الحلقة الاولى
يعزو كثير من الباحثين الى ان من اسباب تخلف وتأخر مجتمعنا ؛ تحوله لظاهرة كلامية بحتة ؛ حيث يعج مجتمعنا بجيوش جرارة من الشعراء والخطباء و( المهاويل ) و ( الفراضة ) و( الشيوخ ) والمتكلمين والمتشدقين ورجال الدين والساسة والمهجرين والاعلاميين والصحفيين ... الخ ؛ بل ما من مواطن الا ويرى نفسه ( شخصية وصدر ديوان ) ويجب ان يتصدر المشهد السياسي او الاجتماعي او الديني او الاعلامي او الثقافي ... الخ ؛ ولعل البيت الشعري الاتي للشاعر علي الشرقي يوضح ذلك :
قومي رؤوس كلهم - أرأيت مزرعة البصل؟
وانا في هذه المقالة لا اقصد القدح بمعشر المتكلمين ولا اريد النيل من الذين ذكرتهم انفا كلهم وبلا استثناء ؛ بقدر ما احاول ان اسلط الاضواء على التساؤل المطروح على بساط البحث : هل نحن مجرد ظاهرة كلامية سطحية وقشرية دون اي مضمون حقيقي او محتوى علمي ؟؟
وقد اجاب الكاتب المفكر العربي عبد الله القصيبي في كتابه : (العرب ظاهرة صوتية ) عن ذلك التساؤل بعدة اجابات ومنها – وكان يقصد بذلك كل المجتمعات العربية - :
« حقًا.. إن العرب ظاهرة كلامية أو لغوية، قد يكون الصدق أنهم ظاهرة صوتية أو تصويتية، أي أنهم لم يبلغوا طور أن يكونوا ظاهرة كلامية أو لغوية».
«إن العرب لا يعظمون شيئًا مثل تعظيمهم للأذن لأن الأذن هي وحدها المستقبل للفم المصوت، المرحب به، المتعامل معه، إنه لا يوجد صديق أو مستقبل مرحب هاتف للفم غير الأذن أو مثل الأذن».
«العرب مصوتون فقط، ومستوياتهم ونماذج تصويتهم هي مستويات ونماذج يتفردون بها هم ومن يساورونهم في مواهبهم وطاقاتهم وأطوارهم البشرية التكوينية.. إن التفاوت بين مستويات ونماذج تصويت وتصويت في تفاسيرها يساوى كل الفروق من يبتكرون الحضارات ومن يلعنونها أو يهينونها باستهلاكهم لها.. أما الآخرون فإنهم ليسوا مصوتين فقط. إنهم أيضًا متكلمون أي مفكرون ومخططون وخلاقون.. إن التصويت ليس ظاهرتهم، ولكنه أحد أساليبهم وتفاسيرهم.. إن ظاهرتهم هي إبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوز الطبيعة وفهمها وتفسيرها قراءة فهم وتفسير ومحاكمة وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق».
«إن العرب ليظلوا يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى ليذهبوا يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبق شيء عظيم أو جيد لم يفعلوه لكى يفعلوه».
اسرفنا في استهلاك الكلام والكلمات حتى اصبنا بتخمة الثرثرة , و فقدت المفردات كل معناها , واختفى بريق بعض المصطلحات والعبارات , واضحت الكلمات بلا مضامين حقيقية , مجرد كلام للاستهلاك الاعلامي والمجاملات الاجتماعية الميتة .
وقد حذر الحكيم الصيني الشهير كونفوشيوس من هذه الظاهرة السلبية المدمرة :
اذ سُئل كونفوشيوس : هل تستطيع أن تُصلح العالم ؟ فأجاب : نعم ، « إذا أصلحت اللغة التي يتحدث بها الناس »، ثم سُئل : «لماذا ؟» فأجاب : «إذا لم تكن اللغة سليمة ، فما يُقال ليس هو المقصود ، وما يستحق الإنجاز لن يُنجز ، وإذا لم يُنجز ما يستحق إنجازه ، فإن الأخلاق والفنون يحل بهما الانحطاط، وإذا ما انحطت الأخلاق والفنون فالعدالة ستنحرف، وإذا ما انحرفت العدالة ، وقف الناس مضطربين لا حول ولا قوة لهم. ولهذا، يجب التخلي عن الاعتباط في القول، وهذا أمر يفوق في أهميته كل أمر آخر» ، فسلامة اللغة ، من وجهة نظر «كونفوشيوس» من سلامة المجتمع .
