في بغداد تشكلت اول حكومة هجينة عام 1921 بدعم ومساندة وتأييد الاحتلال الانكليزي ؛ واستمر هذا المسلسل السياسي المنكوس الى ان كشرت الفئة الهجينة عن انيابها الطائفية والعنصرية وبصورة واضحة – وضوح الشمس في رائعة النهار- في عهدي المحروق – (مشعول اللشة ) - : المجرم عبد السلام عارف و المشنوق المجرم دوحي بن صبحة ؛ اذ عمد النظام الصدامي الى حكم العراق بقوة الحديد والنار والارض المجرفة والمحرقة والمدن والقرى والبيوت المهدمة ؛ مستندا في شرعيته وبقاءه وسلطته تلك على تركيبة طائفية عنصرية واقلية بشعة وهجينة ؛ يشد من أزرها قوى الاستعمار الأمريكي والبريطاني ومن وراءهما بعض الانظمة والمنظمات والقواعد الجماهيرية العربية والمخابرات الدولية المشبوهة ... .
ثمانية عقود عجاف والعراق تحت سيطرة حكومات الفئة الهجينة العميلة وعصاباتها الطائفية ومافياتها العنصرية ، لم يعش يوما واحدا بلا جريمة يقترفها رجال الفئة الهجينة ضد الاغلبية العراقية فضلا عن باقي مكونات الامة العراقية الاصيلة ؛ اذ ان طائفية وعنصرية حكومات الفئة الهجينة لا تحتاج منا الى اثبات فهي اشهر من نار على علم ؛ومع وجود الاف الادلة الدامغة على ذلك والتي يعرفها القاصي والداني ؛ لا زال البعض- من الحمقى والمغفلين والمرتزقة والمنكوسين - يصر على عدم وجود الطائفية في تلك العهود الغبراء وفي ظل تلك الانظمة العميلة الحاقدة العنصرية الصفراء ...؟! .
عوائل وشخصيات نفعية مرتزقة و ذات اصول اجنبية وغريبة- (لملوم) - ؛ تجمعت من بلدان مختلفة في عهدي الاحتلال العثماني ثم البريطاني ؛ معلنة - تحت عباءة القوى الاستعمارية -عن قيام نظام حكم يرتكز على الطائفية والعنصرية ويتشبث بالدعوات القومية العربية – زورا وبهتانا - ؛ فما هم الا شراذم و رعايا اجانب بل ان اغلب اصولهم تعود الى ديانات غير اسلامية اصلا – اي كافرة حسب الاصطلاح الفقهي ؛ جاء بهم العثمانيون ك اسرى وسبايا وغلمان حروب – , او كخدم وعملاء للاحتلال البريطاني فيما بعد , وافضلهم حالا من جاء غريبا او مجهولا من الاصقاع العربية ؛ سيطروا على العراق باسم الملكية الدستورية تارة والجمهورية تارة اخرى , وبرقع شعارات نبيلة كالتقدم والعدالة والديمقراطية والتعددية والوحدة والاشتراكية ... الخ ، قبل أن يعرف الشعب العراقي الاصيل حقيقتهم السوداء ويكشف جرائمهم ويفضح مسيرتهم الطائفية والعنصرية و الاستبدادية والدكتاتورية ؛ ناهيك عن القسوة والجور والظلم والغدر والخيانة والعمالة وجنون العظمة وباقي الصفات الذميمة التي عرفوا بها ... ، وبعد سقوط صنم الطائفية والعنصرية والاجرام صدام بن صبحة عام 2003 ؛ اختفى بعضهم من المشهد العراقي العام - الا انهم كالنار تحت الرماد يتحينون الفرص للانقضاض على الاغلبية العراقية والتجربة الديمقراطية الجديدة – وبعضهم لا يزال مستمرا في طغيانه وتامره وعمالته واجرامه وارهابه كما كان سابقا .... .
ومن الوسائل الترهيبية التي جاء بها هؤلاء الاوغاد الدخلاء الى العراق : عقوبة ( الحبس الانفرادي ) القاسية ؛ مضافا اليها الكثير من العقوبات الشنيعة الاخرى لتكتمل حلقات التعذيب ويضيق الخناق على السجناء والمعتقلين العراقيين .
