لا يختلف اثنان على اهمية دور الاعلام ولاسيما الفن في حياة الناس ؛ ودوره في التوعية والتنمية والتثقيف واغناء المشاعر بالرحمة والانسانية والصدق والوطنية والنزاهة والشجاعة ... , وكشف الاعمال الشريرة والجرائم والتصرفات الشاذة والخاطئة للجلادين والمجرمين والارهابيين ... الخ .
و يتميز فن كل مجتمع عن غيره بالتعبير عن أوضاع البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسمات معينة، فبعض الفنانين لا يرسمون او يمثلون او يعزفون او يغنون او يكتبون من أجل المال وإنما لهدف التغيير للأفضل ومن اجل الحق والحقيقة والوطن والامة العراقية ، لا من اجل حفنة من السحت الحرام او الدولارات المشبوهة والملوثة بدماء العراقيين في فضائيات الخسة والعمالة والعار .
فمن وظائف الفن والاعلام الوطني الاصيل حفظ الذاكرة الوطنية من خلال تسجيل وحفظ الاحداث والوقائع والشخصيات العراقية ؛ فالعمل الفني الهادف يجسد الذاكرة العراقية على شكل مجموعة من الصور والمشاعر والاحاسيس الانسانية المؤثرة ؛ فهو يوفر منظورا مختلفا للمشاعر اذ انه لا يمنح الفرح فقط بل يعمل ايضا على ايجاد طريقة ما للتعامل مع الالام والاحزان والتي مرت على العراقيين .
اذ ان شجب تلك الجرائم من خلال الفن يعد رسالة ذات تأثير فعال على سلوكيات ابناء الفئة الهجينة وشذاذ الامة العراقية وذلك من خلال مراجعة حساباتهم المنكوسة وتصحيح سلوكياتهم المرضية ؛ فالفن الاصيل الهادف هو أحد الحلول المجدية لمنع الجريمة، وذلك يتم عن طريق عرض الجرائم بصورة مؤثرة تخاطب الوجدان العراقي والضمير الانساني , وايضا عن طريق توفير الفن للجميع، مما سيؤدي إلى إبعاد الناس عن الشوارع وإلهائهم بأعمال تعبر بطرق إيجابية عنهم ، فالمشاركة في الأعمال الدرامية والغنائية والرقص والفنون البصرية وغيرها، قد أثبت فاعليته في الحد من انتشار الجريمة وكذلك تعزيز الروح الوطنية ؛ اذ ان للإعلام و الفنون قدرة هائلة في توسيع خيال الاقوام وإلهابها بقيم الوطنية و التضحية والفداء من اجل الوطن والمواطن ، كما أن لها قدرة عظيمة في إعادة تصور الجماعات العراقية لنفسها وتاريخها بوصفها أمة خالدة لها تاريخ حيوي وحضارة مجيدة، خلقت رموزاً كانوا منارات في التاريخ الإنساني وصنعت انجازات لا تنسى . .
ولابد للفن العراقي المعاصر الاصيل من تعزيز الشعور بالوطن والاهتمام بالمصالح العليا للامة العراقية , وحث المشاهدين والمستمعين والمتلقين على التفاعل مع قضايا حقوق الانسان العراقي وادانة وشجب كافة انواع الجرائم والانتهاكات والخيانات والمؤامرات , والتعبير عن تاريخ وحاضر العراق بصورة واقعية وايجابية تعكس عظمة العراق والامة العراقية وهموم وتطلعات العراقيين , واعادة صياغة الهوية الوطنية بما ينسجم مع الحقائق والوقائع التاريخية والمصالح والقيم العراقية , وتعزيز ثقة المواطنين بأنفسهم وحكوماتهم و قاداتهم وشخصياتهم و وطنهم ... , ومساعدتهم على تبني التفكير الايجابي والتنمية البشرية الخلاقة .