تصور حال مجتمع فيه : يكذب الرجل على زوجته وحبيبته ؛و لا يقتصر الكذب على العواطف والمشاعر فقط ، بل يكذب الرجل في كثير من الأشياء مثل ملاءته المالية أو طبيعة عمله أو مستواه الاجتماعية أو درجته العلمية، أو بشأن علاقاته السابقة ، على العموم سيكون الرجل الكاذب في الحب كتلة من الكذب في كل شيء , مع هذا الكم الهائل من الجحيم كيف تستطيع المرأة - والتي هي نصف المجتمع - العيش بسلام واستقرار و وئام مع هكذا صنف من الرجال الانانيين المنافقين ؛ لا يكترث ولا يهتم الا بنفسه ولا يحترم كلمته ولا يقيم للآخرين وزنا ..؟ّ!
تصور حال الحياة مع هذه الاعداد البشرية الكثيرة والتي تملئ الامكنة المختلفة بالثرثرة , فأينما تولي وجهك تجد ثرثارا يمتلك طاقة ونفَسا طويلا للكلام , و يعاني من داء الكلام طوال الوقت، فلا يريح لسانه أبدا، ولا يتوانى عن تقديم النصائح لجميع المحيطين به ، بل ويعتبر نفسه موسوعة علمية وثقافية ، واجتماعية و سياسية، ودينية و فلسفية .. على الرغم أن معظم معلوماته خاطئة وهامشية وسطحية وعادية ؛ ولعل تداعيات التجربة الديمقراطية الجديدة والانعتاق من ظلمات الدكتاتورية الهجينة الصدامية عام 2003 والانفتاح على العالم والاطلاع على وسائل الاعلام والتواصل العديدة والمختلفة ؛ واضحة للعيان ولا تحتاج الى برهان , اذ تهافت الساسة ورجال الدين والاعلاميون وشيوخ العشائر والمواطنون ... على مواقع التواصل والاعلام ومنصات الاذاعات والفضائيات ومنابر الخطابة .. وقد ( شرقوا وغربوا ) و هرفوا بما لا يعرفوا , وتشدقوا بالكلام ؛ فأضحوا اضحوكة للمستمعين والمشاهدين والمتابعين ومادة للسخرية والاستهزاء للآخرين ؛ من غرورهم ونرجسيتهم او جهالتهم ووضاعة مسلكهم وترقيعهم واختلاط الاوراق لديهم وتشابه الامر عليهم ... الخ ؟! .
لك ان تتصور حال التجمعات والمجتمعات التي يبالغ فيها السياسي في تصريحاته وادعاءاته , ويكذب فيها الطبيب والمحامي والتاجر والمهندس والكاسب ورجل الدين ... , او يثرثروا بما لا يفقهوا , او يتكلموا بما لا يعرفوا او يدعوا ما ليس فيهم او يخطبوا في الناس بالجهل ...؟!
وقد جاء في التراث ما يشير الى هذه الظاهرة السلبية الخطيرة : ((إذا تحدث أحدكم فليقل خيرا أو ليصمت )) وهذا التحذير والتنبيه دليل على خطورة الكلام غير المنضبط ، وعلى ضرورة حفظ اللسان ، لأن الكثير من المشاكل تنجم عن عدم ضبط اللسان والثرثرة وكثرة الكلام .
ومما نسب الى الامام علي قوله :
وَزِنِ الكَلامَ إِذَا نَطَقْتَ وَلا تَكُنْ .. ثَرْثارَاً فِي كلِّ نادٍ تَخْطُبُ
واحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ .. فَالمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانِ وَيُعْطَبُ.
ومما جاء في التراث ايضا عن حكيم العراق الامام علي : (( لو سكت الجاهل ما اختلف الناس )) نعم لو سكت الجاهل والمريض بداء العظمة والنرجسية والثرثار والمبالغ والمغالي والمدعي والكذاب والمنافق والنمام والدجال ... واقلعوا عن الكلام ؛ لعشنا بسلام وما احتجنا للخطب الطنانة والشعارات الرنانة و( الجنجلوتيات والعنتريات ) والاشعار والقصائد و ( الهوسات ) والكلمات الباهتة والمفردات الميتة .
# رياض سعد