و الحبس الانفرادي : هو تدبير وشكل من أشكال السجن يتميز بإيداع المحكوم عليه في زنزانة لوحده ؛ مع السماح له بقليل من التواصل مع النزلاء الآخرين أو عدم السماح له مطلقا ، واتخاد تدابير صارمة لمنع وصول الممنوعات إليه ، واستخدام معدات أمنية إضافية بالإضافة الى بعض وسائل التعذيب الاخرى ؛ وتختلف مساحات الزنزانات تبعا لاختلاف المعتقلات والسجون , فبعضها لا يتسع لمنام او جلوس شخص واحد ..!!
وكذلك بعضها يحتوي على مرحاض و البعض الاخر لا يوجد فيه مرحاض او صنبور ماء ... ؛ وتم تصميم بعض الزنزانات الانفرادية خصيصا للسجناء والمعتقلين الذين يمثلون خطرا على حزب البعث الاجرامي وثورة الشواذ العملاء ونظام الجلاوزة الانذال .
وقد تُتخذ عقوبة السجن الانفرادي في حق كل من انتهك الانضباط داخل السجن بأي شكل من الأشكال ؛ واليك مثالا بسيطا على الخطوط الحمراء داخل سجون الفئة الهجينة والطغمة الصدامية الصفراء , وما اكثرها : فقد حكم على شخص بريء من اهالي مدينة العمارة بالسجن لمدة عشر سنوات بتهمة التدين والتشيع كالمعتاد , وفي اثناء قضاء محكوميته في سجن ( ابو غريب ) مع باقي السجناء في المحجر , قام احد السجناء بإعطاء دروس في اللغة العربية لبعض السجناء داخل القاعة المكتظة بالمعتقلين , وكان المعتقل العماري قريبا من حلقة الدرس بحكم ضيق المكان الا انه لم يشارك فيها ؛ وعندما تناهى الى اسماع جلاوزة السجن وزبانية المعتقل خبر هذه الحلقة , اخذوا كل المشاركين فيها بالإضافة الى صاحبنا العماري لأنه كان قريبا منهم ويسمع الدروس ؛ وتعرض للتعذيب الشديد وعندما ارجعوه الى السجن نطق الشهادتين وتوفى على الفور من شدة التعذيب ...!! – راجع الفيلم الوثائقي : (سنوات الدم ) في قناة الاتجاه - .
وقد تمنى احد المعتقلين التعذيب على السجن الانفرادي : تمنى ذلك عندما كان محبوسا في زنزانة مساحتها مترا واحدا فقط ... و لا يوجد فيها اي شيء سوى الجدران الكونكريتية المصبوغة باللون الاسود وفتحة صغيرة في الباب الحديدي الصغير لمرور الهواء الشحيح والغذاء الذي هو اشح واقل من صاحبه ؛ عندها يصبح خيار مقاومة الألم الجسدي وتلقي الكدمات و ( الدفرات والكيبلات ) أفضل من العزلة التامة في زنزانة صغيرة مظلمة إلى ما لا نهاية والتعامل مع القلق الذهني والهواجس النفسية المضطربة ... .
ولكن كما قال شاعرنا العراقي ابو الطيب المتنبي :
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ ...... تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
اذ أودت تلك الزنزانات الانفرادية والمحاجر الضيقة المظلمة والنتنة بآلاف المعتقلين والسجناء السياسيين والابرياء العراقيين .

كان هذا التكتيك القاسي يبث في صدور السجناء والمعتقلين الخوف والقلق والرعب والوحشة ، فعندما تكون في زنزانة صغيرة جدا ومظلمة ونتنة يتولى عقل الإنسان مهمة إدراك ما يجري من حوله ؛ ولاسيما ان كنت تعرف أن الحراس والزبانية كانوا بمثابة جزارين يتلذذون بتعذيب وتقطيع اوصال المعتقلين ... .
و ترك السجناء – داخل الزنزانات الانفرادية - مرعوبين كان عاملاً مساعداً جداً عندما كانوا يرغبون في كسر عزيمة السجناء نفسياً .
وكان السجناء في الزنزانات الانفرادية يبذلون مختلف الجهود للتواصل فيما بينهم عبر الطرق على الجدران او الابواب الحديدية المؤصدة ... ، لكن الحراس كانوا يعاقبون السجناء في حال اكتشاف أي تواصل إنساني فيما بينهم , اذ كان هذا التصرف يؤدي إلى عواقب قاسية.
لقد أودعوا بعض السجناء في زنزانات الحبس الانفرادي لمدة ثلاث سنوات ، واحيانا اكثر من ذلك ... و خلال فترات العزل الطويلة هذه تبدأ الذكريات التي يحملها السجين عن كل شيء بالتلاشي والاضمحلال ، وحينها يشعر السجين بانه وحيدا للغاية ويعيش فراغاً مرعبا وموحشا ؛ وعندما يصبح السجن الانفرادي لا يطاق ، يركل بعض السجناء الباب محاولا إحداث الضجيج ، فيأتي الحراس في حينها ويأخذونه للتعذيب ، لكن هذا الضرب كان نوعاً من اللهو (بالنسبة لهؤلاء السجناء ) ، بمثابة المنقذ لهم ، فعملية مقاومة الألم الجسدي والذهاب إلى غرفة التحقيق ورؤية الضباط والزبانية والسجناء المعذبين والتعامل مع الكدمات والضربات كان أفضل من العزل المظلم الذي لا ينتهي والقلق النفسي الذي يرتبط به .
ويروي المعتقل حسون علي الواسطي تجربته في الحبس الانفرادي ؛ قائلا : (( بعد جولة مريرة من التعذيب القاسي ؛ تم عزلي في زنزانة انفرادية مساحتها لا تتسع للنوم او الاستلقاء ...و كانت تفتقر إلى الإضاءة والتهوية والمرحاض والأغطية والفرش وصنبور الماء ... وفي احدى المرات وقف احد زبانية المعتقل امام باب الزنزانة وفتح الباب والقى علي قطة شرسة ومتوحشة واقفل الباب ؛ فمزقت ثيابي البالية وتشوه جسمي من كثر الجراح والدماء وبالكاد استطعت حماية الاجزاء الحساسة من جسمي واستمر الصراخ والالم لمدة 30 دقيقة تقريبا ؛ والحراس يضحكون ويعربدون - بشكل جنوني - ؛ثم فتحوا الباب وخرجت مسرعة , واغلق الباب علي وانا بتلك الحالة الرهيبة ...))
وروى احد المعتقلين ان الحراس اقتادوه إلى الزنزانة الانفرادية وكانت مساحتها متر في متر ، وكبلَّوا يديه , ووضعوه فيها , وكان يتبول ويتغوط في نفس المكان ولمدة سبعة ايام ...!!
شهدت سجون الفئة الهجينة ومعتقلات الطغمة البعثية الصدامية انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان ؛ حيث كانت ظروف السجون تفتقر لأبسط المعايير الدولية لمعاملة السجناء , فقد عانى السجناء والمعتقلين العراقيين من وضع أعداد كبيرة منهم في زنازين صغيرة الحجم ،بالإضافة الى الافتقار إلى ما يكفي من الأطعمة المغذِّية والأغطية والأسرة وأبسط معايير النظافة والمياه والصرف الصحي، فضلاً عن سوء التهوية والإضاءة , وحرمان السجناء من ابسط الحقوق والحريات الانسانية , ان المعتقلين في سجون مجرمي الطغمة الصدامية يعيشون في حال يرثى لها بمعنى الكلمة ... وأغلب المعتقلين هم من الاغلبية العراقية ... وان وجد سجناء من باقي المكونات والفئات كالسنة او البعثية او المسيح فهم يتمتعون بامتيازات يحلم بها السجين العراقي الاصيل , ناهيك عن تعاطف الحراس والزبانية معهم .
فقد عانى بعض السجناء العراقيون من عدم وجود مراحيض في الزنازين التي احتُجزوا فيها رهن الحبس الانفرادي، فكانوا يُضطرون إلى التبوُّل والتبرُّز في أوعية بلاستيكية أو معدنية , وفي حالات أخرى، كانت هناك مراحيض ولكنها كانت مكسورة وتنبعث منها روائح كريهة وتجلب الحشرات , كما أُجبروا على النوم على أرضية الزنازين ، التي تتسم بكونها صغيرة وقذرة .
وكانت السلطات الصدامية تقدِّم للسجناء في الزنازين الانفرادية رغيفاً يابسا من الخبز واحيانا نصف ( صمونة يابسة ) ، وفي بعض الاحيان تمرة واحدة , وكوب من الماء الحار كزادٍ يومي من الطعام والشراب ... بينما كانت كروش هجناء ديالى ولقطاء تكريت وغرباء الموصل وجلادي الفئة الهجينة تنتفخ وتسمن من السحت والمال الحرام , فهم جميعا سراق مرتزقة عملاء نهبوا ثروات محافظاتنا و افقروا و ظلموا اهلها ؛ وفقا للمخطط الاستعماري القذر والدور المنكوس الموكل لهؤلاء العملاء الاوغاد ...!
وكان الحبس الانفرادي أسلوب شائع في جميع السجون العراقية في عهود حكم الفئة الهجينة والطغمة الصدامية ؛ اذ أن سلطات السجون الغاشمة تستخدم الحبس الانفرادي ضد هذه الفئة من السجناء كعقاب إضافي على أحكام السجن الفعلية الصادرة ضدهم ...!
ومن بين أهداف الحبس الانفرادي ، على ما يبدو، الانتقام، والتشفي , والعقاب، والترهيب، وإجبار السجناء على الإدلاء باعترافات ... وقد وُضعوا بعض السجناء الابرياء في زنازين انفرادية خلال فترة التحقيق ، اذ خضعوا لذلك الإجراء بالرغم من عدم إدانتهم بأية جريمة .
بل وصل الانحدار السلوكي والانحطاط الاخلاقي بجلادي ومجرمي الفئة الهجينة المريضة والطغمة الصدامية الدموية انهم يُضعون المحكوم عليهم بالإعدام في قسم خاص مُكوَّن من زنازين انفرادية ضيقة جدا , وهؤلاء السجناء يتعرضون للتعذيب بالحبس الانفرادي قبل إعدامهم ؛ وكان الزبانية الانذال يسوقون السجناء بالضرب والدفع نحو مقاصل الاعدام بالإضافة الى التفوه بأقذر الالفاظ وافحش الكلمات من قبيل : (( امشي ابن الكحبة , امشوا ولد الزنا , اخوات الكحبه , شيعة , شرجيه ... الخ )) ... هل توجد خسة اكثر من زج سجين محكوم بالإعدام في زنزانة قذرة صغيرة بل واهانته وتعذيبه قبل اعدامه ؟!
وكما قال الشاعر :
الحرّ حرّ وإن تعدّت عليه يوماً يد الزمان ....والنذل نذل وإن تكنّى وصار ذا منطق وشان
و قد نصت بعض الاعراف او القوانين في بعض الدول المتحضرة ان المحكوم بالإعدام او المؤبد لا يحكم بالانفرادي نظرا لطبيعة احكامهم القاسية ... .
وقد نقل احد المعتقلين ؛ انه تم اعتقاله مع ابيه وكان عمره عشر سنوات وقتذاك , وبعد اعدام والده بتهمة التدين والتشيع , و بمجرد أن بلغ عمره 18 سنة , نقله الزبانية الى معتقل اخر وهناك وُضع لمدة شهرين في زنزانة انفرادية, وبعد شهرين ، نقلته إدارة السجن إلى سجن اخر، وهناك وُضع أيضاً في زنزانة انفرادية ، وأُجبر على نزع ملابسه البالية والبقاء عريان ... وبعد فترة من الزمن تم اغتصابه اكثر من مرة ؛ من قبل زبانية المعتقل ...!
وسأنتقل معكم الى تجربة السجين نجم عبد الودود الجزائري البصري في معتقل الشعبة الخامسة سيئ الصيت , حيث يصف زنزاناتها قائلا : (( عندما تعيش تجربة مؤلمة وتقف بعد سنوات على ذكراها وهي مازالت على قيد الحياة رغم كونها ذكرى وتتمنى ان تموت لتزورها في قبرها زيارة الوداع الاخير ستشعر بانك لم تغادر عالم الالم ...
وبدأت القصة
كنت اتأمل، وارى مستقبلي بعد الخدمة العسكرية الإلزامية، لم يكن يفصلني عن حلم التحرر من القيود الا أشهر معدودة، حتى في ظلام الليل كنت أرى نور الفجر، هكذا كنت متفائل، كان كل شيء هادئ، ولكنه كان كما يقال الهدوء الذي يسبق العاصفة، فاذا بصوت عجلات السيارات المسرعة تتوقف عند بوابة المعسكر وعلا الصراخ والضجيج، كانت لحظات سريعة، حتى أني لم أستطع ان أقوم من مقامي، فاذا بوجوه مكفهرة، وقد ارتسمت على محياها علامات الحقد والعدوان، وسألوني سؤالاً واحداً ولا أتذكر أني قد اجبتهم عنه! كان سؤالهم (هل انت فلان الفلاني)؟ بالطبع كانت تسبقه شتيمة وتلحقه شتيمة ولكن المقام ارفع ان تذكر كل العبارات.
عصبوا عيني وكتفوا يدي الى خلف ظهري وربطوا رجلي وجروني ككبش يجر الى المسلخ، وكنت لا اسمع الا الشتم والسباب، واعتبروني خائناً للبلاد، ولكنهم رغم كل السباب فقد كانوا كراماً معي، فقد كانت كحفلة زفاف وكنت فيها العريس، وكانت تبريكات الأحبة بين ركلة وصفعة ولكمة، اما من كان يعزني كثيراً فقد قدم تبريكاته بأخمص البندقية، ومن شدة فرحي بهذه الاحتفالية أغمي علي ولم اشهد نهاية زفتي الى عروستي.
عدت الى وعيي وانا على ظهر حبيبتي التي لطالما امتطيتها، انها ايفا حبيبة قلبي، انها السيارة الروسية التي حملت بها الى الجحيم، كنت قد مت او اعتبرت نفسي ميتاً، ايست من الحياة، كنت اتلقى التهاني والتبريكات على رأسي مراراً وتكراراً، بل لم يتبقى أحد مررت عليه الا وقد قدم الي التبريكات وليست أي تبريكات، بل تلك التبريكات الحارة، كانت من العظم الى العظم.
وبعد أيام من الاستقبال الحار في امن المعسكر، نقلت الى أعتى السجون وأشدها خطراً، نقلت لأقضي شهور العسل الثلاثة تحت الأرض، في مكان كان يسمى (الشعبة الخامسة).

كنت في اسوء حالٍ لي ورغم ذلك كان يدور في ذهني سؤال سخيف جداً، كان (لماذا الشعبة الخامسة وليست السادسة او السابعة؟)، أحمق وغبي، او سكران من كثر ما سقيته من الذل، او كان هذا السؤال منفذاً لأتحرر من الخوف، الخوف الذي عرفته وعرفت معناه.
تحت الأرض بستة عشر قدم، او اقل او أكثر، رفعوا العصابة عن عيني، كان ممراً ضيقاً وعلى جانبيه أبواب حديدية، كانوا يطرقون الأبواب ويوزعوننا على السجانين، كان الحظ قد حالفني حينها، فلم يكن هنالك مكان لتعليقي على الجدران، نعم كتلك الأفلام الأجنبية التي كانت فيها الايائل معلقة على جدران المنزل للزينة، كانت حصتي ان أعلق من قدمي الى سقف الزنزانة.
الزنزانة ضيقة جداً، ولا توجد فيها منافذ او تهوية، اعتدت ان لا اشم أي رائحة ولا اتذوق أي طعم، كان كل شيء متشابه بالنسبة لي، لا ليل ولا نهار ولا حديث ولا كلام ولا تعارف، فقط ضرب وشتم وتعذيب، تذوقت طعم الإهانة عندما دعسوا رأسي بأحذيتهم، كان طعماً تمنيت ان اموت قبله وبعده، طعم لا يقاس وصعب علي ان اصفه بالمر، فالمر يطاق وهذا الطعم لا يطاق.
عندما استفيق من أغمائي لا اعلم كم لبثت في تلك الغيبوبة، ولا أتذكر كيف كنت ومن كان يدغدغ جسدي بأسلاك الكهرباء والخيزران والعصي والهراوات المنقعة بالخل والملح، لم يكن ذلك وصف لجبس ليز، بل كانت حقيقة ما كنا نضرب به.
لو ان منظمة بيتا حضرت الينا في تلك الحالة لأغلقوا منظمتهم، حقوق الحيوان تصان، ونحن بلا حقوق نهان ونعذب، وفي نهاية اليوم، او كما أحب ان اتخيله، كانت جثث المعدومين بالرصاص تملأ ارض الزنزانة، بالأمس كانوا معلقين على الجدران يعذبون، واليوم معدومين بلا رحمة ولا قضاء، قضوا نحبهم وهم لا يعرفون لماذا ولأي سبب، وكأنهم موءودة الجاهلية الأولى، لا تدري باي ذنب قتلت.
هل جربت الشعور بنسيان اسمك، وهل تصورت ان تنساه يوماً؟ وكيف لا انساه وانا اخذ طعامي من على جثث المعدومين، وانام الى جنبهم في ظلمات ثلاث، وكأني أغرق في مقبرة عميقة، واصوات السجناء في الزنزانات المجاورة تعلو بالصياح والصراخ، أصوات الصراخ بأنواعها، تصبح وتمسي وكأنك امرأة تصرخ وهي على وشك الولادة، هذا الشعور عندما تحس روحك ستخرج من ركبتيك وهم يقرصونها بالقارصة، تصرخ حتى لا تشعر بالألم، وبعدها تبكي كالأطفال، تتمنى قبل ان تنام امنية، وان يحكى فوق رأسك قصة، الاميرة النائمة، او قصة الحظ البائس والحياة المرة.
لم اعد اشعر بأطرافي، ولا اشعر بالجوع او العطش، كنت اشعر بالحاجة الى مفارقة الحياة، لم أكن كبيراً كفاية، كنت في الحادية والعشرين من عمري، صغير على رؤية الدماء، ولكني كبرت عشرين سنة، وفي احدى المفارقات، سألني السجان عن اسمي، واجبته أني لا اعلم ولكن ابي اسمه فلان! وظن أنى اضحك عليه واستمر بضربي وتكرار نفس السؤال، ولم اعد قادراً على الإجابة فقد نسيت اسم ابي ايضاً، وحضر رئيس السجانين ليقول له انه عن جد نسي اسمه اتركه، واخذوا يضحكون ضحكاً عالياً ويتدحرجون في الأرض لأني نسيت اسمي واسم ابي، ولا أتذكر ان في الموضوع ما يضحك ولكنهم ضحكوا علي أكثر مما اضحكتني مسرحية مدرسة المشاغبين.
أطلق بعد أشهر سراحي، وترك السجن على جسمي علامات وان محتها الأيام الا انها ستبقى خالدة في ذاكرتي، الم في اطرافي وظهري وخلع في كتفي واصوات الصراخ ما زلت اسمعها حتى هذه اللحظة، رغم أنى اعتدتها وكأنها حبة دواء قبل كل ساعات نومي.
كانت هذه تجربتي في سجون البعث، وكانت هذه العبارات الطف ما يمكن وصفه عن تلك الأيام الصعاب والمحنة الكبيرة التي عشتها مع اصحابي في السجن الذين لا اعرفهم ولا أتذكر شكلهم. والى أرواح من مات ادعوا لهم بالرحمة والمغفرة والى من حمل معه مرضاً او إعاقة بالشفاء ورغد العيش، ولي حسن العاقبة )) .
وقد سجن المعتقل الحاج حازم عبد الأمير الكعبي لمدة ستة اشهر بالحبس الانفرادي والتهمة كالمعتاد التدين والتشيع ... – راجع برنامج من ذاكرة سجين ح٣ / قناة المنهاج الفضائية - .
وكذلك حكم الشاعر جواد الخطيب بالحبس في الزنزانة الانفرادية وكانت مساحتها مترا واحدا ومن ضمنها المرحاض ... – راجع برنامج ذاكرة سجين ح١٢ / قناة المنهاج - .
وقد شهد احد المعتقلين من اهالي الدجيل بما يلي : كان زبانية المخابرات يأخذون الاطفال – من عمر سنتين الى اربعة – من العوائل المعتقلة ويضعونهم في الزنازين الانفرادية , ويقوموا بإلقاء الماء عليهم واسماعهم اصوات حيوانات مخيفة مما يؤدي الى الاغماء والرعشة والرعب ... ولا يفيق الاطفال من رعبهم الا بعد فترة ... وهم يضحكون ...!!
- راجع قناة الاتجاه .. الفيلم الوثائقي "سنوات الجمر" الجزء الثاني - .
النظام الهجين التكريتي الصدامي القذر يسحق الطفولة ولا يراعي الحرمات والانسانية , فهذه العصابة الحقيرة سرقت من الاطفال براءتهم وابتسامتهم بل وغذاءهم وحياتهم احيانا ... .
ومن الاثار التي يتركها الحبس الانفرادي في الزنازين الضيقة والقذرة : يخلق في كثير من الأحيان ضغطاً نفسياً بحكم الواقع الفعلي، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤثِّر على المُحتجز في الفترة السابقة للمحاكمة بما يدفعه إلى الاعتراف بأنه مُذنب ... ؛ وفي ست حالات وثَّقتها منظمة العفو الدولية، أدى الحبس الانفرادي المطوَّل وإلى أجل غير مُسمى إلى مشاكل بدنية ونفسية للسجناء، من بينها آلام شديدة في الظهر والركبتين من جراء عدم الحركة، والاكتئاب، والأرق المزمن .