المجتمعات وتتأثر بإفرازاتها , ومن ابرز الامراض الاجتماعية والنفسية التي اصيب بها مجتمعنا :( الشماتة ) : وتعني الفرح بمعاناة الآخرين أو فشلهم أو إذلالهم ؛ فهي : إحساس مركب مكون من فرح وحزن ، فعندما نبتهج على أذية تصيب الآخرين او نشعر بإحساس مريح ، او نحزن لرخائهم ونجاحهم او نصاب بالدهشة والغيرة والالم النفسي فهذه هي الشماتة , وتشتمل على التطفل والفضول والحسد- فالحسد والشماتة، صفتان متلازمتان ؛ والحاسد إذا رأى نعمة بُهت، وإذا رأى عثرة شمت - والحقد والانانية واللؤم ايضا .
إن المحافظات و التجمعات السكانية العراقية ترزح تحت كم من الأمراض الاجتماعية التي كانت المسبب الأكبر في تدني حالتها وتدهور اوضاعها وتفتت قوتها ، فالمجتمع كيان حيٌّ يصحُّ ويقوى، يمرض ويضعف , وقد يهوى ويموت، وإن الأمراض الاجتماعية أشدُّ خطورة من الأمراض الصحيّة، لأن الأمراض الصحية غالباً أعراضها واضحة وكذلك علاجاتها وأكثرها لا ينتشر بالعدوى بينما المجتمع المريض يضغط بقوة على الاصحاء والاسوياء – من ابناءه - كيما يصابوا بنفس الامراض ويبتلوا بذات السلوكيات الهابطة ؛ بل ولا يعترف - المجتمع المريض - اصلا بتلك الامراض بل ينظر لها على كونها حالات طبيعية لا تستدعي القلق ولا تتطلب العلاج .
وإنَّ خُلُق الشماتة يقوم في النَّفس حين تخلو مِن المودَّة والحبِّ والعطف، وتمتلئ بالكراهية والحقد والبغض، فإنَّ الإنسان السوي يتألَّم لألم الغير لاسيما إذا كان يحبُّ هذا الغير، ويودُّ الخير له، أمَّا إذا مقته وأبغضه , او جهله واستهان به ، فإنَّه يفرح لحزنه، ويَشْمَت في مصيبته ؛ ومن هذا المعيار تستطيع معرفة وكشف حقيقة مشاعر الاصدقاء والاصحاب والاقرباء وزملاء العمل والدراسة تجاهك , فلو اصبت بمصيبة ما كأن يسرق مالك او يسجن اخاك او يقتل ابنك او تخسر في تجارتك او تفشل في دراستك ... الخ ؛ ورأيت الفرحة والابتسامة الخبيثة بادية على وجوه معارفك واصدقاءك فأعلم انهم من الشامتين وان ادعو الصداقة والمرؤة والاخوة والغيرة والوفاء ؛ فالأفعال دائما ابلغ من الاقوال , وصدق ما تراه وانسى ما تسمعه , ولا تغتر بطول العشرة والصحبة .
كان الناسُ، فكانوا معادن، يلمع منهم كلُّ شريفِ الأصل كريمِ المحتد نقيِّ المعدن، يتباينون كما تتباين المعادن، منهم النفيس ومنهم الخسيس، ثم كل معدن من نفس النوع يتفاوت ، فمنه الخالص والمشوب والمغشوش والمخلوط بغيره ؛ وحيثما كان ذو المعدن النفيس الخالص فإنك ترى لمعانه ، ولا يخفى عليك بريقُه ؛ والمعدن الخسيس الرخيص ، لن يخفى عليك كذلك، ولن تخطئَ عينُك شوائبَه ، فإن خفيَت على عينيك لمحتَها بوضوحٍ بعين بصيرتك وقلبك ؛ ومن هنا تتشاكل الأرواح ، تتعارف أو تتناكر، فمؤتلفة أو مختلفة – كما يقول اهل العرفان - .
ولا تعجب اذا برز معدنُ السوء في أحد اصدقاءك وبانت حقيقتيه وانكشفت سريرته وان ادعى غير ذلك ؛ فالنفس البشرية عبارة عن منظومة معقّدة للغاية من المشاعر والأحاسيس والأفكار .. ؛ اذ قد يتوهم احدهم الفضيلة والوفاء والاخلاص والخير والايثار والمودة في نفسه ؛ وهو خالي الوفاض من المكارم والاخلاق الحميدة وهو لا يشعر بذلك او يتجاهل ذلك بصورة لا واعية ؛ هروبا من تأنيب الضمير ... ؛وجاء في المثل الشعبي الجنوبي العراقي ما يؤكد ذلك : (( العدو ينشد اكثر من الصديق )) فلا يغرنك سؤال البعض عنك وتتبعهم لخطواتك وتطفلهم على حياتك فهذا ليس من باب الحب والمودة والصداقة كما يدعون بقدر ما هو ناتج عن الحسد والحقد والتطفل والغيرة والمنافسة ... ومن المعلوم ان الذي يحسدك ويشمت بك ويحقد عليك هو من دائرة معارفك واصدقاءك واقرباءك وزملاءك ؛ اذ ان الغريب والبعيد لا يعرفك اصلا ؛ لذلك لا يأبه بك .
وكما قيل : «الطبع غَلَّاب» و«الطبع يغلب التطبع» , وقد «اتفقت العرب والعجم على قولهم: الطبع أمْلَكُ» وقد صدقوا.
ما تزال نفوسُ الناس تغلبهم بما ارتكز في أصل معدنهم، وإن ردموا فوقَها بظواهر الأخلاق والطباع .
وكما قال الشاعر :
كلُّ امرِىٍء رَاجعٌ يَوْمًا لِشيمَته ....... وإِنْ تَخَالَقَ أَخْلاَقاً إِلى حِينِ
والتطبع هو استعمال غير ما في طبعك ، وما يخالف أصل معدنك، وما لا تفعله إلا بتكلف , والشواهدُ تفضح ذلك التكلف ، تفضحه فلتات اللسان وصفحات الوجوه وما يندّ من أفعال عند الشدائد , وما يصدر من اقوال عند المزاح ، فـ «الأخلاق غرائز كامنة» .
وكلما تكلَّف المرء أن يبدو على غير أصله ؛ نزعَه العِرق. كما قيل: «المَرْء يَصْنع نفْسه فمتى ما تبلُهُ ينْزع إلى العِرْق» أي (عِرق) أصله ومعدنه ، وانكشفَ ما يدّعيه مما هو فيه، وعند الشدائد تظهر كمائنُ القلوب وخفايا النفوس ، و « من تحلى شيمةً ليست له، فارقته وأقامت شيمه» ؛ وأسرعُ ذاهبٍ عنك حينها : ما تكلَّفْتَه ضدَّ طبعك ؛ كما قال الشاعر أبو الطيب المتنبي :
وَأَسرَعُ مَفعولٍ فعَلتَ تغَيُّرًا ...... تَكَلُّفُ شَيءٍ في طِباعِكَ ضِدُّهُ
فالمعدن الرديء يرفضه كل ذي ذوقٍ سليم ومعدنٍ نبيل ؛ لذا فإن أشراف الناس في جاهليتهم، أشرافُهم بعد استقامتهم إذا فقهوا – كما قالوا قديما - ؛ إذا علمنا أن الناس معادن؛ علمنا أنها مُتَجَذِّرةٌ في النفوس، فإذا ترسخ في المرء لُؤمٌ ونذالةٌ وترسَّخ في أصل معدنه الغدر؛ فَقَلَّما يبرأ من دائه وإن كانت لك عليه الأيادي البيضاء بحسن صنيعك ووافر حقك وصدق مودتك ... .
اما كريم المحتد نفيس المعدن، فأصيلٌ لا تشوبه شوائب اللؤم، ويذكر صنائعَ المعروف وأيامَ الصفاء، فلا تطاوعه نفسُه على الغدر أو اللؤم او الحسد او الشماتة ، بل لا تطاوعه نفسه على رد سيئةٍ بسيئةٍ لمن كان بينه وبينهم يومًا ولو طيفٌ من الودّ .
واقرأ بقلبك أبيات ذلك الشريف الذي أبت نفسُه عليه الانتقامَ من خلٍّ قديمٍ ، وإن خانه وعَقَّه :
إِذا خانَني خِلٌّ قديمٌ وَعَقَّني ...... وَفَوَّقتُ يومًا في مَقاتِلِهِ سَهمِي
تَعرَّضَ طيفُ الوُدِّ بيني وَبَينَهُ...... فَكسَّرَ سَهمي فانثَنَيتُ وَلم أَرمِي
فما أسوأ الذين يتدثرون برداء الصداقة والصحبة والقرابة والزمالة والجورة وفي باطنهم أخس المعادن واقبح الصفات , وتعتمل في صدورهم المريضة مشاعر الحسد والحقد والشماتة ، فلا هم أصلحوا أنفسهم بما يزعمون من اخلاق وقيم وتخلصوا من عقدهم النفسية ، ولا هم تركوا الصديق – بحاله - سالمًا من حسدهم وحقدهم وشماتتهم وهمزهم ولمزهم ، فأساءوا من حيث أرادوا الإحسان كما يدعون ، وصاروا معاول هدمٍ يحسبون أنهم يهدمون الجفاء ، وما هدموا إلا لَبِناتٍ من جدار الاخوة و الوفاء ؛ فصاروا عبئًا على الصداقة و الصدق ووبالًا على أهله .
وهذا مرض اجتماعي متأصل في بعض النفوس المريضة نتيجة لأصابتها بالغرور والانانية والحسد والحقد والحقارة ؛ والمرء يقبل التقويم والنقد البناء ولا يقبل التعيير؛ لأن في الأول نصيحة وفي الثاني شماتة وفضيحة .
و الشماتة من الأخلاق السيئة وتتمثل : في إظهار الفرح والسرور بما في الآخرين من عيوب ، أو بما ينزل بهم من مصائب وأحزان ، سواء بالقول أو الفعل أو الإشارة – كما اسلفنا - ، فالشماتة عادة قبيحة مستهجنة، تتنافى مع مبادئ الإخوة والمحبة والانسانية والاديان .
ولصعوبة تحمل هذا السلوك الشائن، ورد في كتاب القرآن طلب النبي هارون من أخيه النبي موسى ألا يتيح فرصة للأعداء ليشمتوا به ، اذ جاء في الآية (150) من سورة الاعراف : (( قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء)) ؛ وكان من مأثور دعاء النبي محمد : "ولا تشمت بي عدوا ولا حاسدا".
فالشماتة تنم عادة عن احتقار للمقابل او حقد او حسد ، وهو أمر لا تقبله النفس البشرية ؛ و غالباً ما تقترن بها مظاهر كريهة من السخرية والهمز واللمز وألوان الاستهزاء قولاً وفعلاً وإشارة , و إن كان هناك ثمة خُلُقاً ذميماً ، وسلوكاً شائناً، يدل على نفس غير سوية ، وقلبٍ مدخول، يكاد يخلو من الحب، والمودة، والعطف وحب الخير ؛ ذلكم هو خلق الشماتة وهي من صفات النفوس الظالمة الحقودة الحسودة .
فالشامت لا يفرح بمصيبة غيره إلا مِن لؤم طبعه وخسة نفسه ؛ بل ذهب بعض المفسرين الى أن الشماتة من أخلاق أهل النفاق ؛ فقد جاء في كتاب القران : في وصف المنافقين : {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط}».