ومن الواضح ان الامة العراقية عاشت - ولاسيما الاغلبية - تحت تهديد خطر وجودي يتربص بها ويستهدف هويتها الوطنية وتاريخها العراقي الاصيل بل ويضع قيمها ومُثُلها وعاداتها وثقافتها موضع شك و تساؤل ؛ طيلة فترات حكم الفئة الهجينة وبالذات في العهد البعثي الصدامي الهجين ؛ من هنا تبرز اهمية كافة اشكال الفنون وتتأكد ضرورة صور الاعلام الوطني الاصيل المختلفة بوصفها الأدوات اللازمة والضرورية لتجذير الهوية الوطنية الاصيلة وترسيخها في وعي ووجدان الناس باعتبارها هويات مقاومة وتحدي لهذا الخطر المنكوس .
بذلك يعد التمثيل السينمائي والمسرحي والاذاعي وكافة أشكال الفنون الاخرى وسائل ضرورية لخلق فهم جماعي للتاريخ يكون رافداً في ترسيخ الهوية التاريخية للأمة العراقية والنظر إلى الأمة العراقية في كينونتها التاريخية، أي في أبعادها الثلاث سواءً في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وهو ما يعطي لكل فعل مقاوم وكل تضحية معنى سامياً يتجاوز اللحظة الراهنة ويصلها بماضي الأجداد ومستقبل الأبناء.
من هنا تأتي أهمية وقيمة التمثيل السينمائي والفنون الاخرى بوصفهما أدوات تخييل لازمة لخلق الهويات الوطنية المقاومة والتي يعجز التنظير الفكري الجاف عن بلورتها وخلقها كما تفعل الفنون والآداب.
و الإبداع لا يقتصر على الرسم أو الغناء أو المسرح . بل أن الدفاع عن صوت الشعب الواعي وحق الامة العراقية في التعبير عن رأيها ضد كل صور الهيمنة والظلم والقمع لهو أيضًا عمل ابداعي وثوري في آن واحد , فالقهر السياسي والتمييز الطائفي والعنصري و المناطقي الذي سيطر على واقعنا العراقي ابان حكم الانظمة الهجينة ولاسيما الطغمة التكريتية الصدامية المجرمة يحتمان على النخب الفنية الوطنية خوض معركة الفن من أجل كشف الحقيقة المغيبة ومقارعة الجلادين والذباحين والقتلة من ايتام النظام .
لقد تقطّعت السبل بالأحرار حتى لم يعد هناك طريقًا آخر غير ذلك ؛ فلابد أن تضع النخب الفنية والثقافية والاعلامية والفكرية والوطنية والسياسية مشاريع تعتمد جوهريا على الفن بوصفه أداة حيوية قادرة على خلق حراك ثقافي اجتماعي ضد كل أشكال الظلم والقهر والاستعباد والتهميش والاقصاء والديكتاتورية والتخلف والرجعية .
ان المرحلة التاريخية الحساسة التي نعيشها الان تحتم على الفنانين النهوض بالواقع وكشف الملابسات التاريخية فالتوجه الوطني الثوري الواقع على عاتق الفن الآن ليس أمرًا اختياريا بل حتميا, فلا يمكن لعمل فني أو إبداعي أن ينبت في بيئة لا تعرف غير الأغلال والسجون والقيود والرؤى المنكوسة والآراء العنصرية والطائفية المقيتة ؛ وهؤلاء المنكوسون يريدون ارجاع عقارب الساعة الى الوراء ؛ كي يحرموا الامة العراقية من الحرية ؛ علما : "إنّ الحريّة هي الجوهرة الوحيدة المتبقيّة لنا في زحمة الضغوطات اليومية." – كما قال إيمانويل كانط - .
وبما ان الفن شرط ملازم لأي حراك ثوري وتغيير اجتماعي ؛ لابد من انتاج مئات الافلام والمسلسلات والبرامج الوطنية الاصيلة والتي تسلط الاضواء على كل جرائم وموبقات الانظمة الهجينة السابقة وتصحح القراءة التاريخية وصولا لنقد الاوضاع الراهنة نقدا بناءا هادفا .
نحتاج لإنتاج اغاني واناشيد وقصائد وصور ورسومات وبرامج وافلام تجسد ما مرت بها الامة العراقية في عهود الظلام والقهر والجوع والحرمان والتمييز الطائفي والقومي والعنصري والمناطقي ؛و لابد من تعدد وسائل التعبير عن ماضي وتاريخ الامة العراقية وحاضرها ؛ ودور الفن هنا ليس دورا ثانويا بل ضرورة تاريخية ملحة وردة فعل ضرورية لانعكاسات الواقع العراقي المرتبك والمشوش وتداعيات وملابسات المرحلة الراهنة .
ان اللطمات المتلاحقة والصفعات المتواصلة التي تلقتها الامة العراقية من الاستعمار الانكليزي والانظمة الهجينة العميلة ولاسيما في عهدي ( مشعول اللشة ) الطائفي القومجي عبدالسلام عارف ونظام الطغمة التكريتية ؛ افقدت الامة بوصلتها وشلت حركتها , مما اثر سلبا على حركة الفن ومستوى الفنان ؛اذ ظهرت العديد من الاعمال الفنية والبرامج الاعلامية الهابطة والمسمومة والمنكوسة والكاذبة والتي لا تمثل ضمير الامة العراقية وتاريخها ولا تعبر عن هموم وتطلعات المواطنين العراقيين ؛ بل ان الفن نفسه اصبح اداة قمعية وسلبية ولا يعبر الا عن واقع السلطة والفئة الهجينة الطارئة والخط المنكوس ؛ وعلى الرغم من كل تلك العراقيل والعقبات التي وضعت في طريق الفن الاصيل والفنان الوطني ؛ ، هذا بالإضافة الى ان فاتورة الاعمال الفنية والابداعية الوطنية الاصيلة باهظة الثمن جدا ؛ اذ قد تؤدي بحياة الفنان نفسه كما حدث للعديد من الفنانين والمبدعين العراقيين ؛ ظهرت اعمال فنية وابداعية عراقية اصيلة عرت الانظمة الهجينة وفضحتها عالميا وسلطت الاضواء على جرائم النظام البعثي التكريتي الغاشم ؛ ومن هؤلاء الكبار : الشاعر مهدي الجواهري والشاعر مظفر النواب والشاعر سليم مطر والفنان فؤاد سالم وغيرهم كثير ....
ويعتبر الفهم المستنير والادراك الواعي لقضايا الامة العراقية وحاجات المجتمع العراقي في ظل الحاجة لحراك ثوري تنويري تصحيحي وطني أكبر التحديات التي يواجها الفن وفئة الفنانين أو المهتمين بالأعمال الإبداعيّة والثقافية والفكرية ككل ؛ ففي الوقت الذي يوجد فيه مئات الأبواق الإعلاميّة المنكوسة والرخيصة والعميلة والمأجورة و التي تعمل على زعزعة الاوضاع الداخلية وخلق فتن وازمات مفتعلة ونقل صور سلبية واحداث سيئة عن العراق للأجانب والغرباء وتبييض صفحة الانظمة الهجينة ورجالاتها و ترسيخ أقدام الغرباء والاجانب في العراق ؛ يقع على عاتق النخب الفنية والثقافية والفكرية ، التي تسعى نحو تغيير وطني حقيقي مستدام ، مسؤولية تقديم مشاريع واعمال فنية وثقافية وابداعية فعالة وايجابية ومؤثرة تعالج قضايا الامة العراقية وهمومها وتطلعاتها , ولعل من اهمها سرد الاحداث والوقائع التاريخية ولاسيما الجرائم والمقابر الجماعية والاعدامات والمعتقلات والسجون الرهيبة والحروب المدمرة ... الخ ؛ بالإضافة الى التأكيد على قيم حقوق الانسان وامتيازات و واجبات المواطنة العراقية وحرية الرأي والتعبير والعدالة الاجتماعية والمساواة ... الخ ؛ وتلك المشاريع والرؤى والافكار والأيدولوجيات حين تستخدم الفن، تشكيلي أو فوتوغرافي أو مسرحي او سينمائي او اذاعي أو حتى الكتابات الإبداعيّة ... الخ ، فهي بصدد زرع مفاهيم التنمية و الحرية والعدل والجمال في مواجهة العنف والظلم والطغيان والطائفية والعنصرية والخط المنكوس .
فتغيير الواقع العراقي ليس مطلب مستحيل بل هو ممكن في أفق من الرؤية المستنيرة لمعطيات الواقع , ويكون الفن بذلك أداة للانتقال الديمقراطي في بلاد لم تعرف عن الانتقال – طيلة حكم الانظمة الهجينة - سوى التحول من سيئ لأسوأ ومن الأسوأ للأكثر سوء؛ لذلك، فإن خلق واقع مغاير انطلاقا من مشروع فكري وثقافي و فني واضح الأهداف والمعالم وواثق من أدواته يُمكن أن يكون نواة حراك ثوري يحرر العراقيين من الاضطهاد والطغيان والعنف والطائفية والعنصرية واغلال الخط المنكوس , وبالرغم من أن لا شيء في واقعنا العراقي الحالي ينبأ بحل اصيل سريع ، إلا أن إمكانية انطلاق تلك المشاريع الاصيلة والرؤى الوطنية وعدم استحالتها يفتح أفق أمل في هذا المشهد المشوش .
فالفن واحد من الأدوات الحساسة التي يمكن بموجبها فهم في أي اتجاه يسير المجتمع ؛ فهو لا يسير وفق التدفق الطبيعي للظرف الاجتماعي والأحداث بقدر ما يعكس أو يحرك تلك الأحداث ويمثل وجهة نظر السلطة والمتنفذين , وهذا الدور بالتحديد هو ما يستهدفه الدكتاتوريون والمنكوسون ، وهذا الامر يصير الفن الاصيل والفنانين الوطنيين في مواجهة مع خصومهم السياسيين العملاء والمنكوسين ؛ وذلك لأن التعبير عن الحرية وضمير الامة ، في أي شكل من أشكال الفن، يمكن أن يُشعل نار التمرد الجماهيري ؛ فإذا كان الفنان الاصيل ملتزم بهدفه النبيل تجاه قضايا وطنه وهموم شعبه ؛ فهو بعمله الفني يستطيع معالجة أكثر القضايا إلحاحا , وسواء كانت تلك المعالجة عن طريق الفنون البصرية أو الأدبية فإنها في جوهرها ممارسة مجتمعية تفاعلية قد تشعل مطالب التغيير أو توفر مساحات للتفكير الحر.
فتحدي المناخ السياسي الغاشم و محاولة تغيير السياق الاجتماعي الراكد وغرس فكرة : "الحاجة لوضع أفضل" في نفوس الناس كفيلٌ بأن يجعل الفن على قائمة أولويات أي نُخب ثورية او ثقافية أو قوى اجتماعية مؤثرة ؛ فالنفوذ السياسي، وإن كان قاهرًا وقمعيًّا ، الا انه لا يستطيع أن يكبح زمام الخيال إذا ما تمنى الناس عالما أفضل .
و هناك سؤال مرتبط دائمًا بالفنون والمهتمين بها أو بالأحرى اشكالية ؛ وهي : أن الاهتمام بالفن رفاهية زائدة لا يستطيع تحمل تكلفتها الفقير والجائع والمحتاج ؛ وأن المهتمين بالفنون نخبة من الناس انتهت جميع مشاكلهم في الحياة حتى لم يبقى لهم سواء ذاك الاهتمام , فما الجدوى من الاهتمام بالفنون في عالم يموت فيه طفل كل 15 ثانية من الجوع ؟! وما حجم التغيير الاجتماعي الذي نستطيع أن نعول عليه من وراء الفن ؟ ومن ذاك الذي قال إن الفن قد يُنقذ العالم ؟
عددٌ من الأسئلة التي عادة ما تلقى في وجه المهتمين بالفنون , ورغم أن الإجابة عن تلك الأسئلة يعد أمرا إشكاليا، إلا أن فهم طبيعة القوى الدافعة للتغيرات الاجتماعية قد يسلط الضوء على أهمية الفن , هل يستطيع الفن أنّ يُحدِث تغيير جوهري في المجتمع ؟ نعم، يستطيع.
فالفن يعكس دائما أعمق التطورات الاجتماعية وأشدها رعبا , وسواء كانت التغيرات الاجتماعية هي التي تقود الفن أم الفن هو من يقود التغيير الاجتماعي، في علاقة جدلية ، فإن التغيير الجوهري الذي يقوم به الفن ليس في خلق حالة تمرد ضد وضع سائد أو أن يعكس مأساة ما فقط ؛ للفن على الرغم من ذلك ، دورًا أكثر محورية وأشد خطورة ؛ وهو أن الاهتمام بالجماليّات بوجه عام يخلق في النفس البشريّة ما يُمكن اعتباره الغاية من الوجود الإنساني على الأرض منذ أول الخليقة وحتى الآن ؛ وهو أن يستحسن الإنسان ما هو جميل ويستقبح ما هو قبيح ؛ فلا يقبل الدنية على نفسه أو على غيره ؛ وهذه مسؤولية الفن الوطني الاصيل .
لا شك في أن الفن الاصيل يجسد الحياة الحقيقية في أي مجتمع باختلاف الحقبة والزمن وينقل الواقع في كثير من الأحيان وكأن الفن وثيقة تاريخية لثقافة أي مجتمع، حيث تتجسد العادات والتقاليد والموروثات والأعراف من خلاله، لتتناقله الأجيال القادمة، ويمكن للفن بأشكاله وأنواعه – التمثيل والغناء والشعر والرسم والأدب والرقص وغيره – أن يعزز الانتماء والولاء والمواطنة كرسالة هادفة يؤديها الفنان ضمن رسالاته المتعددة.
ولابد للفنان العراقي الاصيل من الاعتزاز بهويته العراقية العريقة وألا ينسلخ منها ويستبدلها بهوية بلد آخر ، وذلك من خلال الكلمة واللحن واللهجة العراقية الاصيلة التي يتغنى بها اسلافنا الاوائل .
لأننا ما عدنا نلتمس ذلك في الفن العراقي بعدما أهملت الدراما العراقية بشكل قاسٍ جداً وأهمل الفنان العراقي وأهملت بذلك رسالة الدراما العراقية . كنت أتمنى من النخب العراقية من المطالبة بإنتاج مسلسلات وافلام وبرامج عراقية تسهم في نبذ الطائفية والعنصرية والعنف ودعوات الخط المنكوس وتعزيز الانتماء وحب الوطن والاشادة بتضحيات الامة العراقية وفضح مسيرة العملاء والمجرمين والمنكوسين ... .
وعليه لابد من انتاج أفلام ومسلسلات أصيلة وطنية هادفة , ولعل من اولى بوادر تلك الصحوة الوطنية الفيلم السنيمائي العراقي : (( احياء تحت التراب )). الذي يتحدث عن وقائع حقيقية تخص المقابر الجماعية في مدينة الناصرية ومقاومة احرار العراق للطغمة الهجينة الباغية ومعاناة وعذاب وقتل الابرياء في اعقاب الانتفاضة الجماهيرية العراقية الخالدة عام 1991 , وبالتحديد في قرية ( آل محينه) والواقعة ضمن الرقعة الإدارية لناحية ( الفضليه) ، والتي تفصل قضاء ( سوق الشيوخ) عن مركز مدينة الناصرية , والذي انتج عام 2008 من تأليف الكاتب علي عوده الناصري , واخراج مصطفى عبد الحسين الزهيري , والمنتج : مؤسسة شهداء العراق والمتمثلة بالدكتور ( خلف عبد الصمد) .
وقد كان الفيلم عبارة مسرحية بسيطة تم عرضها على قاعة المركز الثقافي في الناصرية ، وكان لها تأثيرا مباشرا على المشاهد والمتلقي الذين تزايد إقبالهم لحضور هذا العرض ، نتيجة لما كان يحمله مضمون هذا العمل من خطاب أنساني وطني جسدت فيه الكثير من صور البطولة والتحدي والمعاناة والالام والهموم والمجازر والجرائم التي تعرض لها ابناء المنطقة على يد القوات الصدامية والبعثية الارهابية ، والتي أعادت إلى بال مشاهديها أبرز ذكريات تلك القصص والحكايات التي جرت أحداث وقائعها أبان حكم النظام البائد ، حيث اختفى حينذاك الكثير من أبناء المدينة نتيجة لمقارعة الظلم ، ولأجل هذا صممت نخبة من مبدعي مدينة الناصرية على تحويل هذه العمل الرائع إلى مشروع فيلم سينمائي تضمن( 48) مشهد وبزمن قياسي قدره (90 دقيقة )، علما أن إمكانيات هذا العمل كانت جدا بسيطة تتقدمها جهود مباركة من لدن كادر العمل المتضمن نخبة من الفنانين والإداريين ؛ فقد شارك فيه 60 فنان واداري .
وقد تمثلت مشاهد الفيلم بالكثير من الماسي ومنها الكشف عن احدى المقابر الجماعية في الناصرية ، حيث تبين للمشاهد من خلال تمثيل وقائع هذا العمل السينمائي أبشع المشاهد التي تناولت التعذيب والتنكيل اللذين تعرض لهما أهالي قرية صغيرة في جنوب العراق ، اذ وجدت مقبرة جماعية في اطراف بساتين قرية ( ال محينه ) ، تلك المدافن التي قبرت بجوفها رفات وهياكل لكثير من الأطفال والنساء والشيوخ ، والذين دفنت معهم كل الأشياء التي كانوا يحملونها يوم استشهادهم ، وخصوصا تلك المجموعة من الأطفال الذين كانوا يحتضنون لعبهم . وعلى الرغم من أن المخرج وكاتب السيناريو قد نجح في تقديم النكبة بصورة شبه واقعية ومؤثرة الا انه من الصعب عليه تجسيد كل تلك الجرائم والمقابر الجماعية بكل أبعادها وأعماقها واسرارها , إلا أنه تدخل ككاتب لجعل شخصيات الفيلم تجسد جزء من الواقع الحقيقي والمأساة الرهيبة التي تعرض لها ابناء الامة العراقية الاصلاء ؛ حتى لحظات الضعف الانساني التي قد يتعرض لها الانسان عرضها المخرج في دور صاحب ( المشحوف المعبرجي ) كزار ,و لعل المشاهد والقارئ لا يفكر فيما وراء السطور والصور والمشاهد المؤلمة والتي تجسد تلك الحقبة المظلمة من تاريخ الامة العراقية ؛ اذ يتخلل كل سطر ومشهد وصورة مشاعر انسانية حزينة والام بشرية مستمرة وقد تلاحق صاحبها حتى الممات ؛ وقد مر الكاتب على مشهد ( ابو حسوني ) مرور الكرام ذاك الذي فقد طفليه ( بنته البالغة من العمر 6 سنوات وابنه ذو الخمس سنوات ) ؛ الله يعلم كما عاني هذا الرجل وكيف تحول الى كتلة من الهموم والاحزان , والشيء بالشيء يذكر شاهدت في احدى الايام في عقد التسعينات شيخا كبيرا يلبس دشداشة سوداء دائما ولا يغير هذا اللون ابدا وكان عبوسا مكفهرا يعلو محياه الحزن والام السنين , وكان دائم التردد على السوق , فسألته في احدى المرات بعد ان توطدت العلاقة فيما بيننا عن سبب ارتدائه للدشداشة السوداء وحزنه ؛ فقال لي : فقدت 7 اولاد و3 بنات و زوجتي وامي في كربلاء عام 1991 عندما دخلت القوات الصدامية الى كربلاء قتلت كل عائلتي وهدمت بيتي ولم يبق لي شيء في هذا الدنيا , واردف قائلا ليتني كنت معهم حينها , اذ كنت في بغداد حينها لطلب الرزق ولم استطع الرجوع اليهم بعد ان حمى الوطيس وقطعت الطرق من خلال مفرزات الحرس الجمهوري التي لا تفرق بين طفل وشيخ .
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل أن الفيلم جاء متوازنا ومتميزا من الناحية الفنية والتقنية , و النقدية خاليا من الهنات والعيوب الواقع يقول : غير ذلك فالنجاح يعود إلى غياب مثل هذه النوعية من الأفلام الحقيقية الاصيلة لسنوات بل عقود طويلة وتعطش الفنانون والجماهير لرؤية بطولات وازمات وصراعات وانتكاسات وانجازات الامة العراقية , علاوة على أن الفيلم تم إنتاجه بميزانية متواضعة , وتصدي لتمثيل الادوار فيه اشخاص لا يمتلكون تاريخا فنيا طويلا ولا اداءا مميزا , وكذلك كاميرا التصوير لم تكن باحترافية عالية ... كل هذه العوامل تدفعنا لإنجاز العديد من الافلام المؤثرة والاحترافية حتى لو اضطررنا للاستعانة بالخبرات الفنية الاجنبية ؛ فعلى الرغم من اهمية موضوع الفيلم الا انه لا يحتوي صيغة روائية طويلة ومتعددة الاطراف والشخصيات , فهو مجرد تصوير لمنطقة محددة في الناصرية , حيث يتقدم الصداميون على المنطقة ويقترفون جرائم التطهير العرقي بحق المواطنين الذين ظهروا بأعداد قليلة في الفيلم , ونفس هذا الامر ينطبق على المجاهدين الاحرار الذين كانوا يقارعون النظام اذ لم يظهروا الا في مشهدين مقتضبين .
ان الإعداد لمثل هكذا اعمال فنية عظيمة وكبيرة تعكس واقع الامة العراقية وتاريخها المليء بالمطبات والمتناقضات والجرائم والمجازر والتي عاشتها ابان حكومات الفئة الهجينة ولاسيما الحكومة البعثية المنكوسة ؛ يحتاج لمعايشة ميدانية لعدة اشهر - من المخرج والكاتب بل والفنان - مع ضباط ومراتب الجيش الصدامي واجهزته القمعية وتدوين شهاداتهم , مع الاطلاع على الوثائق والمستندات الحكومية الموجودة في مؤسسة الشهداء والسجناء وملفات المخابرات واجهزة الامن , وكذلك قراءة كل الكتب والروايات التي وثقت عذابات والام وهموم تلك المرحلة العصيبة ؛ مع الاهتمام البالغ بإفادات الشهود الاحياء من السجناء وذوي الشهداء ؛ كي يتعلموا كيف تدار ماكنة الحروب والتعذيب والاعتقالات وعمليات التطهير العرقي والطائفي , وليتعرفوا على سلوكيات القتلة المجرمين والمرضى الجلادين ومشاعر السجناء المقهورين وضحايا المقابر والاعدامات الجماعية من العراقيين الاصلاء والمعارضين الاحرار . هذا بالإضافة الى رصد المبالغ المطلوبة لإنجاح مثل هكذا الاعمال مع الاستعانة بالخبرات الفنية الاجنبية العالية , والاهتمام بالديكورات والمناظر والمشاهد التي تجسد الواقع العراقي آنذاك .
ولعل خير ما أختتم به المخرج الفيلم موسيقى فيلم الرسالة اثناء تشييع شهداء المقابر الجماعية ؛ اذ عبرت تلك الموسيقى عما لا يمكنك قوله او تصويره ؛ واظهرت عظمة الملحمة العراقية الخالدة ضد الغزاة والطغاة .