المرء بطبعه والانسان العراقي بطبيعته يحب العمل والسعي من اجل الرزق , ويكره البطالة والعوز والفقر والاستجداء والطلب من الاخرين , وهكذا كان العراقيون الاوائل يأكلون من عمل أيديهم وعرق جبينهم ، اذ كان فيهم الحداد والنجار والخياط والكاتب والطبيب ... ، إلى غير هذا مما يحتاجه الناس ويترتب عليه الرزق، بالإضافة الى التجارة، و الزراعة، وأنواع المكاسب الاخرى ، حتى يستغني الإنسان العراقي الاصيل عن الحاجة إلى الناس ويعيش بكرامة , وبلادهم حباها الله بالخيرات والنعم والثروات مما يسر عليهم اسباب الرزق والعيش الرغيد .
الا ان الاعداء والاجانب والغرباء والعملاء كانوا للعراقيين بالمرصاد ؛ والعراق محاط بالأعداء منذ القدم ؛ مما دفع الغزاة الطامعين والمرتزقة المنكوسين الى غزو البلاد - مرارا وتكرارا - ونهب خيراتها وسلب ثرواتها والتضييق على اهلها وافقار سكانها ... .
ومن المؤامرات الدولية المنكوسة ضد العراق والعراقيين الاصلاء , والمسرحيات الصدامية والعربية المكشوفة والمخططات الحاقدة : ( الحصار الدولي على العراق ) و هو الحصار الذي نتج عن قرار الأمم المتحدة رقم 661 الذي صدر في يوم 6 أغسطس 1990 ؛ نتيجة لاسترجاع الكويت وضمها للعراق ، ونص على اقرار عقوبات اقتصادية خانقة على العراق آنذاك بحجة الضغط على صدام للانسحاب الفوري من الكويت , وقد تلى هذا القرار عشر قرارات متتالية تقريباً ، تحذره من عواقب بقائه بالكويت وتحديه للمجتمع الدولي .
وقد عانى العراقيون الأمرّين من هذه العقوبات التي حرمتهم من الغذاء والدواء وابسط الاحتياجات الاخرى ، فضلاً عن كل وسائل التقدم والتطور والتكنولوجيا التي وصل إليها العالم في حقبة التسعينات من القرن الماضي، مما أدى إلى وفاة مليون ونصف مليون طفل نتيجة الجوع ونقص الدواء الحاد وافتقادهم إلى ابسط وسائل الحياة ؛ ناهيك عن ظهور عشرات بل مئات الظواهر الاجتماعية والثقافية والصحية والاقتصادية والدينية السلبية والسلوكيات الشاذة والانحلال والانحطاط الاخلاقي ... .
أستمر هذا الحصار الاجرامي الظالم قرابة 13 عام حيث انتهى عملياً بسقوط نظام حزب البعث الارهابي العميل وزمر الفئة الهجينة الفاسدة سنة 2003، وقد عانى فيها العراق من عزلة شديدة من معظم دول العالم سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً ، و أصبح العراق بعدها من أكثر دول المنطقة تأخراً وتخلفا وبؤسا وخاصة بعد السنوات التي تلت مسرحية حرب الخليج الثانية، حيث دمرت بنيتهُ التحتية من مصانع ومصافي – على قلتها - ومحطات توليد ومحطات المياه والمجاري – على شحتها - ، والتي عاد بها إلى حقبة :" ما قبل الصناعة" كما قال جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي وقتها.