فهي - الشماتة - بريد الحقد والحسد وقلما ينسى الإنسان من شمت فيه إذ إن الشماتة غالبا ما تكون عند تعرض الشخص لمكروه ، مما يجعله في أمس الحاجة لمن يأخذ بيده ، كما أن الشماتة دليل على قسوة القلوب وعلى أنها خالية من الرّحمة ، ومن أخطر آثارها الضارة أنها سبيل إلى تفكّك المجتمع وتمزيقه ؛ ونظرا لأن الفعل السيئ دائما ما يبقى أثره في النفوس حذر الحكماء من الشماتة بالناس.
إن مما ابتلي به البعض من المرضى هو ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي والجلسات العامة من التشمت بالآخرين وتتبع عوراتهم أو سقطاتهم ونشرها دون وازع من ضمير او دين أو خلق او وجدان ؛ ومما جاء في تراثنا الاسلامي : (( لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك )) .
حتى كان المسلمون الاوائل يخافون من تلك الخصلة اللئيمة فقال أحدهم : شمت من رجل فقد أسنانه ففقدت أسناني ، وقال آخر : شمت من رجل فقير فأصابني الفقر ، وقال آخر : شمت بمفلس فأفلست ، حتى قال ابن مسعود : إني لأخشى أن أشمت بكلب .
و قال أحد الحكماء : "إني لأرى الشيء أكرهه فما يمنعني أن أتكلم فيه إلا مخافة أن أبتلى بمثله" ؛ اي أن من شمت بآخر في أي أمر ، فإنه لا يلبث أن يصاب به ، فالشامت تنعكس الحالة عليه، فاحذر أن تعير شخصا أو تشمت به ، لأنك لا تأمن أن تقع فيما وقع فيه – كما قال الحكماء وارباب التجارب - .
ولا عجب ان داء الشماتة أصاب اصحاب النفوس المنحطة الوضيعة ، لكن الغرابة حين يصاب به من يدعي الفضيلة والاخلاق والانسانية والتحضر ... نعم الغرابة حين يشمت بمصائبك أقرب الناس إليك ، والغرابة حين يفرح بألمك من كنت تعتقد أنه صاحبك وخليلك ، والاغرب حين يسعد بجراحك من ينتسب إلى هويتك .
بل وصل الامر الى حد ان يموت عراقيين هنا وهناك فترى الشامتين يغردون ويكتبون ويتحدثون بفرحهم وسرورهم نكاية بإخوانهم العراقيين ، او يحدث مكروه لإخوان لنا هنا وهناك فيعمل إعلام الشامتين على إظهار الغبطة والنشوة بما يحصل لأخوتهم الاخرين ، او تباد مجموعة منا في هذه المنطقة او تلك فيتصدى الشامتون لوسائل التواصل يردحون ويرقصون طربا لتلك الإبادة ، وما ذلك إلا لأن الشامتين يختلفون مع أولئك في طروحاتهم أو آراءهم أو أفكارهم أو اعتقاداتهم الدينية والسياسية .
حتى الموت – وهو حق لا مراء فيه – والمرض اصبح مادة للتشفي والشماتة من الاخرين ..!!
أن التشفِّيَ بالموت والمرض ليس خُلقا إنسانيًّا ولا دينيًّا ، فكما مات غيره سيموت هو، كما أن الشماتة بالمَصائب التي تقع للغير تتنافَى مع الرحمة التي يُفترض أنّها تسودَ بين المسلمين وبين بني البشر ؛ والتي يظهرونها أحيانا في بعض الفضائيات ووسائل الأعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك ، فمن الغرابة أن يشمت الإنسان بالآخرين حينما ينتقلون إلى جوار ربهم ، وهذا من الأخطاء الفادحة لان الإنسان ما دام قد لقى ربه ؛ انتهى امره .
تصور ان احدهم اصيب بمرض كورونا ؛ فشمت به خصومه الإيديولوجيون شماتة شديدة، وفتحت تدويناتهم وتعليقاتهم مجالاً واسعاً لتبادل التهم بالانحطاط الأخلاقي والحقد والحسد، وانتصب كلّ فريق يعلّم خصمه آداب معاملة المريض صديقاً وعدوّاً ، ورأى آخرون أنّ المجتمع يشهد انحداراً قيميّاً خطيراً ؛ ويتجدّد هذا في كلّ مرض أو موت أو حزن... ثمّ لا يتغيّر الخطاب، ولا تعالج الظاهرة، ولا ترتفع العداوة .
ولا أدري كيف يبيح العراقي لنفسه الشماتة بأخيه العراقي ؟
فهل لك أن تتشفى بمصيبة أخيك حتى وإن كنت تخالفه ؟
فلا تشمت بأخيك مهما صغُر شأنه، وظهر عيبه، وبان نقصه ؛ والأيام دول ؛ فكم من غني افتقر، وفقير اغتنى، وعزيز ذل ، وذليل عَز، ووضيع ارتفع، ورفيع اتضع، وقويّ ضعف ، وضعيف قوي، وسليم ابُتلي، ومبتلى عوفي ؛ والدهر حين يجر بكلكله على قوم فإنه يُنيخ على آخرين، وسيلقى الشامتون كما لقي غيرهم .
فـقـلْ لـلـشــامـتـيـنَ بـنـا أفـيـقـوا *** سـيـلـقـى الـشـامـتـون كـمـا لـقـيـنـا
إذا مـا الـمـوتُ رفّـع عـن أنـاسٍ *** بـكـلـكـلـهِ أنــــــــــــــاخَ بـآخـريـنـا
فلا تراقب الناس ، ولا تتبع عوراتهم ، ولا تكشف سترهم واسرارهم ، ولا تتجسس عليهم .. اشتغل بنفسك ، وأصلح عيوبك ؛ ودع عنك ما لا يعنيك , ولا تحشر نفسك في حياة الاخرين .
خلاصة ما تقوله الدراسات في تفسير الشماتة أنّها نوع من السعادة يتلذّذ فيه المرء بآلام غيره الذي تجمعه به علاقة حسد ومعرفة .
ومجالها المواضيعُ المهمّة عند الإنسان، وأنواعُ السلوك التي تحرّك الحسد في النفوس , وهي لذلك وثيقة الصلة بالمقارنات الاجتماعية ، وبالأهميّة التي يعلّقها المرء على أمور خارجية ، مثل الشهرة والسلطة والمال .
ومن عللها الفائدةُ التي يمكن أن يصيبها الشامت من حلول المصيبة بغيره، وشعورُه بنوعٍ من الاطمئنان متولّد من اعتقاده باستحقاق المشموت به ما أصابه ، وإعادةُ الاعتبار لمن يرى شخصاً أعلى منه مرتبةً وأحسن منه حالاً ، فإذا حلّ به مرض أو حزن أشعره ذلك بالرضا والخروج من وضعيّة النقص او الشعور بالدونية .
وقد تكون الشماتة تعبيراً عن ضعف تقدير النفس او الشعور بالهوان ، فأشْمتُ الناس هم الذين لا يملكون صوراً جيّدة عن أنفسهم ، وليسوا راضين عن حياتهم ، وتوجّه مشاعرَهم ومواقفهم مقارنةُ أنفسهم بغيرهم في المجتمع ؛ ومن هذا الوجه، يجد الشامت عزاءً يهوّن عليه ما يؤلمه من عذاب الحسد ، ويمنحه تلذّذُه بمصائب الآخرين ثقةً بنفسه يثبّتها عدم شعوره بالذنب ، إذ لا يد له في ما حلّ بـ "ضحيّته" من مصائب .
ومن السهل أن يجد المرء في المجتمع شخصاً يمثّل في نظره تهديداً لحقّه أو سعادته أو هويّته ، فإذا أصيب ذلك الشخص بخيبةٍ من أيّ نوع اطمأنّ الشامت وعاد إليه توازنه.
وينتج من هذا كلّه أن تصبح الشماتة آليّةَ تكيّفٍ، تمكّن المرءَ من معايشة نفسه بعيوبها وإخفاقاتها، من غير أن يتّهمها أو يبحث عن سبب تفوّق غيره عليه.
وطالما عبر العراقيون عن الشماتة بعباراتٍ في لهجتهم وبحركات أيديهم، لكنّها كانت شعوراً مكتوماً أو معلناً في دوائر ضيّقة جدّاً، وكانت أمراً مذموماً، والناس يسارعون إلى ذمّ الشامت ونهيه عن شماتته أو عن إظهارها لاسيما في قضايا الموت والبلاء والفواجع .
ثمّ فُتح مجال تصريف الشماتة والكره والحسد والحقد، وصار الناس لا يخجلون من الجهر بالمشاعر السلبيّة.
والظاهر أنّ البرامج التلفزيونية الساخرة والنكت ومقاطع الفيديو المتهكّمة ساهمت في تعميم مشاعر الشماتة، إذ إنّ ظاهرها الإضحاك والسخرية ، ونتائجها تعويد الإنسانِ التلذّذَ بخيبات الغير وأحزانه .
ثمّ أصبحت محن الإنسان في مقاطع العنف مادّةَ فُرجةٍ يخصّص لها المشاهد حيّزاً من وقته؛ فإذا كان المستهزأ به أو المعنَّفُ مخالفاً سياسيّاً أو "عدوّاً إيديولوجيّاً" أصبحت مشاهدته ممارسةً مولّدة للشماتة.
ولمّا أصبح استعمال مواقع التواصل عادة يوميّة ، وكثر تبادل موادها، أصبح المحتوى الشامت صناعةً لا ترضي رغبة شخص واحد، بل تشكّل وجدان جمهور واسع من أتباع الأحزاب السياسيّة ، فنُقلت الشماتة إذاً من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة ، وتجلّت في خطاب عنيف يميّز بين فريقين لا يلتقيان البتّة : هم ونحن .
ويدور التعبير الشامت الشخصيّ حول التصريح بالكره والدعاء بالشرّ وتمنّي الموت بكورونا مثلاً ، ويوغل في الكره بتمنّي موت الخصم عِرقاً عِرقاً ... وأمّا الشماتة الجماعيّة فتصير سياسة مطالبة بإقصاء المخالف أو سجنه وتعذيبه أو نفيه من الوطن بلا رجعة أو إبادته واستئصاله.
اصبح فريق كبير من العراقيين اليوم يعيش في الشماتة : فكراً ووِجداناً وخطاباً وممارسة وأُفُقاً ؛ لقد أصبحت الشماتة في الخطاب اليوميّ تمريناً لتنمية أحطّ غرائز الإنسان : أنانيّةً وكرهاً وحسداً وحقداً ؛ وغدت في المحتوى الشامت ثقافةً عامّة تجمع المختلفين في السياسة على كرهٍ مشترك ، وكلّما غلب حبُّ الذات والعجزُ عن إبداع تواصل مع المخالف وعن تصوّر طريقة لمعاملته، اتّسعت دائرة الشماتة، وتعدّدت مفرداتها وأساليبها، ثمّ أصبحت صناعةً وسياسةً وليست موقفاً طارئاً مقترناً بحادث .
ومنها أنّ إعلان الشماتة ليس مجرّد سعادة بمرض شخص أو موته أو سقوط منافس في الانتخابات، إلخ... لكنّه تعبير عن تحيّنِ الفرصة للانتقال من الشماتة بالقول إلى الانتقام بالفعل، أي العنف. (1)
وبسبب انتشار هذه الظاهرة قامت دار الافتاء المصرية بالنشر على صفحتها الرسمية- بتاريخ 17 فبراير 2021- ما يلي : (( إن الشماتة بالمصائب والابتلاءات التي تقع للغير –ومنها الحوادث والموت - ؛ ليس خُلُقًا إنسانيًا ولا دينيًا ، منوهة إلى أن ( الشامت بالموت سيموت كما مات غيره) .. )) .
...................................................................................
(1) – مقالة الشماتة السياسية في تونس / للكاتب عبدالله جنوف / بتصرف .
ظاهرة الشماتة في مجتمعنا
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين