واستمر المجهول النكرة جلال بهذيانه ومما تقيء به قوله : (( ... وبانخراطهم في الزراعة ... )) ؛ فقد وصف أهل الجنوب بكونهم من الزراع والفلاحين , وهل في هذه الصفة مذمة ومنقصة ؟!
قطاع الطرق وشذاذ الافاق وابناء غلمان وسبايا النكاح - من الفئة الهجينة - , والهمج الرعاع الدخلاء والمرتزقة الغرباء والقتلة المأجورون ... يغيظهم عمل العراقيين الاصلاء وعمارتهم للأرض , وأكلهم من كد ايديهم وعرق جبينهم .
وبما ان هؤلاء المنكوسين يعيشون مشاعر الغيرة والحقد والحسد , فضلا عن احساسهم المزمن بالاغتراب وضياع الهوية الحقيقية , وشعورهم بالنقص والدونية ؛ فمن البديهي أن يتعرض العراقيين الاوائل الأصلاء للطعنات والتشكيك والاستهزاء والشبهات و ربما السب و الشتم ، كتنفيس من هؤلاء المنكوسين المرضى الدخلاء – من ابناء الفئة الهجينة - عما يشعرون به من غيره و حسد تجاه سكان العراق الاصلاء ، و مذمة الناقص الدخيل للمواطن الاصيل هي الشهادة التي قال فيها الشاعر العراقي ابو الطيب :
و إذا أتتك مذمتي من ناقص ...... فهي الشهادة لي بأني كامل
اذ ان الحملات المسعورة للفئة الهجينة والادعاءات السمجة المتكررة هي شهادة منهم بكون أهل الجنوب اصلاء وهم دخلاء من حيث لا يشعرون ؛ وكما قال الشاعر :
وكم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم......و يكره الله ما تأتون والكرم
بدأ عصر الزراعة في بلاد الرافدين, وهو أول عهد للإنسان بتعلم الزراعة, بحدود سنة 9000 قبل الميلاد وتطور حوالي سنة 5500 ق.م. في قرية (جرمو) في شمالي العراق في أواسط العصر الحجري الحديث. ومن البديهي أن تكون الزراعة عصرئذ محدودة وعلى نطاق ضيق جدا.(1)
ومن الأمور المتفق عليها بين غالبية العلماء المختصين في العصر الحاضر أن السومريين هم سكان العراق الأصليون، وأنهم الذين كانوا يعرفون بأصحاب حضارة العبيد في وسط وجنوب العراق وكانت أراضيهم تمتد جنوبا إلى جزيرة دلمون (البحرين) في العصر الحاضر قبل أن ترتفع مناسيب الخليج العربي ليصل إلى حدوده الحالية.
وكان الشعب السومري قد استقر قديماً على المرتفعات التي لا تصلها الفيضانات، حيث أقام أول المزارعين والمدجِنين، وشرعوا آنذاك باستصلاح الأراضي السبخية في مجرى الفرات الأدنى , كما شرعوا في العيش اعتمادا على الصيد، والزراعة بالمنكاش، ومن تربية المواشي، كما كانوا يصنعون الخزف الملون إلى جانب الأدوات النحاسية (الخطاطيف والسكاكين) ,و أتقـن السومريون عـدة أساليب في زراعة الحبـوب وفـن البستنـة ومنها أصول غـرس النخيـل وتنميتهـا, والعراق أقدم موطن وجدت فيه النخيل أن لم يكن موطنه الأصلي لذا كانوا يقدسون النخلة وقد أتقنوا الطرق الناجحة في زراعتها وكانوا أول من مارس تلقيحها ،وقد كان لاختراع المحراث اثر بارز في تقدم الزراعة .
وقد اتخذه السومريون شعارا ًمن شعاراتهم المقدسـة المقرونة بالإلهة و خصوصا إلهة ( باو) إلهة الزراعـة : وهـي أنثى ومـن بعـد الآلة ( لهـار ) آلة القطعـان والحظيـرة .
وكانـت تجـري في بدايـة موسـم الحراثة من كل سنة مراسيـم دينـية تقليديـة يقوم بها كهنـة المعابـد والحكام وذلك التماسا ًمن الإلهـة بان يجعلـوا الموسـم الزراعي الجديد مقرونا بالخير والبركة .
أما الاكديون فقد استوطنوا في أخصب بقعة زراعية في وسط بلاد الرافدين بين نهري دجلة والفرات نزولا إلى منطقة الاهوار فأستغل المزارع العراقي زراعة هذه المنطقة بأنـواع مختلفـة من الأشجار و المحاصيل الزراعية والحبوب الغذائية الحقلية التي يعتمد فيها على غذائه اليومي .
وأما البابليون فقد كانـت مزروعاتهم الغذائيـة الرئيسية في الأراضي المرويـة هي الشعـير والتمور والثـوم الذي يشكل الغذاء الرئيس للسكان والحنطة والقمح الرومـي ومختلف الخضار من العـدس والبصل والخـس و الباقلاء والخيار والفاصوليا وكذلك الفواكه مثل التفاح والرمان واللوز والتين والعنب والخوخ والسفرجل .
وكانت حراثـة الأرض للبذار تبـدأ في تشرين الثاني مع موسـم الإمطـار ، وكانت الحقول البابلية تخلوا مـن الدغل والطفيليات فما كاد الدغل يخرج حتى يبادر الفلاحون بقطعة مرتين ومن ثم يسحقونه بالماشية وهكذا كي تظهر البراعم وتنمو إلى سنابل ولا تتعفن وهي خضراء . ومن أشهـر الإعمال التي أنجزت في عهـد نبوخذ نصر الجنائن المعلقة التي أقيمـت في بابل والتي عـدت في جملة عجائب الدنيا السبع وكانت على هيئة سطـوح قائمة بعضها فوق بعض وكلهـا قائمة على عمد وعقـود ضخمة ، وكانـت هـذه الحدائـق مربعة الشكل ، وكان الماء يصعد أليها بواسطـة آلات ترفع الماء من ثلاثـة أبار أو من النهر ، وتسقي المزروعات والأشجار والورود و البساتيـن والحدائق جميعها .
وهذه الجنائن أثبتت قدرة الفلاح العراقي على خلق العجائب من خلال خبرتـه الزراعية المتراكمة وفنونـه .
كما تلاحظ – عزيزي القارئ - فأن العراق بلد زراعي من الدرجة الأولى بحكم أرضة الفيضية الرخوة ونهراه العظيمين دجلـة والفرات والاهوار والبحيرات المتصلة بهما ،وهذه ميزة فريدة تميزت بها بلاد الرافدين ومنذ أقـدم العصور .
وجاء في الكـتاب المقـدس : ( وكان يخرج من عـدن نهر فيسقـي الجنة ، ويتشعب من هنـاك فيصير أربعـة انهار ، واسم النهر الثالث دجلة ، ويجري في شرق أشور ، والنهر الرابع هو الفرات ) .
يقول الأستاذ ويليم ويلكوكس أني عثرت على مكانين يتوفر فيهما شـروط جنة عدن المذكورة في التـوراة :
احدهما منطقة الشلالات الواقعة بين عانة وهيت وقد قررت أن هذه المنطقة كانت محلا ًلجنة عدن الساميـة أو الاكدية ، والثانيـة هـي منطقة الاهـوار التي تبـدأ قـرب خرائب أور الكلدانيين وقـد ذهبت إلى أنها كانـت محلا ًلجنة عـدن السومريين وقـد توصلت إلى تعييـن مكان هذه الجنة الأخيـرة بعد تجـوال طويـل في تلك المـنـطـقـة مستـرشـدا بالألـواح البـابلـية للخـلـيقـة والخرائـط التـي تبـيـن مسـتويـات الأراضـي هـنـاك .
وفي العصور الإسلامية افتتح العـرب العراق في عهد عمر بن الخطاب وأطلقوا علية تسمية ارض السـواد بسبب سوادها بالزروع والنخيل والأشجار وقسم ابن خرداذبة مناطق السواد إلى ثلاثة مناطق :
الأولى مناطق شرق نهر دجلة والنهروان ، والثانية جنوب العراق إلى الخليج ، والثالثة هي أوسع المناطـق وتقع بين النهرين من الانبار على الفرات و الدور على دجلة إلى البطيحة في الجنوب .
وأصبح العراق البلد الزراعي الأول في الجزيـرة العربية عند المسلميـن وان اقتصادياته كانت تعتمـد على الزراعـة بالدرجـة الأولى واعتبـر الفاتحـون العرب ارض العـراق ملكـا ًمشتركا للأمـة الإسلاميـة وارض السواد بمثابة وقف لهم .(2)
وبعد مرور هذه العصور الطويلة مـن الازدهار والخضار في العراق بـدء عصر التدهور الزراعي ، وترجع جذور هذا التدهـور إلى عهـد الاحتلالات الاجنبية في العصر العباسي الثاني حيث تقلص نفـوذ الدولة العباسية الأمر الذي أدى إلى انحطاط نظام الري في البلد كلـه ، وسبـب في انخفاض قابليـة أنتاج الأراضي الزراعية في ارض السواد فهبط الإنتاج إلى الثلث في ظرف مائتي عام , وجاءت الضربة القاضية مع الاحتلال المغولي , ثم التركي العثماني , ثم الانكليزي؛ ثم حكومات الفئة الهجينة ؛ اذ وصل الانهيـار قمته في عهد المجرم صدام واستمر إلى يومنا هذا … ولحد ألان لم نرى أي تقدم للزراعة العراقية بل بدأنا ندخل إلى مرحلة التصحر والجفاف وشحه المياه ، لذا فلنترحم على الزراعة في العراق ونبقى نتذكر الماضي الزاهر فقط … نعم انه الحقد الاجنبي الاعمى على العراق واهله الاصلاء .
هذا الحقد قديم قدم الاحتلالات الاجنبية والغربية لبلاد الرافدين , فقد كان الفلاحون – في العراق - يمثلون السواد الاعظم من الشعب , وبما ان بلادهم تعرضت للفتح الاسلامي او الغزو العربي والاعرابي وقتذاك ؛ لذا صاروا موضع احتقار الغزاة العرب والاعراب في العصور السالفة لاسيما في عهدي الخلافة الراشدة والاموية , ولعل المقولة التالية للمؤرخ والمفكر ابن خلدون عن الفلاحة , تسلط الضوء على هذه الحقيقة المرة : (( انها معاش المستضعفين ويختص بها اهل المذلة ))(3) .
وقد بلغ احتقار المنكوسون ومن لف لفهم للفلاحين العراقيين ؛ و وصفهم بالجهل والتخلف وخشونة الطبع ؛ أن ألف كتبة الخط المنكوس العديد من القصص الخيالية والحكايات المزيفة التي تهدف الى ذم الفلاحين العراقيين والصاق كل نقص ورذيلة بهم , وقد تفوه المنكوسون بشتى عبارات الشتائم والقذف والفحش بحق هؤلاء الفلاحين الشرفاء الذين يأكلون من عرق جبينهم ويطعمون ابناء جلدتهم ؛ وطالما تعرضوا للنهب والسلب ومصادرة الاراضي والجهود من قبل السلطات الاجنبية الجائرة المنكوسة , والغزو من قبل القبائل المتخلفة و الاعراب الهمج الذين كانوا يعيشون على هامش القرى والارياف وفي الاطراف البعيدة ويكونون مجتمعا خاصا بهم يتسم بالترحال وعدم الاستقرار وعدم الخضوع للسلطات الا في حالات معينة .
ولا غرابة بعد ذلك أن يأتي بقايا العثمنة و عملاء المحتل الانكليزي وذيوله ويسيروا على ذات النفس الحاقد ويقتفوا اثار الخط المنكوس فشبيه الشيء منجذب اليه ؛ اذ لم يتورع العملاء والمنكوسون الدخلاء والغرباء في إطلاق مختلف الأسماء الذميمة والألقاب الباطلة على أهل العراق الاصلاء , لينفروا الناس عنهم , ويقصوهم عن قيادة العراق ويهمشوهم وينهبوا ثرواتهم وخيراتهم , ومن ثم يخفوا حقيقتهم الحضارية المجيدة واصالتهم وهويتهم العراقية العتيدة ؛ فقد اطلق هؤلاء المنكوسون تسمية : (( الشرقية او الشرجية )) على الاغلبية العراقية , وقد برروا هذه التسمية بحجج تافهة – ( اوهى من بيت العنكبوت )- وكل الاكاذيب والاباطيل التي ساقوها وسوقوها على انها ابحاث علمية ودراسات تاريخية كتبها كتبة مأجورون و اشخاص موتورون و افراد منكوسون - عددهم لا يتجاوز اصابع اليد - , والتي ادعى هؤلاء انها تبرر لهم اطلاق هذه التسمية السوقية ؛ و التي لم تذكر قط في كتب التاريخ والتراث ولم تذكر حتى بالتراث الشفاهي الشعبي العراقي ابدا ؛ او لجعلها تسمية رسمية وصفة ملازمة للأغلبية العراقية , والحق ان هذه التسمية جاءت مع الاحتلال الانكليزي واذنابه الغرباء , واتحدى اي كاتب يأتي بدليل خلاف ذلك , فلم يطلق البصري ولا العماري او العمارتلي ولا الناصري ولا الواسطي ولا الكناني ولا الاسدي ولا الكعبي ولا الدراجي ولا الساعدي ولا السوداني ولا الصابئي الجنوبي واليهودي الجنوبي ... الخ ؛ لقب : (( الشرقي )) على انفسهم قط ولم يستعملوه فيما بينهم ؛ ولم يذكر هذه الاسم في الاثار او الكتابات التاريخية قبل مجيء الاحتلال الانكليزي الذي اطلق الكثير من التسميات المنكوسة على اهل العراق الاصلاء من قبيل اطلاق لقب : (( الشجرة الخبيثة )) على مدينة الناصرية العظيمة مسقط رأس الشجرة الطيبة النبي ابراهيم وذريته .
وهو نفس المسلك الذي كان عليه المنكوسون من العرب والاعراب الغزاة - الذين هم اشد كفرا وكذبا ونفاقا - تجاه اسلافنا العراقيين حيث أطلقوا عليهم لقب : (( النبط )) .
ويحاول هؤلاء المنكوسون من خلال الاستمرار بهذه الدعايات الكاذبة والتسميات المخترعة ؛ان يجعلوا منها حقيقة تاريخية او واقعا مسلما به , حتى من قبل اجيال الاغلبية العراقية المستهدفة بهذه السموم والالقاب ذات الدلالات السلبية .
ولكن انى لهم بذلك فالحق يعلو ولا يعلى عليه , وحقيقة واحدة تبدد مئات الاكاذيب والافتراءات , فإن المجد يبقى دائماً يتلألأ فوق رؤوس العراقيين لاسيما الجنوبيين منهم .
ومن علامات الدخيل الطعن بالأصيل , اذ أصبح من علامات العملاء والدخلاء المنكوسين سبهم لأهل العراق الاصلاء والتشهير بهم واختراع الألقاب الباطلة لهم, وفي الحقيقة ما ثلموا إلا مخططهم الخبيث ولا سعوا إلا في هلاك اتباعهم ولا جدوا الا بكشف حقيقتهم المنكوسة وما يحيق المكر السيء لا باهله ؛ وان غدا لناظره لقريب .


.....................................................................................
1- مقالة موجز تاريخ العراق القديم / بقلم د. عبد العزيز حميد صالح .
2- الثورة الزراعية في العراق القديم / حسن الوزني .
3- ابن خلدون المقدمة / ص 441 .