وأدى الحصار الدولي والعربي الحاقد إلى نتائج مخيفة في جميع مجالات الحياة العامة الصحية والبيئية والاجتماعية والتربوية والعلمية والاقتصادية ؛ فقد بلغ حجم التضخم في نهاية عام 1994 معدل 24000% سنوياً، وتعمقت مظاهر التردي والترهل إلى الحد الذي أفقد المجتمع العراقي سمات المجتمع المتحضر المتماسك - ولو ظاهريا - الذي كان عليه قبل استرجاع الكويت ؛ فنظراً لعدم قدرة الحكومة الاجرامية الهجينة الصدامية على تأمين الوظائف الحكومية – على الرغم من تفاهة الرواتب والاجور وقتذاك - وفي القطاعات الصناعية التي توقفت نتيجة الحصار الاجرامي ، فقد تم تسريح ما يقارب ثلثي القوى العاملة مما ساهم في زيادة معدلات البطالة وتمزق الحياة العائلية نتيجة ارتفاع معدلات الجريمة، والعنف الاجتماعي، والرشوة، والانتحار، والسرقة، والتهريب، والبغاء، وجنوح الأحداث، وظواهر اجتماعية أخرى تؤكد الخلل الخطير في بنية المجتمع العراقي... . (1)
سأروي لكم بعضا من قصص الاطفال والشباب والشيوخ العراقيين الذين بذلوا الجهود الحثيثة لانتشال انفسهم وعوائلهم من وحل العوز والفقر الا انهم لم يفلحوا ايام الزمن البعثي التكريتي الصدامي القبيح :
راجت تجارة العتيق بكل صورها وانواعها في الزمن التكريتي الصدامي الاغبر , فمن تجارة الاثاث المستعمل الى تجارة الادوات المستعملة الاحتياطية للسيارات – ( والتي كانت تسمى بالتفصيخ او السكراب ) – وغيرهما ؛ وكثر الطلب على ادوات السيارات المستعملة وقتذاك , والمواطن العراقي الاصيل رضا قاسم الموسوي قد ضاق ذرعا بالفقر كأغلب العراقيين الاصلاء وقتها , وكانت عائلته مكونة من خمسة اشخاص بينهم اطفال ثلاثة , بالإضافة الى كونه مستأجرا لاحد البيوت الصغيرة في مدينة الثورة , و راح يبحث عن شتى الاعمال والمشاريع الاقتصادية والتجارية الصغيرة لإعالة عائلته , فأشار عليه بعضهم بالعمل في ( مهنة العتيق ) وشراء نوع معين من ادوات السيارات المستعملة , واقتنع رضا بالمشورة وذهب يطرق ابواب الاصدقاء والاقرباء للاستدانة , لان العمل يحتاج الى رأسمال , وتم له ذلك اذ اقترض مبلغا من المال , وراح يسير في الشوارع والازقة والقرى والمدن باحثا عن تلك الادوات المستعملة , وقد اشترى ادوات مستعملة بل شبه تالفة بكل امواله ؛ وذلك بسبب عدم خبرته بالأمر , ورجع رضا فرحا الى منطقة كسرة وعطش الصناعية لبيع بضاعته التالفة , وصدم عندما اخبره اصحاب الاختصاص بان هذه الادوات المستعلمة تالفة ولا تصلح لشيء , فرجع يجر اذيال الندم والحزن والحسرة الى اهله , وانطبق عليه المثل الشعبي الجنوبي : ((أم حسين جنتي بوحدة صرتي بثنين )) ؛ و يضرب هذا المثل لمن يقع في مشكلة يريد الخلاص منها فيقع في اخرى ؛ فقد كان محتارا في كيفية الحصول على القوت اليومي واذ به يقع بما هو اشد وأمر الا وهو تسديد ديون الناس , وبعد ايام من هول الصدمة , رجع المسكين رضا يبحث من جديد عن اي عمل , واذ به يرى سيارة حمل كبيرة في سوق ( الشورجة ) وبقربها عمال - ( حمالين ) – يحملون اقمشة من الكفن الابيض الى السيارة التي كانت ذاهبة الى النجف الاشرف , وتوسل بهم رضا وبعد بعد اللتيا والتي ؛ قبل صاحب العمل بتشغيل رضا معهم , وصعد العمال القدامى مع السائق الا رضا فقد اعتلى ظهر السيارة فوق الاقمشة العالية جدا , وسارت السيارة نحو النجف الاشرف ومعها صاحبنا رضا , وكان رضا ظهره لوجه او مقدم سيارة الحمل ونظره الى مؤخر السيارة , وكانت تسير السيارة مسرعة ومرت تحت احد الانفاق وبما البضاعة كانت عالية جدا ورضا كان يجلس فوقها ؛ واذ به يرتطم بحائط النفق ويتهشم رأسه ويذهب شهيدا في سبيل اللقمة الحلال وحماية الاطفال في زمن العار والاجرام والقسوة والخسة البعثية والصدامية .
وهكذا، يتحوَّل الفقر في حد ذاته إلى حائط صد منيع في وجه مساعي التغلُّب على الفقر، وهو ما يقود مثلا إلى اتخاذ قرارات مالية مُكلِّفة تزيد الوضع سوءا، مثل شراء ورق اليانصيب، أو أخذ قروض بفوائد عالية او الاستدانة , او العمل بمهن لا تتناسب ومؤهلات الشخص الفكرية والبدنية وخبراته العملية ؛ فضلا عن سياسيات الافقار الممنهجة المتعبة من قبل حكومات الفئة الهجينة ولاسيما الصدامية ضد الاغلبية العراقية .
والان اروي لكم قصة الطفل علي ناصر الذي ترك المدرسة الابتدائية والتحق بقوافل الاطفال المعذبين والبؤساء المشردين في شوارع واسواق العراق ابان العهد الصدامي الغاشم ؛ وذلك لان اباه المعاق - في مسرحية الحرب العراقية الايرانية- اصبح راتبه بلا قيمة ايام الحصار المشؤوم و لا يستطيع العمل , وامه ربة بيت , واخوته صغار , واخواته صبايا حبيسات الدار , انتخت العائلة ابنها الغيور وطفلها البريء البار فهب يجوب الاسواق يبيع ( العلاليق , العلاكة ) - اكياس النايلون - من الصبح حتى المساء , يتفحص وجوه المارة والمتبضعين علهم يشتروا منه ( العلاليق) ... وطالما اعياه التعب واخذ منه الجهد مأخذه ... وكم تمنى النوم ملتحفا (بالبطانية ) في ايام البرد القارص .. واحيانا تسرح عيناه مع اقرانه الاطفال الذين يذهبوا الى المدارس ... وعلى الرغم من أن مرحلة الطفولة تعتبر وقت الانطلاق والبهجة والاستكشاف وراحة البال، فإن الأطفال العراقيين الذين يعيشون في فقر مدقع يمضون وقتا أقل في استكشاف العالم من حولهم ووقتا أطول في الكفاح من أجل توفير مستلزمات الحياة .
ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم أحلام ؛ وعلي على هذه الحال حتى بلغ سن الثالثة عشر وقرر بيع السكائر واشترى سكائر ماركة (مارلبورو ) من احد اقرباءه في ( شورجة) جميلة وكان علي لا يعلم بان هذه السكائر كانت ضمن قائمة الممنوعات البعثية الصدامية الطويلة – فالممنوعات في عهد صدام لا عد لها ولا حصر – ففي كل يوم هنالك تشريع يمنع امرا ما , اذ ان القانون بنظر صدام ( جرة قلم ) كما عبر هو بنفسه عن ذلك .
وبينما علي يفترش الارض عارضا بضاعته الجديدة في الباب الشرقي ويدعو الله ان يرزقه بالرزق الحلال ويرجع الى اهله والطعام معه , واذ بمجموعة من منتسبي الامن الاقتصادي ينقضون على علي انقضاض الضباع على الفريسة , واخذ علي بالبكاء لشدة هول الصدمة مما دفع احد الاشخاص المصريين بالتوسل برجال الامن القساة السفلة الا انهم لم يصغوا اليه واخذوا الطفل معهم الى مديرية الامن الاقتصادي , وهناك رأى هذا الطفل العجب العجاب : نساء كادحات يأكلن من عرق جبيهن تم جلبهن وقد امروهن بتنظيف البناية كما الخادمات ... محجر صغير مليء بالمعتقلين من مختلف الاعمار ... وبين الفينة والاخرى يدخل جلاد على المحتجزين يسومهم سوء المعاملة والعذاب , فقد قام احد الجلادين بضرب المعتقلين واحدا تلو الاخر ( بالكيبلات ) على ايديهم حتى سالت الدماء منها بما فيهم الطفل علي ناصر ... , وقد جاء احد الضباط فأمرهم بالغناء – ( اغنية يا بط يا بط اسبح بالشط ) – والكل يجب ان يغني وبلا استثناء ومن لا يفعل يتعرض للعقوبة ... وفي الساعة الثالثة ليلا دخل عليهم احد الجلادين فأمر شابا صغيرا - لا يتجاوز عمره ال 16 عام - بصفع المعتقلين على وجوهم وبلا استثناء , امتثل الصبي لأمر الجلاد وراح يصفع المعتقلين واحدا تلو الاخر , وعندما وصل الدور لكبار السن من الشيوخ والعجزة والمرضى تردد الشاب , فزجره الجلاد وامره بصفعهم ايضا وامتثل الشاب وضرب احد الشيوخ وهو اولهم ضربا خفيفا جدا بل يعد ضربا ؛ مما اثار حفيظة الجلاد وانتقم من الشاب شر انتقام اذ جاءه مسرعا وركله ركلة قوية على كليتيه مما افقده الوعي ونقلوه خارج المحجر ... وعلي وقتها نسى هموم العيش وصعوبة الحصول على الرزق الحلال وتوفير القوت لعائلته وبدأ يفكر بهذا الجحيم الصدامي الرهيب والذي تناهى الى سمعه بعض القصص الرهيبة عنه ؛ الا انه الان وقع بما لم يكن بالحسبان ... ولصغر سن علي اكتفى المجرمون بمصادرة وسرقة بضاعته والافراج عنه ... رجع علي الى اهله بعد 3 ايام من العذاب والجوع والسهر ؛ ورأى العائلة في وضع مزري من شدة الحزن عليه واخذ الكل بالصراخ والعويل ... بعدها انخرط علي في مهنة العتيق يجوب القرى والمدن ... وطالما تعرض علي للابتزاز من قبل بعض ضعاف النفوس , وكلما مر في احدى القرى او المدن المحسوبة على الاقلية الهجينة تعرض للشتم والسب لا لشيء الا انه الحقد الاجنبي والطائفي والعنصري ضد ابناء العراق الاصلاء حتى وصل الامر بإحدى الصحف الرسمية وقتذاك ب تعتهم بالكلاب السائبة ؛ وسيرا على هذا النهج البعثي الصدامي المنكوس قامت بعض القنوات الفضائية المنكوسة باعداد برامج ومسلسلات بعنوان ( العتاكة ) تهدف للنيل من العراقيين الكادحين الشرفاء الذين سرقت ثرواتهم ونهبت خيراتهم فراحوا يأكلون من كد ايديهم بشرف وكرامة , ... اشمئزت نفسية علي من هذا العمل بسبب مضايقات البعض من الفئة الهجينة ومطاردة الاجهزة الامنية لهم في بعض مناطق الاقلية الهجينة ... مما اضطره الى ترك العمل ... ثم التحق مع خاله كريم للعمل في المنفذ الحدودي ( طريبيل ) لإجراء واكمال معاملات السيارات المستوردة وغيرها - والخط وفحص الشاصي ...الخ - ؛ وبينما علي منهكا في عمله جاءه احد ابناء الفئة الهجينة قائلا له : (( يا ول انتوا الشرجية ذركت طير وصرتوا , اصلكم ذركه مال طير ..!!)) ؛ امتعض الغيور علي من هذا الكلب الهجين والدخيل اللعين وترك العمل في الانبار ورجع قافلا الى بغداد ... وبعدها التحق علي ب ( العمالة بالمسطر ) فراح يكدح - في بناء البيوت- طوال النهار تحت اشعة الشمس اللاهبة لأجل توفير لقمة العيش لأهله , ودارت الايام وسقط صنم الطائفية والعنصرية والاجرام والفقر والحرمان ... وتتطوع علي في مسلك الشرطة وفرحت العائلة ايما فرح لأنه شعروا لأول مرة ان لهم دولة وحكومة ممكن ان تعطيهم شيئا ما ... وكان علي غيورا على وطنه ودينه الا ان الحظ لم يمهله .. فقد انتقل علي - مع كوكبة من شهداء وزارة الداخلية - الى جوار ربه ,اذ لقوا مصرعهم في منطقة ( سلمان باك ) على ايدي فلول الفئة الهجينة وشذاذ الافاق من الارهابيين الاعراب والاجانب والغرباء ...؛ ان رجال الفئة الهجينة يعضوا اصابهم ندما على من بقى حيا من الاغلبية العراقية في عهد المجرم صدام ؛ لذلك يسعون - الان - جاهدين على قتل من بقى حيا منهم ... .
ان الحياة المأساوية التي قضاها البطل علي ناصر – كما قضاها غيره من العراقيين الاصلاء – في العراق تعد نتيجة طبيعية للسياسات الاقتصادية الخاطئة بل التخريبية للحكومات الطائفية والعنصرية العميلة ولاسيما البعثية الصدامية ؛ اذ إن مشكلة ما يخلقها الفقر تستدعي أخرى، وهذه الأخرى بدورها تسهم في مشكلة جديدة وتؤدي في النهاية إلى سلسلة لا تنتهي من النتائج المدمرة . (2)
واليكم قصة ( ابو محمد كاطع خير الله الواسطي ) , الذي ظهرت عليه علامات السنين العجاف ،كأن خطوط الزمن تركت في ملامحه خطوطا تعبر عن مرور الزمن المر والمليء بالآهات والصعاب والاوجاع ... ،تبدأ قصة حياة كاطع خير الله في الريف – في بيت متواضع مكون من القصب والطين – وفيه أسرة كبيرة العدد، والده كان فلاحا وأمه ربة بيت ، ولديه ثمانية أخوة ،سبعة من الذكور و أخت واحدة ، وقد نشأ في أسرة بسيطة يجمعها الحب والحنان برغم فقر الحال ،كانت والدته تحتويهم بالحب والحنان وتفعل ما في وسعها لكى تدبر نفقات الحياة ،فقد كانت تحيك لأطفالها ولأهل (السلف ) لتساعد أباه في نفقات الحياة ،وكان والده يعمل ليل نهار ليوفر لهم متطلبات الحياة ، وطالما عاد ابوه في ليالي الشتاء والأمطار تبلل ملابسه وهو يحمل لهم الأطعمة ويرتجف من برد الشتاء ، وكانت والدته تستقبله بالفرحة والمحبة ،وتشكره على تعبه من أجلهم وتدعو له ،و كان كاطع يرى ذلك ويتألم لوالده ... وقد قرر كاطع وقتها ترك المدرسة الطينية الوحيدة في الريف وهو طفل في الثالثة عشر من عمره ، و أن يعمل بدون أن يخبر أسرته ، حتى يرفع عن كاهل والده نفقات دراسته ... ، وذهب إلى احد اقرباءه وكان صديق لوالده ،فأخبره أن يساعده في إيجاد عمل ولا يخبر والده ،فضحك قريبه ( زاير حسين ) ، وقال له : أنك ما زلت صغيرا ، فكيف ستعمل في ذلك السن ودراستك أبنى ، أنتظر حتى تأتى إجازة الصيف ( العطلة ) وسيدبرها الله .
وبعد الالحاح الشديد ؛ دبر ( زاير حسين ) عملا له في صناعة الاواني الفخارية واستمر في ذلك العمل عدة سنوات الى ان وافت المنية والده ... , عندها انتقلوا الى بغداد وعاشوا في الصرائف العشوائية ( منطقة العاصمة ) ... والتحق كاطع واخوته بالحزب الشيوعي العراقي وايدوا ثورة عام 1958 التصحيحية وعملوا في بغداد في مهنة ( العمالة ) فترة من الزمن , وبعدها عمل كاطع بإحدى دوائر الدولة ( موظف استعلامات ) ... , وبعد الانقلاب الدموي الغادر الاسود عام 1963 تعرضت عائلة كاطع خيرالله الى مضايقات الحرس القومي – البعثي – الاجرامي ؛ اذ اعتقلوا كاطع و ثلاثة من اخوته ؛ اثنان منهم ماتوا تحت وطأة التعذيب , ومن ثم افرج عن كاطع واخيه , وفصلوا كاطع من وظيفته , وعاد الى سابق عهده يبحث عن العمل من جديد , فعمل في افران ( الصمون ) وتزوج من بنت عمه , وانتقل من الصرائف - التي اضحت ميدانا يجوبها الحرس القومي الحقير بحثا عن الشيوعيين العراقيين وانصار الرئيس الثائر عبدالكريم قاسم – الى مدينة الثورة ... وركض العمر وكاطع يركض خلف لقمة العيش الصعبة في زمن الاوغاد السراق العملاء وقد انجب ثلاثة أخوة ، اثنان من الذكور و أخت واحدة ... ؛ اصيب كاطع بمرض الحساسية ( حساسية جلدية ) بحيث اصبح لا يستطيع التقرب من لهب وحرارة الفرن لاسيما في فصل الصيف اللاهب ؛ لذلك ترك العمل وانخرط في مهنة البقالة وبيع الفواكه والخضراوات ... واستمر على هذا الحال منتقلا من سوق الى اخر ومن شارع الى ثاني ... حتى اندلعت الحرب العراقية الايرانية ؛ وانقض عليه زبانية صدام والبعث بحجة التطوع في الجيش الشعبي ..., وقد نصحه اقاربه ومعارفه بأن لا يتردد في الالتحاق وذلك حفاظا على سلامته وسلامة اهله من غضب البعث والسلطة الغاشمة ... , والتحق كاطع بالجيش الشعبي في ذلك الظرف العصيب والحرب قائمة تحرق الاخضر واليابس وهو مرغم على ذلك , تاركا خلفه عائلة بلا معين .., وفي هذه الاثناء جاء نذير الشؤم الى كاطع وهو في الجبهة يزف اليه خبر مقتل اخيه في الجبهة .. وقد توسل كاطع بالمسؤولين والضباط لحضور مأتم اخيه الشهيد .. وبعدها التحق كاطع مرة اخرى الى الجبهة ... كان مرغما ان يقف في ليالي الشتاء القارص امام مقر القيادة العسكرية للفيلق , مرتديا ملابس الجيش الشعبي الخضراء , حاملا سلاحه بيده , متظاهرا بحماية النظام الهجين و الحزب الاجرامي الذي اعدم اخويه وتسبب بمقتل الاخ الثالث وطارد عائلته وفصله من وظيفته ... , وبعد اشهر ماتت ام كاطع حزنا وكمدا على ما حل بالعائلة من مصائب وفواجع .. , فهي لم تفارق مقبرة النجف ابدا , كانت تبكي وتنوح وتدعو على نفسها بالموت ؛... حتى وافاه الاجل .
وبعد سنوات طويلة مريرة عاد كاطع الى عائلته سالما جسديا الا انه مثخن بالجراح والالام النفسية ...وبعد ان التقط انفاسه رجع لمزاولة عمله في بيع الخضار والفواكه وقد بدأت ملامح الشيخوخة والهرم تظهر عليه ... واندلعت حرب الخليج عام 1991 وجاءه خبر مقتل ولده محمد في الجبهة , ولم يمض وقت طويل حتى تم القاء القبض على ولده علي بحجة المشاركة في الانتفاضة الجماهيرية في مدينة الثورة وغيب في طوامير السجون الصدامية الرهيبة .. , وبعد اشهر سلمت جثة علي – وقد بدى عليها اثار التعذيب الشديد – الى ابي محمد كاطع وامره الزبانية بدفع مبلغ ( رصاصات الاعدام ) وعدم اقامة مأتم على فلذة كبده .. وهكذا اضحى بلا اولاد يسندوا ظهره ويحلوا محله ... وعلى الرغم من كل هذه البلايا الطائفية والعذابات البعثية والجرائم الصدامية لم يزل كاطع صامدا صبورا على ( دكات ) الزمن الاغبر , اذ كان يفترش الارض و الرقي امامه ويصدح بأعلى صوته على المارة كي يشتروا منه ... وفي احد ايام تموز الحارة – عام 1994- وفي عز الظهيرة سقط البطل الغيور( ابو محمد كاطع خير الله الواسطي ) مغميا عليه من شدة اشعة الشمس اللاهبة ( ضربة شمس ) وتم نقله الى المستشفى وقد فارق الحياة ... .
ليست مشكلة الفقر في العراق وليدة نقص الموارد والثروات ؛ بل المشكلة تكمن في سياسات الحكومات الهجينة الطائفية والعنصرية و التي بددت ثروات العراق ولاسيما الجنوب على الاجانب والغرباء والمسرحيات الاستعمارية والحروب العبثية والازمات المفتعلة ؛ ناهيك عن الفساد والسرقات والتي من خلالها اضحوا من ذوي الثروات والشأن وعدوا من الاغنياء ... .
و أسوأ من الفقر، الأبواب التي تُغلق في وجوه الفقراء من الاغلبية العراقية بل اغلبهم اذ يحرموا من الفرص ويمنعوا من استغلال ثروات العراق او الاستفادة من امكانيات الدولة ، و في الوقت نفسه تفتح كل الابواب وعلى مصراعيها امام ابناء الفئة الهجينة والمرتزقة والبعثية والخونة لقضاء حوائجهم في هدوء وسلاسة , و الاغتناء غير المشروع واكتناز الثروات , على الرغم من تساوي القدرات والكفاءات والمؤهلات بين الطرفين إن لم يكن تفوق الاغلبية العراقية عليهم واضحا .
مما ينتج عنه انعدام ثقة الفقير او المواطن العراقي الاصيل بالمجتمع وفقدان احترامه لمبادئ التعايش ، وبغض السلطات الحاكمة بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية – لأنه يراها ظالمة و فاسدة وغير عادلة - ؛ اذ يشاهد المواطن العراقي بأم عينه كيف ان الاجنبي الدخيل والمصري والاردني والفلسطيني ... الغريب ينهل من ثروات العراق ويأكل من خيراته بينما يحرم هو ويجوع ابناءه ... ؛ مما ينتج عنه التعدي على الممتلكات العامة بل والخاصة احيانا سرقة، نهباً او غصباً او احتيالا ... وهذه نتيجة طبيعية لتلك المقدمات الظالمة والمجحفة ؛ ومما نسب الى حكيم العراق قوله : ((عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه)) و تُنسَبُ هذهِ المقولةُ لأبي ذرٍّ الغِفاريّ – ايضا- وإن صحَّت عنهُ فليسَ معناها الدّعوةُ إلى السّلبِ والسّرقةِ والغصب والجريمة ، فقَد كانَ لها مُقدّماتٌ تاريخيّةٌ سبّبَها الحكام الأمويّونَ زمنَ حكومةِ الخليفة عُثمانَ، حيثُ جعلَ المُجتمعَ يرزحُ تحتَ نارِ الطّبقيّةِ والفِئويّةِ والتمييز وعدم المساواة ؛ فقَد قرَّبَ عشيرتَهُ وأبعدَ سائر المسلمين ؛ومما يذكرهُ إبنُ أبي الحديدِ، أنّهُ قَد أتاهُ - أي عُثمانَ- أبو موسى مِنَ العراقِ بأموالٍ جليلةٍ ، فقسّمَها كُلّهَا في بني أُميّةَ، وأنكحَ الحارثَ بنَ الحكمِ إبنتَهُ عائشةَ فأعطاهُ مائةَ ألفٍ مِن بيتِ المالِ أيضاً بعدَ صرفِه زيداً بنَ أرقم عَن خزنِه .
وكذلكَ سارَ الخليفة عُثمانُ في رعيّتِه , يُوسِّعُ لأقربائِه الامويين في العطايا، والإماراتِ، ولا أدلّ على ذلكَ مِن مُعاويةَ بنِ أبي سُفيان ، الذي منحَهُ كاملَ الصّلاحيّةِ في إدارةِ الشّامِ ، فكانَ أطولَ الأُمراءِ إمارةً , وحيثُ كثُرَ الغِنى الفاحشُ ، وتسابقَ الغُزاةُ على الأمصارِ، لكسبِ المزيدِ مِنَ الغِنى واضطرت الطّبقةُ الثّريّةُ أن تستوردَ الرّقيقَ مِنَ الأمصارِ، لاستغلالِهم في استثماراتهم .
واستولى بنو أميّةَ على بعضِ مزارعِ الكُوفةِ والعراق ، وهجّروا أهلَها من اسلافنا العراقيين . وبقيَت طبقةٌ هُنالكَ مِنَ الفُقراءِ العربِ والعراقيين ناقمينَ على الفئةِ الثّريّةِ الفاسدة ، وكذلكَ أولئِكَ الذينَ فتحُوا البُلدانَ، ولَم تُتَح لهُم الفُرصةُ، كما أُتيحَت لغيرِهم مِن بني أُميّةَ، للإقامةِ في الأمصارِ، والاستحواذ على مُمتلكاتِها.
كانَ هذا الواقعُ الطّبقيُّ الذي تشكّلَ بفعلِ السّياسةِ المُنفلتةِ لعُثمان، سبباً في تشكُّلِ حالةٍ منَ الرّفضِ والتّمرّدِ والثورة ، تُمثّلُها الفئاتُ المَحرومةُ والمظلومة في المُجتمعِ ولاسيما العراقي – لانهم اباة الضيم - ، وهُم غالِباً، أولئكَ الذينَ ضاقُوا منَ الاحتكار الأمويّ في عهدِ عُثمان، وتمرّدوا تلقائيّاً لمّا ثقُلَ عليهِم أمرُهم ، وكانُوا هُم القاعدةَ الشعبية التي استجابت لفكرةِ التّحدّي والثّورةِ على الخليفة عُثمان .
وقد جاء سعيد بن العاص والياً الكوفة في عهد أبن عفان ؛ فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده ، وأنه سمر عنده ليلة وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس النخعيان، وفيهم مالك الأشتر في رجال، فقال سعيد:
إنما هذا السواد (العراق) بستان لقريش!
فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟
والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا إلا أن يكون كأحدنا"
وكان رد أبن العاص أن كتب لعثمان في مالك ورهطه فأمره ان يبعث بهم إلى معاوية وهو واليه على الشام.. ؛ تلكَ الحالةُ التي يُصوّرها أبو ذرٍّ الغفاري قائِلاً : عجِبتُ لمَن لا يجدُ قوتَ يومِه كيفَ، لا يخرجُ إلى النّاسِ شاهِراً سيفَه.
فهذا دليلٌ على وجودِ، فئةٍ مسحوقةٍ، ومغلوبٍ على أمرِها، لا تستطيعُ الإفصاحَ عَن واقعِها، مقموعةٍ بعُمّالِ و ولاة الخليفة عُثمان، وعناصرِ عشيرتِه ذاتِ النّفوذِ الوسيعِ في كُلِّ الأصقاعِ.(3)
وهذه العقلية المنكوسة والسياسة الفاسدة التي يؤمن بها حكام العراق العملاء والخونة والمنكوسين ؛ والتي ترى ان العراق ملكا خاصا للحاكم واهله وذويه ومن يلوذ به من زبانية جلادين وشراذم متملقة وحزبيين سفلة واقلام مأجورة ... ؛ هي مشكلتنا الحقيقية ؛ نعم قضيتنا الجوهرية مع من يرى ان العراق نهبا وملكا للمستعمرين والمحتلين ودول الجوار وعملاء وخونة الفئة الهجينة و(مخانيث وغمان وثولان ) الاغلبية العراقية وباقي مكونات الامة العراقية .
نعم ان أسوأ من الفقر، ما يترتب عليه من تآكل قيم الوطنية و الكفاح والاجتهاد والعصامية والنزاهة للوصول الى الطموح والآمال، مقابل تغوّل قيم العنصريات والطائفيات والفئويات والاحزاب والعمالة والخيانة والسرقات و المحسوبيات والوساطات والمجاملات التي تُفتَح في وجوه أبناء السفارات والعملاء والمرتبطين بالأجندات الخارجية وابناء ( ذوات اليوم سراق الامس ) حتى ولو كانوا بلا خيال ولا عقل ولا مواهب ولا كفاءات ولا مؤهلات ؛ فلا تستغرب من كثرة ( القرقوزية ) والقرود الذين ينطوا علينا بين الفينة والاخرى من كراسي المسؤولية والسلطة اوفي وسائل الاعلام او في المراكز والمحافل الدينية والثقافية .
و أسوأ ما في الفقر، انشغال الفقراء عن التعليم بتحصيل المال ، فبينما يُفترض بأطفالهم أن يدخلوا المدارس تراهم في الشوارع أو المحلات والازقة ، وإذا قُدِّر لهم المقدرة على دخول المدارس ، فتلك المخصصة لأمثالهم من المحرومين ، ليس لها من المدارس إلا اسمها ، وإذا قدر لهم مواصلة التعليم فبقدرٍ هائل من الضغوط وتحمل مشاقّ الحياة بحيث يصعب إن لم يكن (يستحيل) عليهم الأداء بشكلٍ جيد في التحصيل العلمي .
وأسوأ من الفقر، هو منع الفقراء – في حال قدرتهم على التعليم والتأهيل – من الوصول الى مناصب أو مراتب قيادية ، بحجة قلّة خبرتهم في إدارة شؤون الناس ، وكيف تكون لديهم خبرة وغيرهم من أبناء الفاسدين مِن الأغنياء والعملاء يتدربون منذ الصغر على قيادة الشعوب كقطعان تمّ توريثها من الوالد للولد ، ليتخرج أحدهم من المدرسة او الجامعة مديراً أو قائد لواء او مسؤولا حكوميا ، بينما نظراؤهم من الفقراء لم يحصلوا بعد على رقم قيد في سجلات التوظيف الهزيلة.
وأسوأ من الفقر المبالغة في تطبيق القوانين والشروط إذا كان المعنيّ هو الفقير، وتجاهلها تماماً إذا كان الغني هو المعني بالأمر. (4)
.....................................................................................................
1- آثار الحصار على العراق / اعداد : امين شحاته / بتصرف
2- جولة في عقول الفقراء.. هل يجعلنا الحرمان حقا أقل ذكاء؟ / اية ممدوح /بتصرف
3- لقَد شيّعنِي الحُسينُ (عليه السّلامُ) - إدريس الحُسينيّ المغربيّ ص١٩٥/ بتصرف
4- عن الفقر والفقراء / علي مُطَهَّرْ السَّوْدِي / بتصرف
ايام الزمن الاغبر /الحلقة الاولى / الفقير وخيارات الفقر المتعددة
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين